خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجلمصــر
التحذير من اللامبالاة بالكلمة وأثرها السيد مراد سلامة
التحذير من اللامبالاة بالكلمة وأثرها
الحمد لله الذي تفرَّد بجلال ملكوته، وتوحَّد بجمال جبروته، وتعزَّز بعُلوِّ أحديته، وتقدَّس بسُموِّ صمديته، وتكبَّر في ذاته عن مضارعة كل نظيرٍ، وتنزَّه في صفائه عن كل تناهٍ وقصورٍ، له الصفات المختصة بحقِّه، والآيات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده.
يا واحد في ملكه أنت الأحد
ولقد علِمت بأنك الفرد الصمدُ
لا أنت مولودٌ ولست بوالدٍ
كلا ولا لك في الورى كفوًا أحدُ
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
اعلم – علمني الله وإياك -: أن الكلمة شأنها خطير وضررها عظيم، فهي مفتاح كل خير، أو مفتاح كل شر، وبها ينال العبد الرضا والرضوان، أو ينال السخط والخيبة والخسران، فكم من كلمة رفَعت صاحبها إلى عنان السماء، ونال بها الرفعة في الدنيا والآخرة، وكم من كلمة أورثت صاحبها الذل والمهانة، ولذا قيل:
احفظ لسانك أيها الإنسان
لا يلدغنَّك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقائه الشجعانُ
وهيَّا لنقف مع ابن القيم – رحمه الله – وهو يوضح لنا خطورة الكلمة يقول – رحمه الله -: وأما اللفظات فحفظُها بألا يُخرِجَ لفظةً ضائعةً، بل لا يتكلَّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر هل فيها ربح وفائدة أم لا، فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها، فلا يضيِّعها بهذه.
وإذا أردت أن تستدلَّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه بحركة اللسان، فإنه يُطلِعُ ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيي بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر الرجل حين يتكلَّم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه: حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبيِّن لك طعم قلبه اغترافُ لسانه؛ أي: كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك، وفي حديث أنس المرفوع: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[1].
سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ “»[2].
وقد سأل معاذ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن العمل الذي يُدخله الجنة ويباعده من النار، فأخبره برأسه، وعموده، وذروة سنامه، ثم قال: ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ:» اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَإِنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ – أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ – إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»[3].
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة، وشرب الخمر ومن النظر المحرَّم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلَّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلُّ بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب! وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول[4].
ويقول النووي – رحمه الله -: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يَعدِلها شيء؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[5].
وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حفظ اللسان مع حفظ الفرج جوازًا إلى الجنة، ونجاة من النار، فمن ضمن اللسان والفرج ضمِن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»[6].
قال الحافظ: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرْجه من وضعه في الحلال، وكفه عن الحرام، وقوله: (لحييه)، هما العظمان في جانبي الفم، والمراد بما بينهما اللسان، وما يتأتَّى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج»[7].
وفي بيان أن اللسان قائد الأعضاء في الاستقامة والاعوجاج، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[8].
تكفير الأعضاء للسان كناية عن تنزيل اللسان منزلة الكافر بالنعم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم اللسان أخوفَ ما يُخاف؛ عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: ” قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا»[9].
خوف السلف من اللامبالاة بالكلمة:
هيَّا لنقف مع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وكيف أنهم كانوا يخافون من خطورة الكلمة واللامبالاة بها:
• أبو بكر الصديق – رضي الله عنه روى عمر – رضي الله عنه- «أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبِّذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، قال أبو بكر هذا الذي أوردني الموارد».
• عبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن، عن سعيد الجريري عن رجل قال: رأيت ابن عباس آخذًا بثمرة لسانه وهو يقول: «ويحك قل خيرًا تغنَم، واسكُت عن شر تسلَم»، فقال له رجل: يا أبا عباس، ما لي أراك آخذًا بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟ قال: «إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه».
• عبد الله بن أبي زكريا – رحمه الله – قال: «عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة، قل أن أقدِر منه على ما أريد، قال: وكان لا يدع يغتاب في مجلسه، أحد يقول: إن ذكرتُم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم».
• عبد الله بن وهب – رحمه الله – قال: «نذرتُ أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويتُ أني كلما اغتبتُ إنسانًا أن أتصدَّق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة».
• قال الإمام النووي – رحمه الله – في الأذكار: بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي: قال: حفظ اللسان».
• قال سفيان الثوري – رحمه الله – لأصحابه: «قال أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء، قالوا لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل».
كأن رقيبًا منك يرعى خواطري
وآخر يرعي ناظري ولساني
فَمَا رمقت عيناي بعدك منظرًا
يسوؤك إلا قُلْت: قَدْ رقاني
ولا بدرت من فِي دونك لفظة
لغيرك إلا قُلْت: قَدْ سماني
ولا خطرت فِي السر بعدك خطرة
لغيرك إلا عرجًا بعناني
وإخوان صدق قَدْ سئمت حَدِيثهم
وأمسكت عَنْهُم ناظري ولساني
وَمَا الزهد أسلي عَنْهُم غَيْر أنني
وجدتُك مشهودي بكل مكان
ما ظنُّك بمن يحصي جميع كلماتك، ويضبط كل حركاتك، ويشهد عليك بحسناتك ترفع الصحائف وهي سود وعمل المنافق مردود، يحضره الملكان لدى المعبود، يا شر العبيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17].
يضبطان على العبد ما يجري من حركاته، وما يكون من نظراته وكلماته واختلاف أموره وحالاته، لا ينقص ولا يزيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17].
قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾؛ أي: ما يتكلم من كلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه رقيب عتيد؛ أي: حافظ وهو الملك الموكل به، والعتيد الحاضر معه أينما كان.
سجعٌ على قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾، يا كثير الكلام حسابك شديد، يا عظيم الإجرام عذابك جديد، يا مؤثرًا ما يضرُّه ما رأيك سديد، يا ناطقًا بما لا يجدي ولا يفيد، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
كلامك مكتوب وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب، فما أقسى قلبك من بين القلوب، وقد أتاه ما يصدع الحديد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾[10].
[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في “الصمت” (9)، وفي “مكارم الأخلاق” (342)، والقضاعي في “مسند الشهاب” (887).
[2] أخرجه الترمذي “2004” في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق.
[3] أخرجه ابن ماجه (3973)، والترمذي (2616).
[4] الداء والدواء (ص 204/205)؟
[5] أخرجه البخاري في “صحيحه” (6019)، (6476).
[6] أخرجه البخاري [1609، 6422]، والترمذي [2408]، وأحمد [5/ 333].
[7] فتح الباري لابن حجر (11/ 309).
[8] أخرجه الترمذي في “الزهد” باب “6”: ما جاء في حفظ اللسان.
[9] شأن الكلمة في الإسلام (ص 16-18) وأخرجه الترمذي (2410)، وابن أبي الدنيا في “الصمت” (7)، وابن حبان (5699)، والبيهقي في “الشعب” (4920).
[10] التبصرة (ص:617).