عاجل

الدكتور محمود ربيع الشهاوى يكتب : وقفات تربوية فى شهر شعبان

 

تظلنا في هذه الأيام نفحات ربانية عظيمة تحمل إلينا الرحمات والبركات والخيرات والذكريات العطرة المباركة؛ وفى الحديث الشريف: “إِنَّ لله عزوجل فى أيام الدهر نفحات ، أَلاَ فَتَعَرَّضُوا لَهَا فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا ” ..إنه شهر شعبان، موسم الطاعات ومفتاح الفضل والاستعداد للنفحات الكبرى الذي يأخذ بأيدينا إلى أبواب رمضان. شهر نتنسم فيه معاني الصيام والقيام والقرآن والتقرب إلى الله عز وجل. شهر تَتَروض فيه النفوس وتتأهب لِتَلقي رمضان قال ابن رجب رحمه الله: “… صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط” .

ومن هنا كانت تلك الوقفات التربوية والنفحات الربانية مع هذا الشهر الكريم
مكانة الشهر : فهو الشهر الذي يتشعب فيه خير كثير؛ من أجل ذلك اختصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة تفضِّله على غيره من الشهور ، ولذلك يتميز شهر شعبان بأنه شهر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الشهرٌ الذي أحبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضَّله على غيره من الشهور، فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان “

ووقفتنا التربوية هنا : هل تحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهل تجد في نفسك الشوق لهذا الشهر كما وجده الحبيب؟ وهل تجعل حبك للأشياء مرتبطاً بما يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هو اختبار عملي في أن تحب ما يحب الله ورسوله  قال صلى الله عليه وسلم ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ” .

عرض الأعمال : وهو الشهر الذي فيه تُرفع الأعمال إليه سبحانه وتعالى؛ فقد روى الترمذي والنسائي عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ من حديث النبي صلي الله عليه وسلم ” .. وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ “؛ ففي هذا الشهر يتكرَّم الله على عباده بتلك المنحة عظيمة؛ منحة عرض الأعمال عليه سبحانه وتعالى، وبالتالي قبوله ما شاء منها، وهنا يجب أن تكون لنا وقفة تربوية ، فإن شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام ، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله ؟ هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى تبارك وتعالى القائل ” إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه” ، فهل تحب أن يرفع عملك وأنت في طاعة للمولى وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية ، أم تقبل أن يرفع عملك وأنت في سكون وراحة وقعود وضعف همة وقلة بذل وتشكيك في دعوة وطعن في قيادة ، راجع نفسك أخي الحبيب وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى مولاها في شهر رفع الأعمال. 
مغفرة الذنوب : فإن شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن لله في أيام دهركم أيامًا وأشهرًا يتفضَّل بها الله عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها على عباده بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، وهو هديةٌ من رب العالمين إلى عباده الصالحين؛ ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها في قوله: “يطّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن”، هي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته وجماعته ، وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا ، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود ، وليكن شعارنا جميعا قوله تعالى ” ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم” قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه ، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرأ على الله بارتكاب معاصيه ، هل فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ ” كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابين ” هي فرصة إذاً لإدراك ما فات وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب و ناصعة البياض بالطاعة.

غفلة بشرية: شهر شعبان هو الشهر الذي يغفل الناس عن العبادة فيه؛ نظرًا لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ هما: رجب الحرام ورمضان المعظم، وفيه قال الحبيب ” ذلك شهر يغفل عنه الناس\” وقد انقسم الناس بسبب ذلك إلى صنفين: صنف انصرف إلى شهر رجب بالعبادة والطاعة والصيام والصدقات، وغالى البعض وبالغ في تعبده في رجب حتى أحدثوا فيه من البدع والخرافات ما جعلهم يعظمونه أكثر من شعبان، والصنف الآخر لا يعرفون العبادة إلا في رمضان، ولا يقبلون على الطاعة إلا في رمضان، فأصبح شعبان مغفولاً عنه من الناس، واشتغل الناس بشهري رجب ورمضان عن شهر شعبان، فصار مغفولاً عنه، ولذلك قال أهل العلم: هذا الحديث فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، وقد كان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة ، والوقفة التربوية هي دعوة لوقفة مع النفس ، هل صرنا من الغافلين عن شهر شعبان وفضله ؟ وهل أدركتنا الغفلة بمعناها المطلق ؟ هي وقفة تربوية نقيم فيها أنفسنا ومدى تملك الغفلة منا ، و نعرض فيها أنفسنا على قوله تعالى ” ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا” وقوله تعالى ” و اذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ولا تكن من الغافلين” وقوله تعالى ” لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ” سلمنا الله وإياكم من الغفلة ومضارها وجعلنا وإياكم من أهل طاعته على الدوام . 
 دورة تأهيلية لرمضان : شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهِّز برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان؛ فيا عبد الله :

مضى رجب وما أحسنت فيه      فهذا شهر شعبان المبارك

تدارك فيه ما قد فات قبلا          يحبك من يحاسبنا تبارك

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى