عاجل

الدكتور موسى شومان يكتب : من أسرار ليلة القدر

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، فى مبدأ الأمر ومنتهاه، أما بعد: فهذه رسالة موجزة حول بعض أسرار ليلة القدر اخترناها لك تلخيصا من كلام الشيخ الأكبر فى فتوحاته، وشروحات شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى، سائلين المولى فى علاه أن يفتح الله علينا فتوح العارفين به، ونبدأ فنقول: الحمد لله امتن على الأمة بنبى عالى القدر .. اختصه وأمته بليلة القدر .. أنزل عليه فيها قرآنا لكل عصر ودهر .. فقال فيه عنها ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ فقدر لكل من يحييها أن يصير ذا قدر .. وهى لا تنقطع أبد الدهر.13495044_1198166483537078_5925894228335520961_n

سبب التسمية: واختلف فى المراد بالقدر فقيل: (1) سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها والمراد به التعظيم كقوله تعالى ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها،

(2) وقيل سميت بذلك لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التى تكون فى تلك السنة، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة، كقوله تعالى ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ وقوله ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم لفعل ما هو من وظيفتهم،

(3) لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة،

(4) أن الذى يحييها يصير ذا قدر،

(5) لأنه نتزل فيها كتاب ذو قدر، على قلب نبى عالى القدر، على لسان مَلَك ذى قدر إلى أمة لها قدر، وغير ذلك.

من خصائصها: هى ليلة لا يحصى أحدٌ من الخلق خصائصها، ولكن بعض منها نتلمسه، فنقول:

سبب وجودها:: إكرام الأمة المحمدية فمن الأخبار التى وردت فى ذلك ما نقله جدنا الإمام الرائد محمد زكى إبراهيم t فى رسالته “خلاصة أحكام الصيام” حيث قال: “..فمن ذلك ما جاء عن مجاهد أنه كان فى بنى إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يحمل سلاحه لجهاد العدو بالنهار حتى يمسى، فعل ذلك ألف شهر، وكأن رسول الله r تقالَّ أعمار أمته فأنزل الله سورة القدر. وكذلك روى علىّ بن عروة قال: ذكر رسول الله r أربعة من بنى إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين، قال: فعجب أصحاب رسول الله r من ذلك فجاء جبريل u يذكر تعجبهم ويقول: إن الله عوضهم خيرا من ذلك، فقرأ عليهم سورة القدر.

موعدها: اختلفوا فى ليلة القدر اختلافا كثيرا. قال ابن حجر فى الفتح: ]وتحصل لنا من مذاهب العلماء فى ذلك أكثر من أربعين قولا. وبعض هذه الأقوال يمكن رده إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنها فى وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين[. وقال الشيخ الأكبر: ]واختلف الناس في ليلة القدر أعني في زمانها فمنهم من قال هي في السنة كلها تدور وبه أقول .. فمن قام من أجل ليلة القدر فقد قام لنفسه وإن كان قيامه لترغيب الحق في التماسها ومن قام لأجل الاسم الذي أقامه رمضان أو غيره فقيامه لله لا لنفسه وهو أتم[. وقال العلماء: إن السبب فى الإخفاء ليقع الجد فى طلبها والاجتهاد فى التماسها لأن ليلة القدر لو عينت فى ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة فى غيرها. هذا ولقد أجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر.

دورانها فى العام: جعلها الله تعالى دائرة منتقلة في الشهور وفي أيام الأسبوع حتى يأخذ كل شهر من الشهور قسطه منها وكذلك كل يوم من أيام الأسبوع كما جعل رمضان يدور في الشهور الشمسية حتى يأخذ كل شهر من الشهور الشمسية فضيلة رمضان فيعمّ فضل رمضان فصول السنة كلها

قدر الثواب فيها: قال تعالى ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ فإذا صادفها الإنسان هي خير له من ألف شهر من غير تحديد وإن كان الزائد على ألف شهر غير محدود فلا يدرى حيث ينتهي فما جعلها الله إنها تقاوم ألف شهر بل جعلها خيراً من ذلك أي أفضل من ذلك من غير توقيت فإذا نالها العبد كان كمن عاش في عبادة ربه مخلصاً أكثر من ألف شهر من غير توقيت، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

فضلها: قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا r فى صدر سورة الفتح ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً*لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً*وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾، وقال r فى الصحيحين مخاطبا أمته «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وفى رواية أحمد زيادة «وَمَا تَأَخَّرَ»، وعلى ذلك يُلْحَق من قامها برسول الله r في المغفرة، فيستر الله تعالى عن عبده ذنبه حتى لا يخجل، كما يستر عن أهل الله خطاب التحريم فما تصرّفوا إلا في مباح، كرامة لهم من ربهم، فكانوا محفوظين بحفظ الله لهم، فذلك جنة معجلة لهم.

وفيه إشارة إلى بيان القدر العالى لنبينا أنه خُوطب من قِبَلِ المولى سبحانه، والأمة مخاطبة على لسان نبيها، وأنه من قامها فَتَح الله له فتحا مبينا، إتماما للنعمة والمنة، هداية للصراط المستقيم، صِرَاطِ اللَّهِ، وكأنه قد خوطب “تَوَجَّه حيثُ شِئْت فَإنَّك منصور نَصْراً عَزِيزا”. وهذه من الأسرار:

أسْرَارٌ مِن نُّورِ الرَّبِّ …تَنْقَدِحُ بِعِلْمٍ فِى الْقَلْب

يُنْبِيكَ بِهَا كَوْنُ الْغَيْبِ … حِبٍّ عَنْ حِبٍّ فى حُب الله

              فَـــقُلْ: جَّــــــــلَّ الله

من واجباتها: التآخى والتحاب والتوادد بين الناس، وعدم التلاحى أو التنازع والمخاصمة، فهذه الأمراض والمساوئ من أسباب رفع تحديد موعد ليلة القدر فلقد ورد فى الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ «إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ».

من علاماتها: لخص ابن حجر أقوال العلماء فقال:]واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل الأنوار فى كل مكان ساطعة حتى فى المواضع المظلمة، وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، وقيل إنه قد يختص بها شخص دون شخص فيكشف لواحد ولا يكشف لآخر ولو كانا معا فى بيت واحد، كما يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده فيختص بها قوم دون قوم، والنبى r لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة وفضل الله واسع ورب قائم تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذى حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنما هى بالاستقامة فإنها تستحيل أن تكون إلا كرامة، بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة والله أعلم. وقال البعض إنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه[. وقال الغزالى فى الإحياء:]وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله[. وقال الشيخ الأكبر:]وعلامتها محو الأنوار بنورها[ وقلت: والأرجح عندى أنها علامات قلبية، كإشراق القلب، بشمس الأمر، قالوا وما شمس الأمر، قلنا سيدنا رسول الله r، وكذلك براحة البال والاطمئنان والسكينة والهدوء.

من اللطائف: ذكر جدنا الإمام الرائد من باب التطريف والتثقيف والاهتمام بهذه الليلة بعض اللطائف حول تحديها منها ما جاء عند علماء الحروف والأعداد فى أن عدد كلمات سورة القدر (30) كلمة، والكلمة السابعة والعشرين منها قوله تعالى ﴿هِيَ﴾. ويقولون أيضا إن لفظ ليلة القدر مكون من (9) أحرف وقد تكرر نص ليلة القدر فى السورة (3) مرات وحاصل الضرب هو 3×9=27، ومن ثم قالوا بأنها ليلة السابع والعشرين.

بدايتها: هى فور أن يبدأ الليل، بأذان المغرب، وجعل سبحانه إضافة الليل إلى القدر دون النهار لأن الليل شبيه بالغيب والتقدير لا يكون إلا غيباً لأنه في نفس الإنسان.

كما أن تقدير الثواب فيها غيب لا يعلم قدره إلا الله، فهل ليست بألف شهر بل كما قررناه سابقا خير من ألف شهر من غير تحديد. فلهذا أمرنا بطلب ليلة القدر وهو الاستجابة لقوله r «الْتَمِسُوهَا» لنستقبلها كما يستقبل القادم إذا جاء من سفره والمسافر إذا جاء من سفره فلا بد له إذا كان له موجود من هدية لأهله الذين يستقبلونه فإذا استقبلوه واجتمعوا به دفع إليهم ما كان قد استعده به لهم فتلك المقادير فيهم وبذلك فليفرحوا ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ، فمنهم من تكون هديته لقاء ربه ومنهم من تكون هديته التوفيق الإلهيّ والاعتصام وكل على حسب ما أراد المُقَدِّر أن يهبه ويعطيه لا تحجير عليه في ذلك، فلا تضيق واسعا أخا العرب.

غايتها: ﴿ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾  وقوله تعالى حتى مطلع الفجر نهاية غاية فإنها تتضمن حرف إلى التي للغاية ولا تكون نهاية إلا عن ابتداء فكان جمعاً فهذه الليلة ليلة جمع. والفجر هو الصبح، والصبح معه الإشراق، والإشراق هو نور الصباح الذى على الأكوان لاح: نُور النَّبٍِى هَلّ علينا. وعندئذ لا كلام:

والْعَجْزُُ هُنَا شَأنُ النُّطْق .. وَالْحُكْمُ لِشَوْقٍ أوْ ذَوْق

                    فَـــقُلْ: جَّــــــــلَّ الله

الجماعة فيها: يكون التماسها في الجماعة بالقيام في شهر رمضان فالجمعية فيها أحق للمناسبة فإن قدرها أعظم من ألف شهر لياليه وأيامه فلها مقام هذا الجمع، كما أنزل الله فيها القرآن قرآناً أي مجموعاً، وأنزله بنون الجمع والعظمة فجمع في إنزاله فيها جميع الأسماء بقوله ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾  وفيها تنزل الملائكة ما نزل فيها واحد والروح القائم فيهم مقام سيدنا أبيّ بن كعب t في الجماعة التي يصلي بهم.

ما يوصى من العمل فيها: من الأدعية النبوية لهذه الليلة «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى»، إلا أن البعض يظن أن العمل فيها مقصور على القيام وقراءة القرآن والاعتكاف، ولا يذكر صلة الأرحام، وعيادة المرضى، ومد يد العون للمحتاجين، وإطعام الطعام، وإفطار الصائم، وغير ذلك بأن تكون محمديا يشع منك النور فيكون قلبك مصدرا للسلام، عسى أن يتجلى علينا السلام بجوار رسول السلام فى دار السلام فى ليلة السلام بالسلام ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾، قال إمامنا الشافعى (يستحب أن يكثر فيها من الدعوات بمهمات المسلمين).

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى