خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: “مال الوقف ودوره في التكافل الاجتماعي”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ25 صفر 1438هـ – 25 نوفمبر 2016م

خطبة بعنوان: “مال الوقف ودوره في التكافل الاجتماعي“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ25 صفر 1438هـ – 25 نوفمبر 2016م.

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: منزلة الوقف وأهميته في الإسلام

العنصر الثاني: صور ونماذج مشرقة للوقف عند السلف الصالح

العنصر الثالث: حرمة الاعتداء على مال الوقف

العنصر الرابع: دور الوقف في تحقيق التكافل الاجتماعي

     المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: منزلة الوقف وأهميته في الإسلام

عباد الله: للوقف منزلة كبيرة في الإسلام؛ وهو أحد الأسباب التي تكون طريقا لزيادة الحسنات وتكثير الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة في حياة الفرد وبعد مماته ، وقد غفل عنه كثير من الناس في عصرنا الحاضر وانشغلوا في أمور الحياة والتكاثر في الأموال.

والوقف: هو حبس أصل المال، وتسبيل منافعه، طلباً للثواب من الله عز وجل.

والوقف الشرعي الصحيح هو ما كان على جهة بر من قريب، أو فقير، أو جهة خيرية نافعة، فهو صدقة جارية دائمة. قال القرطبي: ” إن المسألة إجماع من الصحابة ، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم أوقفوا الأوقاف “.(تفسير القرطبي)؛ ويقول الإمام أحمد -رحمه الله -: « قد وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوفهم بالمدينة ظاهرة، فمن رد الوقف فإنما رد السنة » ( الزركشي : شرح مختصر الخرقي).

ولأهمية الوقف في حياة الأمة أجازه الشارع الحكيم من الكافر لأن نفعه يعود بالخير على الأمة كلها، لكن الكافر يثاب على صدقاته في الدنيا، ولا حظ له من الثواب في الآخرة. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ؛ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا فِي الدُّنْيَا؛ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».( مسلم).

أيها المسلمون: إن الوقف من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ورغَّب فيها رسوله؛ لأنه صدقة دائمة ثابتة في وجوه البر والإحسان؛ وهو من أجلِّ وأعظم أعمال القُرب التي لا تنقطع بعد الموت. فَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». ( مسلم). ” قال العلماء : معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته ، وينقطع تجدد الجواب له ، إلا في هذه الأشياء الثلاثة ؛ لكونه كان سببها ؛ فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف “.(شرح النووي على مسلم). ؛ وهناك صور أخرى عديدة للوقف ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم- فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ؛ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ؛ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ؛ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ؛ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ؛ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ؛ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ”.( ابن ماجه بإسناد حسن واللفظ له وابن خزيمة والبيهقي)؛ وقد وردت خصال أخرى بالإضافة إلى هذه نظمها الإمام السيوطي فقال:

إذا مات ابن آدم ليس يجزى……………..عليـه من فعـال غير عشر

علوم بثـها ودعاء نـجل………………وغرس النخل والصدقات تجري

وراثة مصحف ورباط ثغر………………..وحفر البئر أو إجـراء نـهر

وبيت للغريب بناه يـأوي……………….إليـه أو بـناء مـحل ذكر

ويدخل في الوقف كل ما فيه نفع للمسلمين في جميع مجالات الحياة ولا سيما حاجاتهم الضرورية؛ وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال والظروف والشدائد؛ فإذا كان الإنسان في بلد يموت فيه الناس من الجوع والعطش فالأفضل الوقف على إنقاذ الأنفس من الموت والجوع والعطش، والصدقة على القريب الفقير أفضل؛ لأنها صدقة وصلة؛ وإذا كان الإنسان في بلد فيه الأرزاق متيسرة، والناس محتاجون إلى العلم، فبناء المساجد ودور العلم أفضل وأعظم ثواباً.. وهكذا.

أحبتي في الله: لقد رفع الإسلام شأن كل من أوقف وقفا للمسلمين؛ وذلك بأن كل من انتفع بهذا الوقف فهو في ميزان حسناته إلى يوم القيامة؛ فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ؛ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ” (مسلم)؛ يقول الإمام النووي:” هذا الحديث من قواعد الإسلام ، وهو : أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة ، ومثله من ابتدع شيئا من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة.” ( شرح النووي). ويقول الإمام الهيتمي: ” بشرى عظيمة لمن نسخ علما نافعا ، وهي أنه يكون له أجره وأجر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به ، وإنذار عظيم لمن نسخ علما فيه إثم وهو أن عليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به بعده ما بقي خطه والعمل به”.( الزواجر عن اقتراف الكبائر )

أيها المسلمون: ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أوقف في سبيل الله ولكن كل صور الوقف لم تنقل عنهم وما نقل أقل مما لم ينقل كما في العنصر الثاني إن شاء الله تعالى؛ قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِلا حَبَسَ مَالا مِنْ صَدَقَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لا تُشْتَرَى أَبَدًا وَلا تُوهَبُ وَلا تُورثُ” (أخرجه الخصاف في أحكام الأوقاف). وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية الوقف ومنزلته في الإسلام .

العنصر الثاني: صور ونماذج مشرقة للوقف عند السلف الصالح

عباد الله: هناك صور ونماذج كثيرة للوقف في حياة الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم منها:-

– وقف المسجد لربط الصلة بين العبد ربه: فعَنْ أنَسِ قالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، وَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا». قَالُوا: لا وَالله، لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى الله. (متفق عليه).

– ومنها وقف عمر أرض خيبر:  فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أرْضاً، فَأتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أصَبْتُ أرْضاً، لَمْ أصِبْ مالاً قَطُّ أنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا». فَتَصَدَّقَ عُمَرُ: أنَّهُ لا يُبَاعُ أصْلُهَا، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، فِي الفُقَرَاءِ، وَالقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ الله، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ». (متفق عليه). قال النووي – رحمه الله- : ” في هذا الحديث : دليل على صحة أصل الوقف ، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية ، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ، ويدل عليه أيضا إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات . وفيه : أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، إنما يتبع فيه شرط الواقف . وفيه : صحة شروط الواقف . وفيه فضيلة الوقف ، وهي الصدقة الجارية ، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب . وفيه : فضيلة ظاهرة لعمر – رضي الله عنه – ؛ وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم .” .( شرح النووي)

– ومنها: وقف أبي طلحة الأنصاري حائطه كله: فعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأَنْصار بِالمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أحَبُّ أمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قال أنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الايَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. قَامَ أبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقال: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وَإِنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ؟، أرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيْثُ أرَاكَ اللهُ. قال: فَقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ». فَقال أبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُولَ الله، فَقَسَمَهَا أبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. (متفق عليه). يقول الإمام ابن حجر: ” استدل به على مشروعية الحبس والوقف ، وفيه زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة خلافا لمن قيدها به ، وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوب صلى الله عليه وسلم رأيه وشكر عن ربه فعله ، ثم أمره أن يخص بها أهله ، وكنى عن رضاه بذلك بقوله : ” بخ ” . وفيه أن الوقف يتم بقول الواقف جعلت هذا وقفا .” (فتح الباري) 

– ومنها: وقف أبي الدحداح الأنصاري حائطه كله: وذلك لما نزل قول الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245] ؛ قال للرسول – صلى الله عليه وسلم -: وإنّ الله ليريد منَّا القرض؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله النبي – صلى الله عليه وسلم – يده، فقال أبو الدحداح: إني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي (أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة) وأم الدحداح فيه وعيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط: يعني: أخرجي من البستان فقد أقرضته ربي عز وجل. وفي رواية: أن امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج التمر من أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم. تريد بفعلها هذا الأجر كاملاً غير منقوص من الله. لذلك كانت النتيجة لهذه المسارعة أن قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “كم من عذقٍ رداح (أي: مثمر وممتلئ) في الجنة لأبي الدحداح” [أحمد والطبراني].

– ومنها : وقف سعد بن عبادة حائطه: فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا :” أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تُوُفِّيَتْ أمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمِّي تُوُفِّيَتْ وَأنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا”. (البخاري). ” والمخراف : المكان المثمر ، سمي بذلك لما يخرف منه أي يجني من الثمرة”.(فتح الباري)

– ومنها وقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة: ” فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة ؟ قال: فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين؛ وكان اليهودي يبيع ماءها . وفي الحديث أن عثمان رضي الله عنه اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ؛ ثم قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها يوما وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا ؛ فاختار يوما ويوما ؛ فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين ؛ فقال اليهودي: أفسدت عليَّ بئري فاشتر باقيها ؛ فاشتراه بثمانية آلاف ” ( زاد المعاد لابن القيم ).

– ومنها: وقف على – رضي الله عنه- أقطاع ينبع: ” فقد روى أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- أقطع عليًا ينبع، ثم اشترى علىٌّ إلى قطيعة عمر أشياء فحفر فيها عينًا، فبينما هم يعملون فيها إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء؛ فأتى على وبشر؛ فتصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله ليوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ليصرف الله تعالى بها وجهه عن النار ويصرف النار عن وجهه، وكتب علىٌّ في صدقته: هذا ما أمر به على بن أبي طالب وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذنية وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغى مرضاة الله، ينفق منها في كل منفعة في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود وذوى الرحم القريب والبعيد، لا يباع ولا يوهب ولا يورث حيًا أنا أو ميتًا، أبتغى بذلك وجه الله والدار الآخرة، ولا أبتغى إلا الله عز وجل، فإنه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بينى وبين الله عز وجل”. ( البيهقي في الشعب ؛ وابن حزم في المحلى؛ وعبدالرزاق في مصنفه)

أيها المسلمون: هذا غيضٌ مِن فيض من صور ونماذج الوقف عند سلفنا الصالح، وما أغفلناه أكثر ممَّا ذكرناه، ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!!!

العنصر الثالث: حرمة الاعتداء على مال الوقف

عباد الله: إن مال الوقف له حرمة كبيرة عند الله؛ لأنه مال الله وموقوف من أجل الله؛ فمن أكله فقد أكل باطلا وحراما؛ قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ” [النِّسَاء: 29]، لذلك شدد النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في خُطبته يومَ النَّحْر في حجَّة الوداع على حرمة الأموال ومنها مال الوقف فقال: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ”( متفق عليه )

وإذا كان الإسلام جعل لمال الإنسان الخاص حرمة وقداسة، فإنه لم يغفل عن حرمة المال العام، بل أعلى من شأن هذه الحرمة فجعلها أشد حرمة من المال الخاص، وعني عنايةً عظيمة بالمحافظة على أموال المسلمين، وأمَرَ بصيانتها، وحرَّم التعدي عليها، ولو كان شيئاً يسيراً، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عدى بن عميرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا (خيانة وسرقة) يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.

لذلك كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَه، مبيِّنًا لهم خُطورة الغُلُول والسرقة من الغنيمة ومن مال الوقف، والتي تُعَدُّ بمثابة المال العام الذي يَنبغي أن يُحفَظَ من قِبَل أفراده، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ” قام فينا النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَ أمرَه، قال: ” لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك”

أحبتي في الله: علينا أن نتورع عن مال الوقف ولا نجعله نهما للطامعين أو كلأً مباحاً للسائمين؛ ولنا القدوة في سلفنا الصالح وتورعهم عن المال العام عامة ومال الوقف خاصة؛ فانظروا إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومدى حاجته للمال العام ومدى ورعه فيه، فقد مرض يومًا، فوصفوا له العسل كدواء، وكان بيت المال به عسلًا، جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو علي حرم. فبكى الناس إشفاقًا عليه، وأذنوا له جميعًا، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر، لقد أتعبت الخلفاء بعدك!!

وهذا عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين وكان الوقت ليلاً، وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر: انتظر، فأطفأ الشمعة وقال له: الآن اسأل ما بدا لك، فتعجب الوالي وقال: يا أمير المؤمنين لم أطفأت الشمعة؟ فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟!

فالمال العام أعظم خطراً من المال الخاص الذي يمتلكه أفراد أو هيئات محددة، ذلك لأن المال العام ملك الأمة وهو ما اصطلح الناس على تسميته ” مال الدولة ” أو ” مال الوقف “، ويدخل فيه: الأرض التي لا يمتلكها الأشخاص، والمرافق، والمعاهد والمدارس، والمستشفيات، والجامعات غير الخاصة، .. ، وكل هذا مال عام يجب المحافظة عليه، ومن هنا تأتي خطورة هذا المال، فالسارق له سارق للأمة لا لفرد بعينه، فإذا كان سارق فرد محدد مجرماً تقطع يده إن كان المسروق من حرز وبلغ ربع دينار فصاعداً، فكيف بمن يسرق الأمة ويبدد ثرواتها أو ينهبها ؟! كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة ؟!

أيها المسلمون : اتقوا الله ولا تبددوا أموال الوقف ولا تستحلوها لأنفسكم؛ ومن كان تحت يده شيء من ذلك فليبادر بتسليمها أو استبدالها؛ لأنه بذلك يمسك قطعة من الجمر سوف تقوده إلي نار جهنم والعياذ بالله؛ لأن هذا المال مال الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى واللقطاء وأموال أصحابها الموقوفة عليهم؛ وأموال الغير لا تستحل لك بغير وجه حق؛ وهو أكل لأموال الناس بالباطل وأكل لأموال اليتامى ظلماً:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(النساء:10).

العنصر الرابع: دور الوقف في تحقيق التكافل الاجتماعي

عباد الله: للوقف دور كبير في تحقيق التكافل الاجتماعي؛ فهو مصدر تمويل دائم يحقق مصالح خاصة ومنافع عامة؛ ويمكن وصف الوقف أنه وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد؛ ويظهر دور الوقف في تحقيق التكافل الاجتماعي من خلال النقاط التالية:

– أن الوقف مصدر دائم ومستمر للفقراء والمساكين وذوي الحاجات: فهو يدر دخلا ما دامت عينه موجودة؛ ولا ينفد بموجب إنفاقه في مصلحة أو مهمة كالصدقات؛ ولهذا حث عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول الدهلوي : ” إن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ، وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى أصله “. (حجة الله البالغة)

– أن الوقف خير ورحمة للحي والميت على السواء: فأما الحي فينتشر التعاون والتكافل والتراحم بين أفراد المجتمع؛ ويحصل الاكتفاء الذاتي للفقراء والمعدمين؛ وأما الميت فإن عداد الحسنات يَعُدُّ له وهو في قبره ما دامت العين الموقوفة موجودة؛ ” فعن زيد بن ثابت – رضي الله عنه- أنه قال :  لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة؛ أما الميت فيجري أجرها عليه وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها”. ( الإسعاف في أحكام الأوقاف)

 وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ؛ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “. (البخاري). أي أن كل خدمة للفرس حتى الروث والطعام والشراب في ميزان حسنات صاحبه يوم القيامة؛ ويقاس عليه كل ما فيه مصلحة ومنفعة للمسلمين من المنقولات وغيرها ؛ مع وجوب الإخلاص فيها حتى تقبل عند الله تعالى. ( قال المهلب وغيره : في هذا الحديث جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين ويستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات ومن غير المنقولات من باب الأولى . وفيه أن المرء يؤجر بنيته كما يؤجر العامل؛ وأنه لا بأس بذكر الشيء المستقذر بلفظه للحاجة لذلك . وقال ابن أبي جمرة : يستفاد من هذا الحديث أن هذه الحسنات تقبل من صاحبها لتنصيص الشارع على أنها في ميزانه بخلاف غيرها فقد لا تقبل فلا تدخل الميزان؛ وروى ابن ماجه من حديث تميم الداري مرفوعا ” من ارتبط فرسا في سبيل الله ثم عالج علفه بيده كان له بكل حبة حسنة ” ).( انظر فتح الباري)

– أن الوقف يشترك في النفع به الغني والفقير والصغير والكبير والشريف والوضيع: وفي ذلك عوامل أخلاقية وإنسانية لمراعاة شعور الفقير؛ حيث إنه يجد نفسه هو والغني سواء في هذا النفع؛ ولذلك شرعت زكاة الفطر على الفقير ليشعر بذاته وكيانه أن يمد يده في هذا اليوم معطيا لا آخذا ؛ وشرع للغني أن يأكل من الأضحية كالفقير تماما ؛ وكل هذه المبادئ تشير إلى مراعاة الإسلام لشعور الفقراء حتى لا يقعوا في الحرج؛ وهذا التعاون والتشارك والتكافل يجعل الأفراد كلهم كالفرد الواحد وكالجسد الواحد؛ تسعد الأعضاء كلها بسعادته وتحزن لحزنه، فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”.(مسلم).

– أن الوقف يعمل على تحقيق مبدأ التكافل بين الأمة المسلمة وإيجاد التوازن في المجتمع: فإن الله – سبحانه وتعالى- جعل الناس مختلفين في الصفات متباينين في الطاقة والقدرة ، والوقف عامل من عوامل تنظيم الحياة بمنهج حميد يرفع من مكانة الفقير ويقوي الضعيف ، ويعين العاجز ، ويحفظ حياة المعدم ، من غير مضرة بالغني ولا ظلم يلحق بالقوي ، وإنما يحفظ لكل حقه بغاية الحكمة والعدل ، فتحصل بذلك المودة وتسود الأخوة ويعم الاستقرار ، وتتيسر سبل التعاون والتعايش بنفوس راضية مطمئنة .

   الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،،                     

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

     د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى