خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ريه ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ 23 صفر 1445هـ ، الموافق 8 سبتمبر 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه ، للدكتور محروس حفظي :
(1) حالُ النبيِّ ﷺ مع ربِّهِ – عزَّ وجلَّ – قبلَ البعثةِ.
(2) حالُ النبيِّ ﷺ مع ربِّهِ – عزَّ وجلَّ – بعدَ إرسالهِ إلى الخلقِ.
(3) ثناءُ الرسولِ ﷺ على ربِّهِ – عزَّ وجلَّ -.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023 م بعنوان : حال النبي (صلى الله عليه وسلم) مع ربه ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبة بعنوان: «حالُ النبيِّ ﷺ مع ربِّهِ»
بتاريخ 23 صفر 1445 هـ = الموافق 8 سبتمبر 2023 م
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ ، أمَّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023م :
(1) حالُ النبيِّ ﷺ مع ربِّهِ – عزَّ وجلَّ – قبلَ البعثةِ:
كان قبلَ أنْ يُبعثَ يَمكُثُ في غارِ حِراءٍ الليالِيَ ذواتَ العددِ، مستغرقًا في عبادةِ خالقِهِ، ويَملأُ جوانبَ نفسِهِ بالضراعةِ إليهِ وتصفُ حالَهُ السيدةُ عائشةُ رضي اللهُ عنه فتقولُ: «… ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ» (مسلم)، ومع أنَّ هذا الاختلاءُ كان يُريحُ نفسَ الرسولِ ﷺ مِن الواقعِ البغيضِ الذي كانتْ تعيشُهُ مكة، فإنَّهُ ﷺ لم يكنْ يفعلُ ذلك طوالَ السنةِ، إنَّما كان يفعلُهُ في أوقاتٍ معينةٍ، وكما تقولُ الرواياتُ أنَّهُ كان يختلِي بنفسِهِ شهرًا في السنةِ، وهو شهرُ رمضانَ.
ونحن في مراحلِنَا الإيمانيةَ قد نمرُّ بمثلِ هذا، فقد نفعلُ عبادةً ما كالصلاةِ أو الصيامِ أو النفقةِ أو العمرةِ فقط لأنَّ اللهَ أمرَنَا بها، فهي بالنسبةِ إلينَا كواجبٍ يتحتَّمُ علينَا فعلُهُ، ولكنَّنَا قد ننتقلُ إلى مرحلةٍ إيمانيةٍ أُخرى نشعرُ فيها بالحبِّ الشديدِ لهذه العبادةِ، حتى إنَّنَا ننتظرُ وقتَهَا بفارغِ الصبرِ، مع الأخذِ في الاعتبارِ أنَّ هذا الحبَّ كان مخالفًا لأعرافِ الناسِ وطبيعتِهِم، فلم يكنْ هناك مَنْ يفعلُ ذلك مِن أهلِ مكةَ في زمنِ رسولِ اللهِ ﷺ، خاصةً وأنَّ المكانَ الذي اختارَهُ موحشٌ وقفرٌ ومخيفٌ، وقد اشتُهِرَ في العربِ أمرُ الجنِّ والشياطين، فكانت هذه الأماكنُ البعيدةُ أماكنَ مرعبةً لكلِّ أهلِ مكةَ بشكلٍ عام، هذا بالإضافةِ إلى أنَّ الباحثَ عن الحقيقةِ لا يذهبُ عادةً إلى مثلِ هذه الأماكنِ، بل يذهبُ إلى أهلِ العلمِ، ولكن هذا لم يحدثْ مع رسولِنَا ﷺ، فلم يذهبْ إلى ورقةَ بنِ نوفل، أو زيدٍ بنِ عمرٍو، أو غيرِهِم مِمّن يتكلمونَ في أمورِ العبوديةِ للهِ، فكلُّ هذا يُبَيِّنُ أنَّ رسولُنَا ﷺ عندمَا ذهبَ إلى غارِ حراءٍ ذهبَ ليعتكفَ مخالفًا بذلك طرقَ الناسِ وأعرافَهُم، وهذا الذي تحملُهُ كلمةُ عائشةَ رضي اللهُ عنها: “حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ” أي أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حَبَّبَ إليهِ أمرًا لا يحبُّهُ الناسُ في المعتادِ، فكان ﷺ يذهبُ إلى الغارِ يتفكَّرُ في خالقِ هذا الكونِ، لكنه لم يكنْ يعرفُ على وجهِ الحقيقةِ كيف يعبدُهُ، ولا على أيِّ شريعةٍ، خاصةً وأنَّ شريعةَ إبراهيمَ – عليه السلام- الصحيحةَ كانت قد اندثرتْ في معظمِهَا عبرَ السنين، قالَ ربُّنَا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وهو بذلك ﷺ يفتحُ بابًا مهمًّا للدعاةِ لكي يحافظوا على نقاءِ نفوسِهِم دونَ أنْ يُخِلُّوا بمهمَّتِهِم؛ فهُم يختلطونَ بالناسِ ليدعوهُم ويعلموهُم ويأخذُوا بأيديهِم، وقد قال رسولُنَا ﷺ: “المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ” (الترمذي)، ولكن في الوقتِ ذاتِه ينبغِي للدعاةِ أنْ يكونُوا حريصين على الاختلاءِ بأنفسِهِم، ولو أيامًا معدودةً في السنةِ كي يُعيدُوا ترتيبَ أوراقِ حياتهِم، وينظرُوا في أمورِ أنفسِهِم، ويُصلحُوا مِن أحوالِهِم حتى تكونَ لهم الإعانةُ بعد ذلك على إصلاحِ بعضِ أحوالِ البشرِ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023م :
(2) حالُ النبيِّ ﷺ مع ربِّه – عزَّ وجلَّ – بعدَ إرسالِهِ إلى الخلقِ:
لَمَّا جاءَهُ الحقُّ واختارَهُ ربُّهُ رسولًا إلى الناسِ كافةً كان ﷺ أشدَّ عبادِ اللهِ خشيةً لربِّهِ، وأعظمَهُم رجاءً فيهِ، وأكثرَهُم حبًّا لهُ، وكانت أحبُّ الأوقاتِ إليهِ، تلك الساعاتِ التي يعتزلُ فيها الناسَ؛ ليَأْنَسَ بمناجاةِ خالقِ الكونِ، ومُبدِعِ الوجودِ، وكانت أعظمُ ما تَسعدُ به نفسُه، تلك الساعاتِ الطويلةَ التي يَقضيهَا يُسبِّحُ بحمدِ ربِّهِ، ويَذكرُ آلاءَهُ، ويُلِحُّ عليهِ في الرجاءِ، وبعدَ أنْ فُرِضتْ الصلاةُ، كان يأنَسُ إليهَا أُنسَ الرضيعِ إلى صدرِ أمِّه، ويَشتاقُ قلبُهُ إلى وقتِهَا شوقَ الظمآنِ إلى الماءِ، فيها سَلوتُه، وفيها مَسرَّتُه، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (أحمد)، وكان يبكِي في الصلاةِ مِن شدةِ خشوعِه فيها، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ» (أحمد)، و “المِرجَل”: القدرُ إذا استجمعَ غليانًا.
ويروِي لنَا حذيفةُ حالَ النبيِّ ﷺ في صلاتِهِ فيقولُ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقُلْتُ يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَمَضَى، فَقُلْتُ يَخْتِمُهَا ثُمَّ يَرْكَعُ، فَمَضَى حَتَّى قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ، وَآلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، فَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، لا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ وَتَعْظِيمٌ إِلا ذَكَرَهُ» (ابن حبان)، فالحديثُ يجسدُ لنَا مدَى شغفِ الرسولِ ﷺ بالصلاةِ والوقوفِ بينَ يدي اللهِ تعالى .
ولقد بلَغ به الأدبُ مع ربِّه أنَّه كان يظَلُّ صائمًا طاويًا، مواصلًا الصيامَ؛ لأنَّ فيه قربًا مِن العلِيِّ الأعلَى، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» (مسلم)، وكان يؤثرُ الصيامَ في السفرِ على الفطرِ في حقِّ نفسِه ﷺ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ» (مسلم) .
وكان ﷺ يواظبُ على قيامِ الليلِ والتبتُّلِ، مواظبةً أفرَغتْ في قلوبِ المسلمينَ إيمانًا بهِ وحبًّا لهُ، وتفانيًا في نُصرتِه، وتحققًا مِن صِدقِ قولِهِ، وفي ذلك يقولُ ابنُ رَواحةَ:
وفينا رسولُ الله يَتلو كتابَهُ … إذا انشقَّ معروفٌ مِن الفجْر ساطعُ
أرانا الهُدى بعدَ العَمى فقلوبُنَا … به مؤمناتٌ أنَّ ما قال واقعُ
يَبيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عن فراشِهِ … إذا استَثْقَلتْ بالمشركينَ المَضاجعُ
وقال ربُّنَا آمرًا إيَّاهُ ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾، ومِن كثرةِ وجلِهِ وقيامِهِ كثرَ الشيبُ عندَهُ ﷺ قبلَ أوانِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، قَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» (الترمذي وحسنه) .
يقولُ الإمامُ الطيبي: “قال العلماءُ: لعلَّ ذلك لِمَا فيهنَّ مِن التخويفِ الفظيعِ، والوعيدِ الشديدِ؛ لاشتمالِهِنَّ مع قصرِهِنَّ على حكايةِ أهوالِ الآخرةِ وعجائِبِهَا وفظائِعِهَا، وأحوالِ الهالكين والمعذَّبِين مع ما في بعضِهِنَّ مِن الأمرِ بالاستقامةِ” أ.ه.
لقد خُيِّلَ إلى بعضِ الصحابةِ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ بعدَ أنْ أجزَلَ لهُ ربُّهُ في العطاءِ، حتى غفَرَ لهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِه وما تأخَّر، وبعدَ أنْ نصَرَهُ، نصرًا عزيزًا، وفتَحَ لهُ فتحًا مبينًا- خُيِّلَ إلى هذا البعضِ أنَّهُ ﷺ بعدَ أنْ بلَغَ تلك المنزلةَ، سيُسَلِّمُ نفسَهُ إلى شيءٍ مِن الدَّعةِ، ويَخلدُ إلى قليلٍ مِن الراحةِ، ولكنَّهُ -عليه السلامُ- يَغرقُ في العبادةِ، ويُكثرُ مِن الخَلوةِ، ويُبالغُ في التهجُّدِ، فيَعجبُ لذلك هؤلاء الأصحابُ، ويسألونَ عن السرِّ فيهِ كمَا وردَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (مسلم) .
أرأيتَ أيُّها الأخُ الكريمُ هذا الأدبَ النبويَّ البالغَ إنّه ليس مُستغرَبًا مِن هذا الرسولِ الكريمِ؛ لأنَّ اللهَ قد ملأَ صدرَهُ حكمةً وإيمانًا، فكانَ ﷺ كثيرًا ما تَفيضُ عيناهُ دمعًا، حين يجدُ أنَّ لسانَهُ وعملَهُ لا يَفِيَانِ بالتعبيرِ عن شكرِ اللهِ على ما أنعَمَ بهِ عليهِ، فعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: «نَعَمْ» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» (البخاري) .
لقد كان حالُهُ ﷺ مع ربِّهِ مثلًا بليغًا في الرضَا بقضائِهِ، والشكرِ على نَعمائِه، والصبرِ على بلائِه، والتسبيحِ بحمدِه والإخلاصِ في دعائِه، والصدقِ في العبوديةِ له، والحياءِ مِن جلالِه حتى استحقَّ مِن ربِّه مقامًا محمودًا، وثناءً كريمًا قالَ ربُّنَا: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؛ ولذا استحقَّ مقامَ العبوديةِ وهو أشرفُ المقاماتِ فمدَحَهُ اللهُ بهِ فقالَ:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ .
تابع / خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023م :
أيُّها الأحبابُ: ظهرً لنَا بجلاءٍ أنَّ حالَ النبيِّ ﷺ كان يرتكزُ على الخشيةِ منهُ، ومداومةِ البكاءِ قَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ: «أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ: يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾» (ابن حبان) .
إنَّ الخوفَ مِن اللهِ حالُ الأنبياءِ والمرسلين، وصفةُ الصالحين، ودليلُ تعظيمِ ربِّ العالمين يقولُ أبو سليمان الدارانِي: “ما فارقَ الخوفُ قلبًا إلّا خَرِب”؛ وقد وصفَ ربُّنَا أنبياءَهُ بعدَ أنْ أثنَى عليهِم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، ولذا كان مِن هَدْيه ﷺ التفاعل مع الآياتِ الكونيةِ بالخوفِ مِن اللهِ، فعن عائشة قالت: “مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا، حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَى النَّاسَ، إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾” (مسلم) .
يقولُ الإمامُ النوويُّ: “في الحديثِ الاستعدادُ بالمراقبةِ للهِ، والالتجاءُ إليهِ عندَ اختلافِ الأحوالِ وحدوثِ ما يخافُ بسببهِ، وكان خوفُهُ ﷺ أنْ يعاقبُوا بعصيانِ العصاةِ، وفيهِ تذكرُ ما يذهلُ المرءُ عنهُ مِمّا وقعَ للأممِ الخاليةِ والتحذيرِ مِن السيرِ في سبيلِهِم خشيةً مِن وقوعِ مثل ما أصابَهُم” أ.ه.
لقد اختلطَ الأمرُ على بعضِ الصحابةِ، فظنُّوا أنَّ مِن الأدبِ مع البارئِ -عزَّ وجلَّ- أنْ يَنقطعَ الإنسانُ إلى العبادةِ، وأنْ يتركَ الدنيا إلى الآخرةِ، ولكنَّهُ ﷺ ردَّهُم إلى الصوابِ، وبيَّنَ لهُم- في جَلاءٍ لا يَقبل التأويلَ- أنَّ خشيةَ اللهِ لا تَستلزمُ الانقطاعَ عن الدنيا، فعن أَنَسٍ قال: «جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (البخاري) .
إنَّ نبيَّنَا ﷺ كان مع خالقِه – عزَّ وجلَّ – في كلِّ لحظةٍ وحركةٍ وسكنةٍ حتى إنَّ زهدَهُ في الدنيا وصبرَهُ على معيشتِهِ لتذكرُهُ باللهِ – سبحانَهُ – فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَ بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَذَكَرْتُكَ” (شعب الإيمان).
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 8 سبتمبر 2023م :
(3) ثناءُ الرسولِ ﷺ على ربِّهِ – عزَّ وجلَّ -:
لقد كان ﷺ يكثرُ مِن الثناءِ على ربِّهِ – سبحانه – في كلِّ مناسبةٍ، ولمَّا كان أهلُ الجاهليةِ يفتتحونَ خطبَهُم بذكرِ مآثرِهِم أو مآثرِ آبائِهِم وقبائِلِهم، كان النبيُّ ﷺ لا يخطبُ خطبةً إلّا افتتحَهَا بحمدِ اللهِ والثناءِ عليهِ أدبًا مع اللهِ تعالى أنْ يُذكَرَ شيءٌ قبلَ اسمهِ سبحانَه، أو يُثنِى على أحدٍ مِن خلقِهِ قبلَهُ عزَّ وجلَّ قالَ جَابِرُ: “كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ…” (مسلم)، وحتى في حالِ المصيبةِ يتأدبُ مع اللهِ ويُثنِي عليهِ؛ إعلانًا برضاهُ عنه، ولَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ ﷺ لأصحابِهِ:”اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا…” ثم أخذَ يُثنِي ثناءً طويلًا على اللهِ تعالَى (أحمد) .
لقد استعاذَ ﷺ باللهِ تعالى وسألَهُ أنْ يجيرَهُ برضاهُ مِن سخطِه، وبمعافاتِه مِن عقوبتِه، والاستغفارِ مِن التقصيرِ في بلوغِ الواجبِ مِن حقِّ عبادتِه، والثناءِ عليهِ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (مسلم) .
أيُّها الأخوةُ الأحبابُ: عاشَ نبيُّنَا ﷺ حياتَهُ شاكرًا للهِ تعالى، حامدًا له، راضيًا عنه، مبلغًا دينَهُ، صابرًا على الأذَى فيه، قانعًا مِن الدنيا بالقليلِ؛ رغبةً في اللهِ وفيمَا عندَهُ، وكان ﷺ أعبدَ الناسِ لمولاه، وقد أمرَ بمواصلةِ العبادةِ حتى ينتهِي الأجلُ المحتومُ قالَ ربُّنَا: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾، فأينَ نحنُ مِن هذا كلِّهِ؟!
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ يوفقَ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف