عاجل

ثقافة الخلاف …………………بقلم : فضيلة الشيخ محمد عيد كيلاني

أدب الاختلاف
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
فمما لا شك فيه أن الاختلاف بين البشر ظاهرة طبيعية ، وذلك لاختلاف عقولهم وأفهامهم وتعدد رغباتهم وأهوائهم ، مما يؤثر في تصورهم للأشياء ، ومن ثم حكمهم على الأمور ، فالناس مختلفون في أشكالهم وألوانهم، وأطوالهم وأجسامهم وعقولهم وأفهامهم وقوتهم وضعفهم، وفقرهم وغناهم… الخ .
الاختلاف سنة من سنن الله – تعالى – في خلقه:
والاختلاف سنة من سنن الله – تعالى – الكونية في خلقه ، كما صرّح بذلك القرآن الكريم في مواضع كثيرة ، منها : قوله تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253]. وقوله تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 118، 119]. وقوله تعالى :{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء : 82].
وكذلك الاختلاف سنة فطرية مرجعه تفاوت القدرة على الإدراك والاستيعاب والفهم ، ولو شاء الله لجعل كل الناس في مستوى فكرى واحد ، أو فهم عقلي واحد ، ولكن أراد الله – تعالى جلت قدرته وتعالت عظمته – أن يكون هذا التفاوت بين الناس دليلاً على عظمة القدرة الإلهية ، فقد خلق الله البشر مختلفين في الأشكال والأحجام والألوان والألسن ، يتضح ذلك من قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
وجدير بالذكر أن الاختلاف في العقول والأفهام يترتب عليه اختلاف في المواقف والآراء، وهذا أمر طبيعي، يقرره القرآن والعقل والتاريخ أيضاً ، فقد اختلف الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – في حياة النبي وبعد وفاته ، وكانت لهم مدارس مختلفة في الفقه، كما اختلف التابعون من بعدهم ، وكذا الفقهاء والأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة ، فليس غريباً أن يختلف الناس في أفكار هم ، وتصوراتهم ، ومعتقداتهم ، وعاداتهم وتقاليدهم ، ولكن الغريب حقاً محاولة البعض جعل الناس كلهم يؤمنون بفكر واحد، وثقافة واحدة ، ومعتقدات واحدة .
ولا يزال العلماء إلى كتابة هذه السطور يختلفون فيما بينهم في الكثير من مسائل الفقه والفكر والسياسة وغير ذلك من فنون العلم والمعرفة ، مما جعل الخلاف رحمة لهذه الأمة يناسب كافة مستويات البشر وقدراتهم، وهذا هو الأصل في الخلاف لا أن يكون سبباً للعداء والخصام ، والبغضاء والشحناء، وقديماً قيل: ” الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.. “.
حقيقة الاختلاف والفرق بينه وبين الخلاف:
يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله: “الاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله” أي من غير تنازع ولا شقاق. ولمَّا كان الاختلاف بين النَّاس في القول قد يقتضي التنازع، أُستُعير ذلك للمنازعة والمجادلة. قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} (مريم: 37) وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود:118)
أمَّا عن الخلاف فقال: “الخلاف: أعمّ من الضِّد لأنَّ كلَّ ضدَّين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضَّدان” (المفردات في غريب القرآن).
وقد أوضح أبو البقاء الكفوي رحمه الله الفرق بين الاختلاف والخلاف ، فقال: الاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفاً، والمقصود واحداً، والخلاف: هو أن يكون كلاهما ، أي الطريق والمقصود، مختلفاً.(الكليات لأبي البقاء الكفوي).
فالاختلاف : معناه : التباين في الرأي والمغايرة في الطرح ، يبينه قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب من بينهم } [مريم:37] ، وقوله تعالى :{ إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف} [الذاريات:8]. وقد يوحي بشيء من التكامل ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27].
ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة ، بل قد يدل على بداية الحوار . أما الخلاف فلا يوحي بشيء من التكامل ، بل قد يدل الخلاف على القطيعة ؛ فهو المضادة والمعارضة وعدم المماثلة ، أو هو المنازعة التي تكون بين المتعارضين ، فهو مصدر من خالف أي عارض ، يبينه قول الله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وعلى هذا يمكن القول بأن “الخلاف والاختلاف ” يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي، أو الحالة ، أو الهيئة ، أو الموقف.
إن الله – تبارك وتعالى – أراد لأمة الإسلام أن تكون أمة واحدة ، على أتقى قلب رجل واحد ، قال تعالى : {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] لكن يأبى أعداؤنا إلا أن يوقعوا بيننا العداوة والبغضاء ، من خلال النفث في نار الخلاف والتعصب للرأي وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فيكتوي أبناء الإسلام بنار هذا الخلاف الذي انتشر بينهم ، حتى أصبح يحيط بهم يمينا وشمالا .. شرقا وغربا .. طولاً وعرضاً .. وبين كل الفئات وعلى مختلف المستويات ، واستخدم أطراف الخلاف كل الأساليب بدءا من السباب والتشويه والشتائم ، بل وصل الأمر كما رأينا بعض المتحاورين على شاشات التليفزيون إلى التشابك بالأيدي بل قذف بعضهم الآخر بما تحت يده !!!
وتطور الخلاف بين المختلفين حتى وصل إلى الرّمي بالفسق والاتهام بالكفر .
والأخطر هو تطور الأمر إلى الأسوأ وهو الاقتتال واستباحة الدماء التي قال عنها النبي الكريم فِي خُطْبَتِهِ بِمِنًى: « إِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» (صحيح ابن حبان).
وقد أخبرنا النبي بما سيقع في أمته من بعده من كثرة الاختلاف في فروع الدين وفى الأعمال والأقوال والاعتقادات ، ففي سنن ابن ماجة من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ) قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : (الْجَمَاعَةُ ).
وقد أنبأ الرسول عن أنه ” من يعش بعده فسيرى اختلافا كثيرا ” ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ : صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلاَةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا ، قَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ. (رواه الحاكم في المستدرك).
وقد أحسن الصحابة – رضوان الله عليهم – الاقتداء بالنبي ، وعلينا أيضاً أن نحسن الإقتداء به لقوله : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى عضوا عليها النواجذ ) .
إن هؤلاء الأطهار اختلفوا مع رسول الله في بعض الآراء ، واختلفوا فيما بينهم وبعضهم البعض ، لكنه الاختلاف المحمود الذي يبغى الوصول إلى الحق وما ينفع الناس ، دون تعصب لرأى أو اتباع لهوى بتجرد كامل وتام .
انظر حين نزل الرسول يوم بدر بعيداً عن بئر الماء ، فيقترب منه الصحابي الجليل ” أبو ذر الغفاري ” ويقول : ” يا رسول الله: أرى أن يكون ماء بدر تحت أيدينا، فإذا كانت المعركة نشرب ولا يشربون ” ، وينزل الرسول على هذا الرأي الصائب حتى لا يقع بئر الماء تحت يدي العدو فيهلك المسلمون !!
إننا أمام مثال أكثر وضوحاً لنموذج من نماذج الاختلاف الراقية .. حين قال الرسول لأصحابه : ” لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ” واختلف الصحابة فيما بينهم ، فمنهم من خشي ضياع الوقت وخروجه وهو لم يصل بعد إلى بني قريظة فصلى العصر قبل أن يصل إلى بني قريظة !!
ومنهم من التزم تعليمات الرسول ولم يعبأ بخروج الوقت وأبى أن يصلي العصر إلا في بني قريظة فصلى بعد خروج الوقت !! ويعلم الرسول ما فعله أصحابه فيقر كلا على ما فعل .
لا بأس طالما الخلاف طيباً كريماً لم يؤد إلى فرقة أو تناحر ؛ لأن خروج الخلاف من دائرة كونه اختلافا في الرأي إلى التناحر والاقتتال منهي عنه ؛ لأن الخلاف شر !!
وهذا ما وضحه ابن مسعود حين اختلف مع أمير المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ، ولكنه لم يخالفه، بل أتم معه ، ولما قيل له: عتبت على عثمان ثم صليت خلفه أربعاً قال : (الخلاف شرّ). (سنن أبي داود).
وعندما اختلف الصَّحابة – رضوان الله عليهم – في عهد عمر بن الخطاب في وجوب الغسل إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ ، قال لهم عمر : (هَذَا وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ بَدْرٍ ، وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ ، فَمَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلاَفًا، فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِهَذَا مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ ، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ : لاَ عِلْمَ لِي بِهَذَا ، فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ : إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ، فَقَالَ عُمَرُ : لاَ أَسْمَعُ بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ ، إِلاَّ أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا)(مصنف ابن أبي شيبة ، أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ).
الإمام مالك بن أنس عالم المدينة المنورة اجتهد مدة أربعين عاماً في جمع أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الإسلام وهو كتاب ” الموطأ ” ووافقه عليه سبعون عالما من معاصريه ، ومع ذلك حين أراد الخليفة المنصور كتابة عدة نسخ منه وتوزيعه على الأمصار وحمل الناس على الفقه الذي فيه حسما للخلاف كان الإمام مالك أول الرافضين ، وقال : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الناس قد سبقت لهم الأقاويل وسمعوا أحاديث وأخذ كل قوم بما سبق إليهم .
وهذا هارون عندما عبد بنو إسرائيل العجل نهاهم عن ذلك وحذرهم وقال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (طه: 90)
فلمَّا رجع موسى عاتب هارون بسبب تأخُّره عنه ، حيث لم يلحقه فيخبره بما حدث ، فكان جواب هارون {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94) فاعتذر بعدم اللحاق به بأنَّه خشي فرقة بني إسرائيل، فحرص على وحدة قومه واجتماعهم على ما فيهم من منكر عظيم ( عبادة العجل ) إلى أن يرجع إليهم موسى فيحكم بينهم.
فالخلاف والتفرَّق من أشدَّ العوامل التي تسبِّب العداوة والبغضاء والتحزُّب، ولذلك جاء النهي عنهما والتحذير منهما في آيات وأحاديث كثيرة. قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13).
ومن أجمل ما قرأت عن تفاوت الأفهام بين البشر : ما كتبه فضيلة الإمام الأكبر – شيخ الجامع الأزهر الأسبق – الدكتور / عبد الحليم محمود – رحمه الله – حين كتب عن جماعة من الناس كانوا يجلسون في مجلس واحد وسمعوا كلمة غريبة على أذهانهم في وقت واحد ، قال قائل على مسامعهم كلمة ” سعتربرى ” فتساءلوا فيما بينهم عن الكلمة والمقصود بها ؟
فقال الأول : لقد سمعت من ينادى قائلا ” سعتربرى “
وقال الثاني : وأنا سمعت من يقول ” اسع ترى برى ”
وقال الثالث : وأنا سمعت من يقول ” الساعة ترى برى “
وقال الرابع : وأنا سمعت من يقول ” ما أوسع برى ”
إنها كلمة واحدة ، سمعها كل واحد منهم ففهم منها معنى مخالفا لما فهمه غيره ممن سمع نفس الكلمة .
وهذه كما ذكرنا حكمة كبرى ، أن تختلف المدارك وتتفاوت العقول والأفهام ، والمطلوب مع اختلاف المدارك وتفاوت الأفهام: ألا يخرج هذا الاختلاف عن دائرة الاعتدال ؛ لأن الإسلام نهانا عن الفرقة وحذرنا من الخلاف المذموم والتنازع ، وأنبأنا أن التنازع يؤدى إلى التناحر والاقتتال ، حيث يقول الله تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
آداب الحوار عند الاختلاف :
إن الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان ، إذ الإرادة بالضرورة تؤدي إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول : “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ، ولكن المذموم بغي بغضهم على بغض وعدوانه” ( إعلام الموقعين).
ومن هنا تأتي الحاجة إلى معرفة أدب الاختلاف والتعامل مع الرأي الآخر. ومن هذه الآداب التي ينبغي مراعاتها :
1- احترام الآخر : وهذه ليست مرتبطة بحالة الاختلاف فقط، إنما هي من حقوق المسلم على أخيه، ولكن تظهر أهميتها والحاجة إليها عند الاختلاف ، فلا بد لكل طرف أن يراعي الآخر في هذه الجهة ، وذلك باختيار الألفاظ المهذبة التي لا تجرح شعور الآخرين ولا تسيء إليهم؛ لأن القرآن أكد عليها بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ }[الحجرات: 11].
2- عدم سوء الظن بالآخر: فسوء الظن من أخطر الأمراض التي تسبب الخلاف والقرآن الكريم نهى عن هذا الخلق الذميم بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ، وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله : ( أن ضع أمر أخيك على أحسنه ، ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن يكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ).
3- قبول الرأي الآخر وإنصافه : وهذه تحتاج إلى الكثير من التنازل عن (الأنا) بحيث يفسح المجال للمحاور أن يقول رأيه ويعبر عنه، ويتعامل مع ذاته أو فكره وجهته بنوع من القداسة والتنزيه ، واعتباره عامل إثراء ، ويمكن الاستفادة منه في خلق حالة من التنافس الإيجابي بين أبناء المجتمع لتقديم كل ما هو أفضل من فكر ورأي لتطوير العمل والفكر ، والدفع نحو الأفضل.
4- البحث عن الحقيقة: فهي الغاية المنشود التي ينبغي أن يبحث عنها الإنسان ، فهي ضالة المؤمن يأخذها متى وجدها. فينبغي أن يقصد بالحوار الوصول إلى الحقيقة وتحري الصواب بعيداً عن التعصب للرأي،ـ والانقياد للآراء الفاسدة ، وأن يكون الوصول إلى الحقيقة ديدن الجميع وإن كانت تخالف مشاربهم ومسالكهم في الحياة.
وفى الختام لابد وأن ندرك جميعا أن الإسلام أمرنا بإحياء روح التسامح والأخوة ووحدة الصف ونبذ العصبية والخلاف ، لقوله : « لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا » .(السنن الصغير للبيهقي) ، ووجب علينا عند وجود أي خلاف أن نرده إلى كتاب الله وسنة رسوله لقوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [ الشورى : 10] .
أسأل الله العلي العظيم أن ينفع بهذه الكلمات ، وأن تجد آذاناً صاغية ، اللهم آمين ، وآخر دعوانا .. أن الحمد لله رب العالمين .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى