خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) للدكتور مسعد الشايب 6 من جماد أول 1446هـ 8 من نوفمبر 2024م
((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) (مزيدة ومنقحة) 6 من جماد أول 1446هـ الموافق 8 من نوفمبر 2024م
===========================================
أولا: العناصر:
1. الماء سرّ الحياة، بيان مكانته ونفعه.
2. ثلاثٌ من صور المحافظة على نعمة الماء.
3. (الخطبة الثانية): من سبل تعزيز وجود الماء في الشريعة الإسلامية، وأدلتها.
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأسبل على الناس رعاية وسترًا، نحمده سبحانه وتعالى على نعمائه، ونسلم لقدره وقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل الأنبياء، وأكرم الأتقياء، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===========================================
(1) ((الماء سرّ الحياة، بيان مكانته ونفعه))
===========================================
أيها الأخوة الأحباب: نعم المولى تبارك وتعالى علينا في هذا الكون لا تحصى ولا تعد، وصدق الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:34]، ومن أجل تلك النعم، وأعظمها نعمة الماء، وفي لقاء الجمعة الطيب المبارك بإذن من الحق تبارك وتعالى، أوضح، وأجلي وأوضح لمستمعينا الكرام مكانة هذه النعمة، وعظيم نفعها، وكيفية المحافظة عليها، وسبل تعزيزها في الشريعة الإسلامية، فأعيروني يا عباد الله القلوب، وأصغوا إليّ بالقلوب والآذان، فأقول وبالله التوفيق: من مكانة الماء:
===========================================
1ـ أنه جنديٌ من جنود الله (عزّ وجلّ)، وبيان ذلك كالتالي:
==========
أ/ منه خلق العديد من كائناته، فمنه خلق الإنسان، والحيوان، والحشرات، والنباتات، فلا تستغنى عنه تلك الكائنات، فهو قوام الحياة، وأصلها، وصدق الله إذ يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:30]، كما أن الماء هو رزق الله النازلُ لكائناته من السماء، فبالمطر يحيي الله الأرض بعد موتها، فيخرج به أصناف النباتات التي يتغذى عليها الإنسان، والحيوان، والحشرات، وصدق الله إذ يقول أيضًا: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى* كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}[طه:54،53]، أيضًا من مكانة الماء:
==========
ب/ وبالماء أيّد الحق تبارك وتعالى العديد من أنبيائه، فقد نبع من بين أصابع نبينا (صلى الله عليه وسلم)، يوم الحديبية في العام السادس الهجري، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، قال: (عطش الناس يوم الحديبية والنبي (صلى الله عليه وسلم) بين يديه ركوة (إناء صغير من جلد به ماء)، فتوضأ، فجهش الناس نحوه (أسرعوا إلى أخذ الماء)، فقال: (مَا لَكُمْ؟). قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه (وفي رواية: يفور)، كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)(رواه البخاري).
==
كما أن الماء هو الأساس في بعض معجزات سيدنا موسى (عليه السلام)، فقد نبع الماء من الحجر بعد أن ضرب سيدنا موسى (عليه السلام) إياه بالعصا، قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[البقرة:60]، وكان الماء سببًا في نجاة سيدنا موسى (عليه السلام) وقومه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ*فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ*وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:61ـ65].
==========
ج/ وبالماء انتقم الحق تبارك وتعالى وأهلك بعضًا أعدائه، فقوم سيدنا نوح (عليه السلام) أغرقوا بالطوفان، وصدق الله إذ يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14]، وقال تعالى متحدثًا عنهم: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25].
==
وبالماء كان الانتقام الفرعون، وجنده، وصدق الله إذ يقول: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ*آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ*فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[يونس:90ـ92].
==
وبالماء كان هلاك قوم سبأ كما سيتضح لنا بعد قليل، أيضًا من مكانة الماء أيها الأحبة الكرام:
===========================================
2ـ أنه عماد الاقتصاد، وأصل الرخاء والنماء، وأساس قيام الحضارات الإنسانية، وأساس ازدهارها ورقيها: فقد كان الماء سببًا في قيام الإنسان بما وُكل إليه من عمارةٍ للكون، وخلافةٍ الله (عزّ وجلّ) في الأرض، فقد ارتبطت الحضارات القديمة بالماء، فحيثما يوجد الماء العذب توجد الحضارة، مثل حضارتي وادى النيل والفرات.
==
وقد دبت الحياة في مكة المكرمة بعد أن تفجر بئر زمزم تحت قدمي إسماعيل (عليه السلام) استجابة لدعوة أبى الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم:37].
==
كما أن وفرة الماء سببٌ في النهضة الزراعية والصناعية والتجارية، وسببُ في استقرار المجتمعات وتقدم العمران، وقصة سبأ في القرآن الكريم خيرُ دليلٍ وشاهدٍ على ذلك، فالحق تبارك وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ:15]، لقد ازدهرت حضارتهم بالماء، فلما أعرضوا عن الحق والطريق المستقيم، دمّرت حضارتهم بالماء أيضًا، وهذا من عجيب طلاقة القدرة الإلهية، قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}[سبأ: 16]، أيضًا من مكانة الماء:
===========================================
3ـ أنه خادم للبشرية، ونافعٌ لها: فمن نعم الحق تبارك وتعالى على خلقه في الماء فوق ما تقدم؛ حمله للسفن الشاهقة كالجبال في البحر بما فيه مصلحة البشرية، من حملهم، وحمل تجاراتهم وبضائعهم من بلد إلى آخر، قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}[الرحمن:24].
==
ومن وظيفة الماء: أن الله سبحانه وتعالى جعل مياه المحيطات، والبحار، والـأنهار مصدرًا من مصادر إطعام الناس يستخرجون منه لحمًا طريًا يأكلونه، الأسماك وغيرها، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}[فاطر:12]، وانظر إلى روعة النظر القرآنيـ فقد عبر الحق تبارك وتعالى بلفظة: (طريًا)؛ ليشمل الأسماء وغيرها من بقية الكائنات البحرية.
==
ومن وظيفة الماء: استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار والأنهار، قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:22]، فاللؤلؤ والمرجان كما يستخرجان من الماء المالح غالبًا، كذلك يستخرجان من الماء العذب.
==
ومن وظيفة الماء: إنبات الزروع والثمار والأشجار بأنواعها وألوانها وأشكالها المختلفة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:99]، أيضًا من مكانة الماء:
===========================================
4ـ أننا بالماء نستبيح فعل بعض العبادات والطاعات: فالصلاة لا تصح إلا بالطهارة المائية، أو الترابية عند فقد الماء أو تعذر استعماله، قال (صلى الله عليه وسلم): (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ…)(رواه مسلم).
==
والطواف حول الكعبة، لا يصح إلا بالطهارة المائية عند جمهور أهل العلم، قال (صلى الله عليه وسلم): (الطَّوَافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ)(رواه الترمذي)، أي: مثل الصلاة في اشتراط الطهارة له.
==
لهذه المكانة العالية لنعمة الماء، ولعظيم نفعها العام المتقدم؛ فقد اعتنى الإسلام بها عناية كبيرة، وأمرنا بالمحافظة عليها، وبحسن استخدامها ووضع لذلك ضوابط عديدة، وعدّ الأخذ بها من الواجبات الدينية، فمن صور المحافظة على نعمة الماء:
===========================================
(2) ((ثلاثٌ من صور المحافظة على نعمة الماء))
===========================================
1ـ أن نحرص عليها، ونوظفها التوظيف الأمثل، ولا نهدرها، وننتفع بها مهما كانت قليلة: فقد ابتليت بلادنا بأناسٍ لا يدركون ما للماء من أهمية، فتراهم يهدرونها في الطرقات والشوارع، أو في تنظيف الحيوانات والسيارات، أو بترك مصادرها مفتوحة…الخ.
==
وعلى هؤلاء أن يدركوا أن الماء الذي يصلح للشرب لا ينبغي أن يجعل في الغسل، وما يصلح للغسل لا ينبغي أن يجعل في إزالة القاذورات، فلا يحرص على الماء إلا المؤمن الذي يخشى الله تعالى، ويدرك أنه نعمةُ كبرى وأنه أغنى من المال، بل أغلى من الدم، وأن سير الحياة واستقامة عمارة الأرض متوقفٌ عليه، فالحق تبارك وتعالى يخاطب نبينا (صلى الله عليه وسلم) آمرًا إياه أن يذكر المشركين بنعمة الماء، فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}[الملك:30]، أي: ذاهبًا في الأرض لا تستطيعون طلبه، ولا إخراجه.
==
وقد علمنا النبي (صلى الله عليه وسلم) الانتفاع بالماء حتى و لو كان قليلًا وهو المسمى بالسؤر (البقية من كل شيء) حتى ولو استعمل هذا الماء من قبل إنسانٍ أو حيوانٍ، فسؤر جميع الحيوانات طاهر ما عدا سؤر الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما، وسؤر كل حيوان مخالط للنجاسات والقاذورات، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بفضل نسائه، ويتوضأ بفضل الهرة, فالحرص على نعمة الماء، والمحافظة عليها، وعدم إهدارها يعدّ من قبيل الشكر لله (عزّ وجلّ) على تلك النعمة، أيضًا من صور المحافظة على نعمة الماء:
==========
2ـ عدم الإسراف في استعمالها، حتى لو كان ذلك في التهيؤ لأداء العبادات والطاعات: وهذا من أوضح صور المحافظة على نعمة الماء، فقد أخبر النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأنه سيأتي بعده أقوام من أمته يسرفون في استخدام الماء، فقال (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ)(سنن أبي داود)، والمسلم مطالبٌ عمومًا بعدم الإسراف في أي شيء مباح، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31].
==
والماء نزل بقدر فيجب أن يستخدم بحذر، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:18]، أي: بقدر ما يكفيهم للمعيشة، فإن أسرفوا في استعماله فإنه لا يكفي المعيشة.
==
وها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يعلمنا الحرص على نعمة الماء، وعدم الإسراف في استخدامها، فكان (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بالمد (كف من الماء)، ويغتسل بالصاع (أربعة أمداد) إلى خمسة أمداد. (رواه مسلم)، فإذا قارنا بين ما يتوضأ به المسلم اليوم أو ما يغتسل به، مع ما كان يتوضأ ويغتسل به النبي (صلى الله عليه وسلم) لتبين لنا قدر ما نحن فيه من إعراض عن سنته (صلى الله عليه وسلم).
وسأل النبيَ (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم رجلٌ عن الوضوء فأراه النبي (صلى الله عليه وسلم) ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: (هَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَتَعَدَّى، وَظَلَمَ)(سنن النسائي).
==
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) عدَّ الإسراف في استخدام الماء إساءة وظلم، وكأنه يشير إلى أن الماء فضل الله تعالى لجميع البشر، وأن من يسرف في استخدامه لظنه أن الماء كثير فهو يعتدي على حقوق الآخرين فيهدرها ويقلل نصيبهم من تلك النعمة.
فقد مرّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ذات يومٍ بسيدنا سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) وهو يتوضأ، ويسرف في استخدام الماء، فقال: (مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟). فقال: أفي الوضوء سرف؟. قال: (نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)(سنن ابن ماجه)، أيضًا من صور المحافظة على نعمة الماء:
===========================================
3ـ عدم امتهانها وإفسادها على الآخرين بتلويثها: وهذا أيضًا من أعظم صور المحافظة على نعمة الماء، فقد ابتليت بلادنا أيضًا بمَنْ يلقون القاذورات، والمواد السامة، ومخلفات المصانع في مياه النيل والترع ومجاري المياه، وبمن يطلقون مياه الصرف الصحي على المياه الصالحة للاستخدام.
==
وتلويث الماء بهذه الطرق وبتلك العادات السيئة هو من الإفساد في الأرض لما يترتب عليه من أضرارٍ جسيمة لكل من يستخدم هذا الماء الملوث من البشر، والأحياء الحيوانية، والمائية، والنباتية، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)(رواه ابن ماجه)، فكل كبد تليف، وكل كلية فشلت، وكل صحة ضاعت، أو أصيبت بالأمراض؛ من جراء استعمال هذا الماء الملوث؛ فوزرها على من لوث هذا الماء.
==
وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن التبول في الماء الراكد أو الجاري؛ لأن ذلك يتسبب في نشر العدوى، وانتقال الأمراض، فقال (صلى الله عليه وسلم): (لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ)(متفق عليه)، وفي لفظ: (أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي)(المعجم الأوسط).
عباد الله: أقول قولي هذا، واستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب………..
===========================================
(الخطبة الثانية)
((من سبل تعزيز وجود الماء في الشريعة الإسلامية، وأدلتها))
===========================================
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
==========
أيها الأحبة الكرام: ما زال الحديث بنا موصولا مع نعمة الماء، وبعض صور المحافظة على نعمة الماء، ولا يتبقى لنا في تلك الجمعة المباركة؛ إلا أن نعيش مع بعض سبل تعزيز نعمة المياه في شريعتنا الإسلامية الغراء، فأقول، وبالله التوفيق:
==========
الإسلام ينظر إلى نعمة الماء بوصفها ثروة قومية، فعلى كل الناس فيها واجب، ولكل الناس فيها حق، ومن ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ والكلأ وَالنَّارِ) (سنن أبي داود)، وكما اهتم الإسلام بالمحافظة على نعمة المياه وضرورة ترشيد استخدامها، فقد اهتم كذلك بسبل تعزيز وجودها، وتكثيرها، وذلك بإيجاد بدائل تساعد على وفرتها وكثرتها، فمن ذلك:
===========================================
1ـ حفر الآبار واستخراج المياه الجوفية: فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ حَفَرَ مَاءً, لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى (عطشان) مِنْ جِنٍّ, وَلَا إِنْسٍ, وَلَا طَائِرٍ, وَلَا سَبُعٍ, إِلَّا آجَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(صحيح ابن خزيمة).
==
وقد جعل الإسلام حفر آبار الماء بابًا من أبواب الصدقات الجارية التي لا ينقطع ثوابها وأجرها بعد وفاة المتصدق، فقال (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم): (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: (مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)(مسند البزار)، ومن الوسائل التي تساعد على وفرة الماء:
===========================================
2ـ تحلية مياه البحار: لإمكان استخدامها كمياه عذبة صالحة للاستخدام البشري والزراعي والصناعي، وكأن الله تعالى جعل هذه البحار الواسعة، والمحيطات الشاسعة مخزنًا للمياه لتبقى آمنة لا تفسد، سالمة لا تأسن، ثم على الإنسان أن يصلحها بكل سبيل ليستخرج منها خيراتها بإذن ربها، ومن الوسائل التي تساعد على وفرة الماء:
===========================================
3ـ معالجة المياه المستعملة ليتأتى استخدامها مرة ثانية، وقد سبق لفقهائنا الكرام (رضي الله تعالى عنهم) أن بحثوا هذا الموضوع ولكن بصورة مبسطة تناسب عصرهم، فتحدثوا عن تطهير الماء بالنزح، أو الإضافة، أو المكاثرة، ومع التقدم العلمي أمكن معالجة المياه الملوثة، بل والمتنجسة، وتحويلها إلى مياه صالحة في شتى مجالات الحياة، ويمكن توجيه هذه المياه المعالجة إلى المجالات الزراعية، والصناعية، وغيرها؛ لتوفير الماء العذب للاستخدام البشري، ومن الوسائل التي تساعد على وفرة الماء:
===========================================
4ـ استنباط واستزراع أنواعٍ وسلالاتٍ من المحاصيل والنباتات، لا تستهلك كميات كبيرة من الماء، ومن ذلك أيضًا:
===========================================
5ـ استخدام وسائل وطرق الري الحديثة الموفرة لكميات كبيرة من الماء، كالري بالرش، والتنقيط…الخ.
===========================================
((إرشاد الشريعة الإسلامية للبحث عن بدائل تعزز وجود نعمة الماء))
===========================================
1ـ إن شرعنا الحنيف قد أشار إلى البحث عن تلك الوسائل التي تؤدي لوفرة المياه، وحثنا على إيجاد البدائل لها؛ لتستمر بنا الحياة بلا عنت ولا مشقة، ويكفي أن نذكر بقول الله (عزّ وجلّ): {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء:42/ المائدة:6]، فإذا كان الإسلام قد شرع البحث عن بدائل الماء في العبادات والطاعات، فما سواها أولى وأوجب وخصوصًا إذا كان فيه محافظة على الحياة و على عمارة الأرض.
==========
2ـ الماء هو عصب الحياة، وعمود وجودها، وبقاؤها يتوقف على بقائه، وبدونه يهلك الحرث والنسل، وتزهق الأنفس، وتهلك الثمرات، والحق تبارك وتعالى يقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]، ومفهوم الآية الكريمة أن كل ما فيه إحياءٌ لنفسٍ واحدة ـ كما في معالجة الماء الذي يؤدي عدمه إلى هلاك الإنسان، يكون مأمورًا به شرعًا، إحياء للنفس الإنسانية، فكيف به إذا كان فيه إحياءٌ لنفوسٍ كثيرةٍ، لا نفسًا واحدة.
==========
3ـ نبينا (صلى الله عليه وسلم) كان حريصًا على تأمين وجود الموارد المائية في مجتمع المسلمين في المدينة، فحينما أراد اليهود أن يحتكروا ماء المدينة بشراء بئر رومة؛ قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ المُسْلِمِينَ). فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وفي لفظ عنه: (مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ؟). فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهَا، يَعْنِي بِئْرَ رُومَةَ، فَقَالَ: (اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ)(سنن النسائي).
==
فما فعله سيدنا عثمان (رضي الله عنه) درسٌ لكل الأثرياء والأغنياء، ولكل رجال الأعمال في كل عصر ومصر أن يكونوا في خدمة مجتمعاتهم وأوطانهم ببعض ما أفاء الله عليهم من أموال، وفي قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ) دليل على جواز التصدق بالماء، أو بالوسائل والبدائل التي تساهم في وفرة الماء وكثرته.
نسأل الله تعالى أن يحفظ مصرنا الحبيبة، وبلاد العرب والمسلمين من كل سوء، وأن يجعل كيد أعدائها في نحورهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم آمين.
===========================================
فاللهم إنا نسألك رضاك والجنة، وما يقربنا إليهما من قولٍ وعملٍ، ونعوذ بك من سخطك والنار، وما قرب إليهما من قولٍ وعملٍ، اللهم اجعل قلوبنا متعلقة بك واشغلنا بإصلاح أنفسنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب