خطبة الأسبوع

دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان …بقلم : د . أسامة فخري الجندي


دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان

بقلم : د . أسامة فخري الجندي

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .

أما بعد : فلا شك أن المسلمين قد عاشوا زمانًا شريفًا ، عاشوا زمانًا كان فيه النفحات والرحمات والروحانيات – وهو شهر رمضان المبارك – انشغلت فيه جوارحهم بالإقبال على الله عز وجل ، صيامًا وقيامًا وذكرًا وتلاوةً للقرآن ، وغير ذلك من ألوان العبادات المختلفة . فلقد كان شهر رمضان المعظم ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم ، ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم ، فكم تهذبت فيه نفوسنا ، وكم تروضنا فيه على الفضيلة وارتفعنا فيه عن الرذيلة . ولا شك أن هذه الطاعات المختلفة في شهر رمضان من شأنها أن تصل بالإنسان إلى حد الاستقامة ، والواجب على الإنسان الذي عاش حلاوة الاستقامة في رمضان أن يستمر عليها بعد رمضان . فالله سبحانه وتعالى لا يطلب منا الاستقامة في رمضان وفقط ، وإنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمنٍ ؛ حتى يشيع ما يحدث فيه في غيره ، أي من بعد ذلك في كل الزمان ؛ وذلك لأن اصطفاء الله لزمان أو لمكان أو لإنسان ، إنما الغاية من هذا الاصطفاء أن يشيع أثرُ الاصطفاء في غيره ، فإذا كان الله مثلاً قد اصطفى الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، فليس معنى هذا أن الاصطفاء جاء لتمييز شخصه وفقط ، وإنما ليشيع أثرُ اصطفاء الرسول في كلِّ الناس ، فالله لم يصطفه ليدللـه ، وإنما اصطفاه ليجعله أسوة . وكذلك اصطفى الله من الزمان أيامًا لا ليميزها على بقية الأزمنة وفقط ، ولكن لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يشيع اصطفاء هذا الزمان في كل الأزمنة ، كاصطفائه لأيام رمضان . إذن فحين يصطفي الله زماناً أو مكاناً أو يصطفي إنساناً إنما يشاء الحق سبحانه وتعالى أن يشيع اصطفاء الإنسان في كل الناس، واصطفاء المكان في كل الأمكنة واصطفاء الزمان في كل الأزمنة . وإذا نظرنا إلى شهر رمضان وكيفية استقبال المسلمين له ، سنجد أنهم قد استقبلوه بالقيام والصيام والصدقة والذكر وبتلاوة آيات القرآن وألوان البر المختلفة وغير ذلك ، ولكن ماذا بعد أن ينتهي رمضان ؟ ينسون ذلك . والسؤال هنا : هل جاء رمضان ليحرس لنا الدين ، أم أن رمضان يجيء ليدربنا على أن نعيش بخُلُقِ الصَّفاءِ في كل الأزمنة ؟ وما هي نتيجة هذا الاصطفاء الزماني لرمضان ؟ إننا إذا أردنا أن نقرب المعنى المرجو من الاصطفاء الزماني لرمضان ، فإليك هذا المثال في الأنعام ، فأنت ترى شيئاً من هذا الاصطفاء والاختيار ، فالأنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى الأنواع من المأكولات ، ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث ، وهو مُنتِن لا تطيق رائحته ، ويتكوّن دم الحيوان ، ومن بين الفَرْث والدم يُصفِّي لك الخالق – عز وجل – لبناً خالصاً ، وهذه سلالة أيضاً وتصفية . قال تعالى:{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }[النحل: 66]. فالاصطفاء إذن يعود لمصلحتك أنت ، وفي رمضان قد وجدنا حلاوة الاستقامة ، فانظروا إلى حالنا قبل رمضان وإلى حالنا بعد رمضان، وإن شئتم أن أحدد ، فانظروا إلى حال هذه الأمة أيام العيد ، فإن علامة قبول الطاعة الاستمرار فيها ، وعلامة ردّها أن تعقب بمعصية . فأيها تريد ؟ إننا بنظرة سريعة سنجد أن حال المسلمين في رمضان كان يتردد في الأمور الآتية :

1-  لقد أخذ القرآن قسطًا كبيرًا من وقت الصائمين يجلسون بين طياته ، ومن المعلوم أن هناك نزولاً للقرآن وهناك تنزلاً ، والنزول قد انقطع ، أي نزول القرآن من عند الله عز وجل وحيًا ، أما التنزّل فهو لم ينقطع ، والمقصود به أن الإنسان عند قراءته القرن حين يستقبل كلام الله عز وجل بفطرته النقية وبجهاز استقبال مصفَّى ، فقد يتنزل عليه بعض أسرار كلام الله عز وجل ، فإذا كان النزول قد انقطع ، فهناك التنزل الذي لم ينقطع ، فمتى نصفى جهاز استقبالنا لاستقبال كلام الله عز وجل بتأمل وتدبر ، فيتنزل علينا من أسراره ، وهل سنستمر في مجالسة ربنا من خلال كلامه أم سنهجر القرآن مرة أخرى ؟

2-  لقد جرت العادة أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان ، وإذا كنا قد علمنا أن الشياطين في رمضان قد صُفِّدت وسُلْسِلت ، إذن فإن كل معصية وقعت في رمضان فليس للشيطان فيها نصيب ، وإنما هي شهوة النفس ، ومعنى هذا أنه قد تدرّب المسلمون على أن الشيطان ليس معه حركة في رمضان ، وتدرّب المسلمون كذلك على كسر الشهوة الإنسانية وكبح جماحها ، فهل سنعطي الفرصة للشيطان ليتملك منا مرة أخرى ؟ وهل سنترك له العنان يفسد علينا علاقتنا بخالقنا ويفسد علينا الفطرة النقية التي خلقنا الله عليها ؟ وهل نعاود إرضاء هذه النفس بتلبية حاجياتها وشهواتها مرة أخرى ؟

3-  لقد استحضرنا في رمضان قيمًا وأخلاقًا نبيلة وعظيمة ، يجب أن تسود هذه القيم سائر شهور العام ، فليس معنى أننا قد ودّعنا رمضان أن نودّع معه القيم والسلوكيات والأخلاقيات التي كانت منتشرة فيه ، فما أحرى كل مسلم بعد رمضان أن يعيش بروح رمضان ، والسؤال الآن : هل سينهار مجتمعنا مرة أخرى بانعدام الأخلاق ؟

4-   لقد فتح المسلمون في رمضان صفحة بيضاء مع الله عز وجل بالتوبة الصادقة . – مع الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر . – مع الوالدين والأقارب والأرحام ، والزوجة ، والأولاد ، وذلك بالبر والصلة . – مع المجتمع الذي يعيشون فيه . والسؤال : هل سنطوي هذه الصفحة البيضاء مرة أخرى ؟ هل سنقطع هذه العلاقات مرة ثانية ؟ هل سنجدد المعصية ؟ هل سنترك البر والصلة ؟ هل سنكون سببًا في تقطيع أواصر المجتمع بدلاً من أن نجعله مترابطًا ؟ أم أننا سنستمر على ما كنا عليه في رمضان بعد رمضان ؟ فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها .

5-  فقد سئل سيدنا عبد الله بن مسعود : كيف كنتم تستقبلون رمضان ؟ قال : ما كان أحد منا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقال ذرة من حقد عل أخيه المسلم . انظر إلى كلام هذا الصحابي الجليل جيدا ، وتأمله بعمق ، ستدرك أن كلامه يحمل من الروعة ما يحمل ، وكذلك ستدرك أن كلامه يحوي بعض الخطورة ، نعم ، فهو روعة لمن نزّه قلبه ونقّاه من كل حقد وغيرة مذمومة وكراهية وبغض . وهو خطورة لمن تملك الحقد منه ، فهل نعود للخصومة والحقد مرة أخرى بعد أن عشنا لذة الود والصلة والترابط ؟

6-  لقد تعودت على الصيام فلا تحرم نفسك صيام الست من شوال ، فمن الأعمال الصالحة بعد رمضان صيام ست من شوال، قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه]

7-  تعلمنا مع صيام البطن والفرج صيام الجوارح والقلب ، فهل ستُنْتَهك المحرمات مرة أخرى ؟

8-  تعلمنا أن الصومُ الذي افترضه الله تعالى ، غايته تحقيق التّقوى .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) .. والتّقوى حساسيّةٌ في الضمير ، وصَفاء في الشعورِ ، وشفافيّة في النفس ، ومراقبةٌ لله تعالى ، فالصّوم ينمِّي الشعورَ بالمراقبة ، ويزكِّي النفس بالطاعة ، فهل سنلتزم التقوى والمراقبة لله أم سنجعل الله أهون الناظرين إلينا ونرتكب المعاصي مرة أخرى ؟

9-   لقد تعلمنا أن للصائم دعوة لا ترد ، فأين نحن من الاستمرار على الدعاء والمواظبة عليه ؟

10-         لقد ذكر لنا الإمام الغزالي في كتابه الإحياء أن حاتم الأصم رحمه الله تعلّم ثلاثا وثلاثين سنه على يد أستاذه شقيق البلخي ، قال له أستاذه يومًا : فما تعلمت مني في هذه المدة ؟ قال حاتم : ثماني مسائل ، وكان من هذه المسائل الثماني أن قال حاتم : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي . فمتى ننتبه إلى مثل هذا الكلام ؟

 

وبعد فلقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً ، فنرجو من كل مسلم أن يتعهد هذا الغرس بالحفظ والرعاية والعناية ، وأن يسقي هذا الغرس لينمو أكثر ، حتى يجني ثمار ذلك الغرس ، فمن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها ، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات، فاجعل أيها المسلم من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير لسائر العام ، ومنهج حياة في كل الأحوال ، وحافظ على ما كنت تقوم به في رمضان حتى تكون نبعاً متدفقاً بالخير دائمًا . نسأل الله بقدرته على كل شيء أن يغفر لنا كل شيء ولا يسألنا عن شيء ، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والمواظبة عليها .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى