خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: “منزلة العلم وأثره في نهضة الأمة”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 13 محرم 1438هـ – 14 أكتوبر 2016م

خطبة بعنوان: “منزلة العلم وأثره في نهضة الأمة”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 13 محرم 1438هـ – 14 أكتوبر 2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:  

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: منزلة العلم والحث عليه في الإسلام

العنصر الثاني: صور ونماذج مشرقة في حرص السلف الصالح على طلب العلم

العنصر الثالث: أثر العلم في نهضة الأمة

العنصر الرابع: ظاهرة الغش في التعليم وأثرها على المجتمع

     المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: منزلة العلم والحث عليه في الإسلام

عباد الله: لقد اهتم الإسلام بقيمة العلم أيما اهتمام، ولقد بلغت عناية الله – عز وجل – بنا لرفع الجهل عنّا أن كان أول ما نزل من الوحي على نبينا أعظم كلمة هبط بها جبريل هي قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(العلق:1) ؛ وأمرُ الله عز وجل بالقراءة والعلم في أول آية نزلت من القرآن دليل واضح على أهمية العلم في تكوين عقل الإنسان وفي رفعه إلى المكانة السامية، فلا يستوي عند الله الذي يعلم والذي لا يعلم، فأهل العلم لهم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فهم من ورثة الأنبياء والمرسلين، يقول الله تبارك تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9) ، فلا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، فالعلم نور يهتدي به صاحبه إلى الطريق السوي، ويخرج به من الظلمات إلى النور.

ويرفع الله الذي يطلب العلم والذي يعمل به كما يشاء، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) أي يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم درجات أي على من سواهم في الجنة. قال القرطبي: “أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم” وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.”أ.هـ

ولشرف العلم أباح الله لنا أكل الصيد الذي صاده الكلب المعلم، وإذا صاده كلب غير معلم لا يؤكل:{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلولا فضل العلم لكان فضل صيد الكلب المعلم والجاهل سواء، وقد علمه كيف يصيد، وكيف يمسك لصاحبه، هذا في عالم الكلاب، رفعه الله درجة عن أقرانه بالعلم فما بالك بمن تعلم الكتاب والسنة؟!

ويبلغ من فضل العلم أنه يرفع قدر أناس ليس لهم حسب ولا نسب فوق كثير من الأكابر؛ كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث أمير مكة خرج واستقبل عمر بن الخطاب بعسفان، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال عمر: ومن ابن أبزى؟! فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم  قد قال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين.”

وقد لعن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الدنيا بمن فيها إلا من انتسب لشرف العلم عالما كان أو متعلما، فعن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ، وَهُوَ يَقُولُ :” الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلاَّ ذِكْرَ اللهِ ، وَمَا وَالاَهُ ، أَوْ عَالِمًا ، أَوْ مُتَعَلِّمًا.” ” (الطبراني وابن ماجة والترمذي وحسنه)، وكما قيل: كن عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتهلك.

عباد الله: ما هو أفضل من أن يستغفر لك الحوت في البحر والدواب وحتى النمل تستغفر لطالب العلم؟ ما هو أفضل من أن تضع الملائكة أجنحتها لك إذا سلكت سبيلاً في طلب العلم سواء كان في درس تذهب إليه أو في كتاب تشتريه لتفتحه وتقرأ فيه؟ أي فضل عظيم هو ذاك وفَّره الله عز وجل لطلبة العلم الشرعي الذين يتعلمون الكتاب والسنة، والأحاديث في ذلك كثيرة!!

فعَن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ يَقُولُ:”مَن سَلَكَ طَرِيْقَاَ يَبْتَغِي فِيْهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لهُ طَرِيْقَاً إلى الجَنَّة؛ وإنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضَاً بِما يَصْنَعُ؛ وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغفِرُ لهُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ حَتَّى الحِيْتَانُ في المَاءِ؛ وفَضْلُ العَالِمِ عَلى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ على سَائِرِ الكَوَاكِبِ؛ وإنَّ العُلَماءِ وَرَثَةُ الأنبِيْاءِ؛ وإنَّ الأنبِيْاءَ لمْ يُوَرَثُوا دِيْناراً ولا دِرْهَمَاً وَإنَّما وَرَّثُوا العِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ”.( رواه أبو داود والترمذي)

ومع أن الإسلام حرم الحسد إلا أن الشارع أباحه في مجال العلم، فعَنْ ابنِ مَسْعودِ رضيَ الله ُ عنهُ قال: قالَ رسول اللهِ صلى اللهُ عليْهِ وسلَمَ:”لا حَسَدَ إلاَّ في اثنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاه اللهُ مَالاً فسَلَّطَهُ عَلى هَلَكتِهِ في الحَقَّ ورَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقضِي بِها وَيُعَلِمُّها”(متفق عليه)، وغير ذلك من الأحاديث التي لا يتسع المقام لذكرها وأنت بها خبير.

أيها المسلمون: إن الله لم يقصر الأجر على العلماء في حياتهم؛ بل امتد الأجر بعد موتهم وإلى قيام الساعة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ” (الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )، قلت: الإمام البخاري – مثلا – مات من قرون، ومع ذلك عدَّادُ الحسنات يَعُدُّ له إلى قيام الساعة، فمن نحن بجانب البخاري؟!!

ويحضرني قول الإمام الشافعي رحمه الله:

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم……………وعاش قوم وهم في الناس أموات

نعم يا إمامنا الشافعي، فكل من يطعن أو يشكك في هؤلاء الأعلام فهو ميت حقيقة لا حكما، بل لا يستحق الحياة.

وما أجمل قول سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه:

ما الفخــــر إلا لأهل العلم إنهم ……………..على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ………………والجاهـلون لأهل العـلم أعداء

فـفـز بعلم تعش حيـاً به أبــدا……………. الناس موتى وأهل العلم أحياء

أحبتي في الله: ولأهمية العلم نجد أنه صلى الله عليه وسلم جعل فداء كل أسير من أسرى بدر ممن يحسنون فن القراءة والكتابة، أن يعلم عشرة من أبناء الصحابة, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة».

ولم يقتصر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على تعليم اللغة العربية فحسب؛ بل أمر بتعلم اللغات الأخرى؛ وثبت أنه أمر زيد بن ثابت بتعلم اللغة السريانية ليتولى أعمال الترجمة والرد على الرسائل، وروي أنه تعلم بأمر منه صلى الله عليه وسلم العبرية والفارسية والرومية وغيرها، فعنه رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم لـه كلمات من كتاب يهود، قال: إني والله ما آمن يهود على كتابي, قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته لـه, فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم, وإذا كتبوا إليه قرأت لــه كتابهم» (أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي وحسنه)، فأصبح الفَتَى زيدُ بنُ ثابتٍ تَرْجُمانَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وأصبحت اللغة سلاحا له يدافع به عن الإسلام والمسلمين، وكما قيل:( من تعلم لغة قوم أمن مكرهم )

ولم تقتصر عنايته صلى الله عليه وسلم بتعليم هذه الفنون والعلوم للرجال فحسب, إنما اعتنى أيضا بتعليم النساء العلم والكتابة. فعن الشفاء بنت عبدالله قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة» (أبوداود).

وجملة القول: فإن ما تقدم هو قليل من كثير ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عنايته بالمسألة العلمية؛ تعلما وتعليما؛ أقوالا وأعمالا؛ مما يبرز اهتمامه الفائق بولاية العلم والتعليم.

العنصر الثاني: صور ونماذج مشرقة في حرص السلف الصالح على طلب العلم

عباد الله: أسوق لكم صورا ونماذج مشرقة من حرص السلف الصالح على طلب العلم، وسأترك لكم التعليق والتعقيب عليها، لتقارنوا بين حالهم والإمكانيات والأدوات الكتابية التي عندهم وبين ما نحن فيه من تقدم علمي وتكنولوجي!!

قيل لبعضهم: بما أدركت هذا العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.

ورئي مع الإمام أحمد العالم الجليل محبرة وقلم فقيل له: أنت إمام المسلمين ولا زلت تحمل المحبرة وتكتب؟! فقال الإمام أحمد: “مع المحبرة إلى المقبرة.”

وقيل للشافعي: “كيف حرصك علي العلم؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره”

وقيل لرجلٍ: من يؤنسُكَ ؟ فضرب بيده إلى الكتب، وقال: هذه ؛ فقيل: مِنَ النّاس؟ فقال: الّذين فيها.”

وليس هذا فحسب؛ بل إن ساعات الأكل لقوام حياتهم ومعاشهم كانت ثقيلة عليهم، فقد سألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي – رحمه الله -: ما هي أثقل الساعات عليك؟ قال: ساعة آكل فيها.

 وكان داود الطائي يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز فقيل له في ذلك؟ فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية «كتاب المجالسة وجواهر العلم»

وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري يقول:” أثقل الساعات عليَّ ساعة آكل فيها.” فالله أكبر ما أشد الفناء في العلم عنده؟! وما أوقد الغيرة على الوقت لديه؟!

قلت متعجباً: أثقل ساعات عليه ساعة الأكل؛ مع أنه مباح وواجب لقوام الحياة وحفظ النفس؛ وما يتوصل به إلى الواجب فهو واجب، فكيف حالنا ونحن نُضَيِّعُ أوقاتنا في الفراغ والحرام وأمام المسلسلات والأفلام وعلى القهاوي والطرقات، وعلى النت والمعاكسات؟!!

أعود إلى سلفنا الصالح فأقول: كان عبيد بن يعيش يقول: “أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث”

وعن ابن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل يقول: “كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك. ثم قال: “إن العلم لا يستطاع براحة الجسد”(سير أعلام النبلاء)

وعن أبي الوفاء ابن عقيل  يتحدّث عن نفسه فيقول :” أنا أقصر بغاية جهدي أوقاتَ أكلي، حتّى أختار سَفَّ الكعك وتحسّيه مع الماء على الخبز ؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ! توفُّراً على مطالعةٍ أو تسطير فائدةِ لم أدركها فيه !!”

وقال الشيخ فخر الدين : ” والله إني أتأسّف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل, فإنّ الوقت والزمان عزيز “

ويحكى أن الشيخ شمس الدين الأصبهاني من حرصه على العلم وشحّه بضياع أوقاته؛ أنه كان يمتنع كثيرا من الأكل؛ لئلا يحتاج إلى الشرب؛ فيحتاج إلى دخول الخلاء؛ فيضيّع عليه الزمان.

والوَقْتُ أنفَسُ ما عُنِيتُ بحفظهِ —— وأُرَاهُ أسْهَلَ مَا عَليَّ يَضِيعُ

يااااااااالله!!!!!!!!!!! كم نضيع من الساعات في الحرام!! إذا كانوا حريصين على الوقت في طعامهم وشرابهم ويعتبرونه مضيعةً فكيف بنا؟!!  ياااااالله؟!!! لطفك بنا يا رحمن.

يقول ابن عقيل الحنبلي تلميذ الحافظ الخطيب البغدادي:” إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين، أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.” (ذيل طبقات الحنابلة) فانظر كيف يستغل وقت طعامه وراحته في إعمال فكره فيسطره بعد قضاء حوائجه الشخصية؟!!!

يقول عبد الرحمن ابن الإمام أبي حاتم الرازي ” ربما كان أبي يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه ” فكانت ثمرة هذا المجهود وهذا الحرص على استغلال الوقت كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات وكتاب التفسير في مجلدات عدة وكتاب السند في ألف جزء.

لهذا فتح الله لهم قلوباً غلفا وأعيناً عمياً وآذاناً صماً!!! فإذا كنت تريد اللحاق بهم فاعمل عملهم ؛ فالله يسر لك سبل العلم والتقنيات الحديثة ما لم يصل إليه أحدهم، ومع كل ذلك أقول: لا يصل إليهم أحدكم!!! أليس كذلك؟!!!

على أن هذا الحرص ليس قاصراً على المسلمين فقط، بل اهتم الغربِيُّون به كذلك حتى نهضوا وتدموا به، فقد قرأتُ عن ألبرت إنشتاين، الفيزيائي الألماني الشّهير، أنّه من شدّة حرصه على العلم والوقت كان لا يلبس الأقمصة بأكمامٍ ذوات أزرار ، لأنّ غلقها وفتحها يضيع عليه وقتاً ثميناً في تحصيل العلم!

العنصر الثالث: أثر العلم في نهضة الأمة

عباد الله: إن العلم أساس نهضة الأمة وقيام الحضارات؛ فبالعلم تبنى الأمجاد، وتَسُود الشعوب، وتبنى الممالك، بل لا يستطيع المسلم أن يحقق العبودية الخالصة لله تعالى على وفق شرعه، فضلاً عن أن يبني نفسه كما أراد الله سبحانه أو يقدم لمجتمعه خيراً، أو لأمته عزاً ومجداً ونصراً – إلا بالعلم.

وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلا قوض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل والمتاهات المهلكة.

وكما قيل:

العلم يبني بيوتا لا عماد لهـا …………… والجهل يهدم بيوت العز والكـرم

وكم هو شديد الوقع على النفوس أن يرى في الناس من شاب رأسه، ورق عظمه، وهو يتعبد الله على غير بصيرة! وقد يصلى بعض الناس أربعين سنة، أو عشرين سنة، أو أقل أو أكثر وهو لم يصل في الحقيقة؛ لأن صلاته ناقصة الأركان، أو مختلة الشروط والواجبات؛ ومع ذلك لا يحاول تعلم أحكامها، بينما يُرَى حريصاً على دنياه؛ ويكفي هذا دليلاً على أن الله  سبحانه وتعالى لم يرد به خيراً، ولو تعلم العلوم الدنيوية، وتبحر فيها؛ لأنها علوم معاشية فقط، لا تستحق مدحاً ولا ذماً.

وقد وصف الله تعالى أصحابها بقوله تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }؛ [الروم: 7]. { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ }؛ [النمل: 66].

قال ابن كثير رحمه الله: “فهؤلاء ليس لهم علم إلا بالدنيا، وأكسابها، وشؤونها، وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها، ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عن أمور الدين، وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له، ولا فكرة”.

وقال الحسن البصري: “والله ليبلُغنَّ أحدُهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي”؛ فكيف تنهض الأمة – في جميع مجالاتها – بأمثال هؤلاء ؟!!

إن الميراث الذي خلفه الرسول – صلى الله عليه وسلم – للأمة هو العلم ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:”يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ !”قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ:”ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ !”قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ:”فِي الْمَسْجِدِ”فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ:”مَا لَكُمْ؟”قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ:”أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟”قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ:”وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” ( الطبراني وقال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن)

أحبتي في الله: ومن عومل النهوض بالأمة في المجال العلمي أن نهتم بالمعلم والمربي وأن نشكر جهوده، ونؤدي إليه بعضاً من حقه، وأن نعرف له قدره واحترامه وفضله.

إنَّ المُعلِّم والطَّبِيبَ كِلَيهِما ………………….لا يَنْصَحانِ إِذا هُما لَمْ يُكْرَما

فاصْبِرْ لِدائِكَ إِنْ أَهَنْتَ طَبِيبَهُ ……………….وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّماً

إن نهضة الأمة منوط بتربية أجيال على علم وتحمل المسئولية؛ وما اختلت موازين الأمة، وفسد أبناؤها إلا حينما ضاع الأبناء بين أبٍ مفرط لا يعلم عن حال أبنائه، ولا في أي مرحلة يدرسون، ولا مع من يذهبون ويجالسون، ولا عن مستواهم التحصيلي في الدراسة – وبين مدرس خان الأمانة، وتهاون في واجبه، ولم يدرك مسؤوليته؛ فدور الأسرة عظيم في غرس هذه القيم في نفوس أبنائها فهم مسئولون عنهم يوم القيامة؛ وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” ( متفق عليه) وقال أيضاً : ” إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاهُ ، أحفظَ أم ضيَّعَ ؟ حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيتِه “( الطبراني والبيهقي والنسائي وابن حبان)؛ يقول الإمام الغزالي رحمه الله في رسالته أنجع الرسائل: «الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه؛ نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدِّب، وإن عوِّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له». فأولادكم أمانة في أيديكم وستسألون عنهم فماذا أنتم قائلون؟!!!

العنصر الرابع: ظاهرة الغش في التعليم وأثرها على المجتمع

إن الغش ظاهرة خطيرة وسلوك مشين، والغش له صور متعددة، وأشكال متنوعة، ابتداء من غش الحاكم لرعيته، ومرورا بغش الأب لأهل بيته، وغش الخادم في عمله؛ و انتهاء بالغش في التعليم والامتحانات.

وحديثي سوف يقتصر على الغش في الامتحانات، والذي أصبح يشكو كثير من المدرسين والتربويين من انتشاره وفشوه؛ وهذا حق، فإن ظاهرة الغش بدأت تأخذ في الانتشار، ليس على مستوى المراحل الابتدائية فحسب، بل تجاوزتها إلى الثانوية والجامعة والدراسات العليا، فكم من طالب قدم بحثا ليس له فيه إلا أن اسمه على غلافه!! وكم من طالب قدم مشروعا ولا يعرف عما فيه شيئا!! وبل وقد تعجب من انتكاس الفطر عند بعض الطلاب، فيرمي من لم يغش بأنه مقعد ومتخلف وجامد الخ .. تلك الألقاب؛ ولربما تمادى أحدهم فاتهم الطالب الذي لا يساعده على الغش بأنه لا يعرف معنى الأخوة ولا التعاون. هذه الظاهرة التي أنتجها الفصام النكد الذي يعيشه كثير منا في مجالات شتى، نعم لما عاش كثير من طلابنا فصاما نكدا بين العلم و العمل، ترى كثيرا منهم يحاول أن يغش في الامتحانات، و هو قد قرأ حديث الرسول صلى الله عليه و سلم : (“من غش فليس منا ” (مسلم)، بل ربما أنه يقرأه على ورقة الأسئلة، و لكن ذلك لا يحرك فيه ساكنا، لأنه قد استقر في ذهنه أنه لا علاقة بين العلم الذي يتعلمه وبين العمل الذي يجب أن يأتي به بعد هذا العلم؛ ولا أبالغ إن قلت: إن ظاهرة الغش أصبحت في غش القرآن ولا سيما في المعاهد الأزهرية بل ويمزقون المصحف ويأخذون الجزء المقرر في دورات المياه وهناك يداس بالأقدام!!!

أيها المسلمون: للغش أسباب كثيرة التي تنتج هذا الخلق المشين منها:

ضعف الإيمان: فإن القلوب إذا ملئت بالإيمان بالله لا يمكن أن تقدم على الغش وهي تعلم أن ذلك يسخط الله ؛ لا يمكن للقلوب التي امتلأت بحب الله أن تقدم على عمل وهي تعلم أنه يغضب الله.

ومنها: ضعف التربية : خاصة من قبل الوالدين أو غيرهما من المدرسين أو المرشدين؛ فلا نرى أبا يجلس مع ابنه لينصحه ويذكره بحرمة الغش، ويبين له أثاره وعواقبه، بل تعجب من بعض الآباء إذا قلت له ذلك أجابك مباشرة : لماذا، هل ابني غشاش؟ بل ربما لو وقع الابن في يد المراقب، لجاء ذلك الأب يدافع عنه بالباطل!!

ومنها: تزيين الشيطان : فالشيطان يزين لكثير من الطلاب أن الأسئلة سوف تكون صعبة، ولا سبيل إلى حلها والنجاح في الامتحانات إلا بالبرشام والغش؛ فيصرف الأوقات الطويلة في كتابة البراشيم، واختراع الحيل والطرق للغش؛ ما لو بذل عشر هذا الوقت في المذاكرة بتركيز لكان من الناجحين الأوائل!!

أحبتي في الله: إن الغش له أثره السيئ على المجتمع؛ فهو سبب لتأخر الأمة، وعدم تقدمها وعدم رقيها، وذلك لأن الأمم لا تتقدم إلا بالعلم وبالشباب المتعلم، فإذا كان شبابها لا يحصل على الشهادات العلمية إلا بالغش، فقل لي بريك: ماذا سوف ينتج لنا هؤلاء الطلبة الغشاشون ؟! ما هو الهم الذي يحمله الواحد منهم ؟! ما هو الدور الذي سيقوم به في بناء الأمة ؟! لا شيء ، بل غاية همه؛ وظيفة بتلك الشهادة المزورة، لا هم له في تقديم شيء ينفع الأمة، أو حتى يفكر في ذلك؛ و هكذا تبقى الأمة لا تتقدم بسبب أولئك الغششة بينها؛ ونظرة تأمل للواقع : نرى ذلك واضحا جليا، فعدد الطلاب المتخرجين في كل عام بالآلاف ولكن قل بربك من منهم يخترع لنا؟! أو يكتشف؟! أو يقدم مشروعا نافعا للأمة؟! قلة قليلة لا تكاد تذكر!!

عباد الله: علينا جميعا أن تعاون الجميع في مقاومة هذه الظاهرة ، كل بحسب استطاعته وجهده، فالأب في بيته ينصح أبنائه ويرشدهم ويحذرهم بين الحين والآخر ، والمعلم والمرشد في المدرسة والجامعة كل يقوم بالوعظ ، والإرشاد، وكذلك الداعية في خطبه ودروسه، والإعلام بوسائله المختلفة.

نسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً وقلباً خاشعاً وبدنا على البلاء صابراً ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

الدعاء،،،،،،،                                   وأقم الصلاة،،،،،،،                                                                          

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى