عاجل

النَسَماتُ الرُّوحِيَّة في الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّة بين التأييد والتخطيط بقلم : د / أسامة فخري الجندي

النَسَماتُ الرُّوحِيَّة في الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّة
بقلم : د / أسامة فخري الجندي
001.dvr_snapshot_28.43_[2014.10.29_00.37.12]
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد …
من الأحداث العظيمة التي وقعت في تاريخ الإسلام ، بل وتم التأريخ بها لحياة الإسلام والمسلمين حادث الهجرة ، والتي قد بدأ الحديثُ عنها قبل أن تقع ، وفي الهجرة نظراتٌ رُوحية أحب أن أقف معكم من خلالها ، وهي كالآتي :
– الحديث قبل الحَدَث :
حين نزل عليه الوحي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصافح قلبَه بأول آية ، وهي قوله تعالى : ” اقرأ باسم ربك الذي خلق” ، وعاد رسول الله بعدها إلى السيدة خديجة يرجُفُ فؤادُه ، قَالَتْ خَدِيجَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : ” أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ انْطَلَقْ بِنَا ، فَانْطَلَقَتْ خَدِيجَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ رَجُلاً قَدْ تَنَصَّرَ شَيْخًا أَعْمَى يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : أَىِ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالَّذِى رَأَى مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ ». قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ” ( ) . فالمتأمل في كلام ورقة بن نوفل ، وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ” ، ثم استبعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخرجوه – لأنه لم يكن هناك سبب يقتضى الإخراج ؛ لما اشتمل عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق التي تقدّم من خديجة وصفُها – وقوله : « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » ، ثم التأكيد وبيان العلّة في ذلك الإخراج من ورقة بقوله : ” نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ” أي أن العلة في ذلك هو مجيئه صلى الله عليه وسلم لهم بالانتقال عن مألوفهم ؛ ولأنه – أي ورقة بن نوفل – علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك ، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من هنا .
فالمتأمل إذن في ذلك النص بين رسول الله وورقة بن نوفل يجد دلالةً على سبق الحدَث قبل أن يحدث ؛ حيث أخبر ورقة بن نوفل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيخرج من بلده ، وسيُخرجه منها قومُه ، وسيقع له العداء والتعنت منهم ، مما يضطره للخروج والهجرة من بلده . إذن فالحديث عن الهجرة قد سبق الحدّث نفسه .

– الهجرة بين المدينة والحبشة :
لقد سبق أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، وبيّن سبب ذلك فقال لهم : ” إن بها ملِك عادل ، لا يُظلم عنده أحد ” وسؤالنا هنا : لماذا لم تكن هجرة رسول الله والصحابة بعد ذلك إلى الحبشة كما مرّ ، وكانت إلى المدينة ؟ وللإجابة نقول : إذا قارنا بين الحبشة والمدينة ومدى انتشار الدعوة الإسلامية بعد الهجرة ، فإننا سنجد :
1- أن الحبشة طبيعتها وبيئتها ولغتها أعجمية ، وهي بذلك بعيدة عن البيئة التي هي موطن الدعوة الإسلامية ، وهي البيئة العربية ، ومعنى هذا أنه لو كانت الهجرة إليها ، لفسر ذلك على أن الدعوة الإسلامية غير صالحة للعرب .
2- أنه بالنظر إلى المدينة وموقعها ، سنجد أن لها تميزاً واضحًا من حيث التجارة ؛ وذلك لأن تجارة مكة ذهابًا وإيابًا إنما تأتي عن طريق المدينة ، ومن هنا يمكن التأثير من أهل المدينة على من أتى إليها من مكة
3- كذلك بيئة المدينة قريبة من البيئة المكيّة ، وأيضًا اللغة واحدة وهي العربية ، وهذا بخلاف الحبشة ، فهي تختلف في بيئتها ولغتها عن المدينة ، حيث تتكلم بلغة أخرى وهي لغة الأعاجم ، وهذا معناه أنه لو كانت الهجرة للحبشة لكان في ذلك تأثير سلبي على الدعوة وعلى نشر الإسلام ، ولن يكون هناك الانسجام التام بين المهاجرين وبين مسلمي الحبشة .
4- أنه في المدينة قد أسلم عدد كبير ووفير ، ومن ثَمّ كان هناك الاعتماد عليهم ، هذا بعكس الحبشة ، فبالرغم من أن النجاشي – حاكم الحبشة – مسلم إلا أنه لم يستطع حماية المسلمين المقيمين عنده عندما قامت الثور ضده ، فأمر للمسلمين بسفينة ليغادروا الحبشة إن تم النصر لعدوه .
– ” ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ” [الأنفال : 30]:
من المعلوم أن صفة المكر هي من صفات النقص ، ولكن هذا بالنسبة للبشر ، أما رب البشر فإن هذه الصفة بالنسبة له تعالى ، هي صفة كمال ؛ لأنه بها يبطل مكر الآخرين ، وهذا ما حدث في الهجرة ، فهم يستطيعون بقدرتهم على المكر بِمَنْ هم على شاكلتهم ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محاط بعناية ورعاية الله عز وجل ، ويظهر ذلك في مواطن كثيرة ، منها :
**من يتدبر قوله تعالى : ” وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ” [الأنفال : 30]الكفار أرادوا أن يمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتفقوا في النهاية على قتله ، لكن أمرَهم هذا كان مفضوحًا ومعروفًا لمن لا تخفى عليه خافية ، وهو الله عز وجل ، ومن ثَمَّ عرَّف اللهُ رسولَه بأمرهم وبمكرهم ، فأبطل الله مكرَهم .
**من يتدبر قول الله تعالى : ” غذ أخرجه الذين كفروا ” [التوبة: 40]هذه الآية تجعلنا نتساءل : وهل الكفار بالفعل أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أن الله عز وجل هو الذي أخرج رسوله، وما هو هدف الكفار من ذلك ، وما هو الهدف الأسمى من هجرته صلى الله عليه وسلم ؟ ظاهر الآية يخبر عن أنهم هم الذين أخرجوا رسول الله ، ولكن تحت هذا النص معانٍ يجب الالتفات إليها والانتباه لها ، وهي إذا ما تدبرنا موقفَ الكفار من رسول الله ، سنجد أن عنادَهم وموقفَهم المتآمر على رسول الله وعلى دعوته هو الذي اضطره صلى الله عليه وسلم للخروج ، وهذا – في حقيقته – لم يكن أبدًا هو هدف الكفار ، بل هدفهم هو القضاء على الدعوة وصاحب الدعوة رسول الله ، لكن الله عز وجل أبطل ذلك وسلَّمه من أيديهم ، وحين خرج رسولُ الله ظنّ هؤلاء الكفار أن الدعوة ستضيق ولن تنتشر ، بينما نستطيع أن نقرر هنا أن الهدف الأسمى من هجرة رسول الله ، هو أن دعوته صلى الله عليه وسلم قد انتشرت وساحت في كل القبائل ، فالكفار إخراجهم لرسول الله كان هدفه التعنت أمام دعوته والتضييق عليه والقضاء على الدعوة بتمامها ، لكن الله أراد من هذا الخروج أمرًا آخراً وهو النصر والمؤازرة لرسوله . الكفار قد أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أن يخرجوه إلى مكان بعيد لا يستطيع فيه أن يمارس دعوته فيه ، أو يحبسوه ، إلا أنهم لم يظفروا بشيء من هذا ؛ لأن الله عزيز لا يُغلَبُ .
**كذلك من الأمور المدهشة في حادث الهجرة أنهم قد وقفوا جميعًا أمام بيت النبي ، يترصدون خروجه صلى الله عليه وسلم ليضربوه ضربة رجلٍ واحد فيتفرق دمه في البلاد ، والسؤال هنا : كيف خرج رسول الله من بين أيديهم ، ونحن نعلم أن من يترصد أحدًا ويقف له بالمرصاد فإنه يكون في أتم حالات الانتباه والاستعداد واليقظة والذكاء لينقض على رصدِه ؟ إلا أننا هنا نجد أنفسنا أمام إعجاز حسيٍّ لرسول الله وهو أن يخرج بين أيديهم جميعًا وينثر عليهم التراب ، فتُغْشى أبصارُهم .
**بل إنك تزداد عجبًا حينما تتساءل : وهل ينتظرون خروج رسول الله بأن يفتح باب بيته ، ثم يميل إلى الأرض ليأخذ حفنة من التراب ، ثم بعد ذلك ينثرها في وجوههم ، كل هذا وهم ينظرون إلى رسول الله ويدَعونه يفعل كلَّ ذلك دون أن ينقضَّ أحدُهم عليه ، فالإعجاز هنا أن الله أعمى قلوبهم قبل أنظارهم .
– الراحلة بالثمن :
حينما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بصحبته له في الهجرة ، قال له أبو بكر رضي الله عنه : قَالَ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِالثَّمَنِ ” ( ). وهنا نتساءل : لماذا لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالثمن ، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا ؟ والإجابة : إنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتكون هجرته إلى الله تعالى بنفسه وماله ؛ رغبةً منه صلى الله عليه وسلم في استكمال فضائل الهجرة إلى الله ، وأن يكون على أتم الأحوال ( ) .
– التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب :
من رحمة اله عز وجل بنا أنه وهبنا عقلاً ، وأمرنا أن نتدبر به ونتأمل سننه الكونية ، ونُعمل الأسبابَ فيها ، وسؤالنا هنا : هل السنن الكونية تحابي أحداً على أحد ؟ لا ، إذن فلا بد من الأخذ بالأسباب ، فإذا تعذرت الأسباب وجب أن نجتهد وأن نبذ الوسع ، وهذا يدفعنا إلى نتساءل : كيف كان طريق الهجرة ؟
النبي قد اتخذ طريقًا مخالفًا للطريق المعتاد الذي تذهب فيه قريش إلى المدينة وهو شمال مكة ، واتخذ طريقًا عكسيًا ، وهو جنوب مكة ، وكان في مشيته صلى الله عليه وسلم يمشي بالتعريج ، أي يمينًا تارة ويسارًا تارة أخرى ، والعلة في ذلك أن لا يراه أحد ويعلم بخروجه ومكانه ، وفي أثناء سيره يمر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل عُسفان ، وسمي بذلك لتعسف السيولُ فيه ، ولك هنا أن تتخيل إذا كانت السيول التي لا تقف أمامها شيء تتعسف عند هذا الجبل ، فكيف كان يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، وحين انتهى رسول الله بعد مشقة الطريق إلى ثور ، وبدأ في الصعود إلى هذا الجبل ، وهو جبل عال وَعِر ، وهو عن يمين مكة على مسيرة ساعة بمقاييسنا نحن ، فخذ الأمر هنا بمقاييس رسول الله في وقته ، وبوسيلة المواصلات التي كانت موجودة في عصره . ولنا هنا أن نتسائل عن ارتفاع هذا الجبل ، وتكوينه الصلب ، وما به من أحجار وغير ذلك ، وكيف صعده رسول الله ، وهو حافي القدمين ؟ مع العلم أن النبي في حالة رصد ، أي أن القوم يطلبونه ، ومن ثّم ، فمشية رسول الله سريعة ، وخلفه رصدٌ يريده ، والمطلوب أن يتخفى منهم ، وأن يُسرع في صعوده هذا الجبل ، وقد قيل أن ارتفاع هذا الجبل يبلغ 759 مترًا ، وبه أربعًا وخمسين تعريجة ، وهو طريق حلزوني ، لك أن تتخيل شكل هذا الجبل ، هذا بالإضافة إلى كثرة الرمال التي تنقلها الرياح نقلاً يتعذر معه بقاء الطريق ممهد أصلاً ، نحن إذا سألنا الآن من يصعد هذا الجبل من الناس في عصرنا هذا ، سنجده يخبرنا أنه في كل خمس دقائق يأخذ قسطًا من الراحة ، وقد تم إعداد الجبل بما يتناسب مع صعوده ، أي نقشت السلالم له ، وأصبحت ميسرة للصعود عليها ، بل وهناك أماكن للراحة أُعدت على هذا الجبل ، هذا كله لم يكن موجودًا على عهد النبي حينما صعده ، فإذا تأملت صعود رسول الله للجبل وعلى أرضه الصلبه وارتفاعه الوعر ، دون راحة ، لعلمت قوة وتجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وبل لك أن تتخيل أن فتحة الغار التي دخل منها رسول الله كان عرضها ثلاثة أشبار في شبرين تقريباً ، أي أن من يدخلها لا بد وأن يزحف على بطنه ، ناهيك عن صغر حجم فتحة الدخول ، فكيف حدث كل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
– ( قصَّاص الأثر ) :
وها هو كُرْزُ بن عَلْقَمَة ( قصَّاص الأثر ) ،والذي آلت إليه قريش في أن يتقصى أثر أقدام رسول الله وصاحبه أبي بكر ، ماذا قال كرز حينما تقصّى آثار أقدام رسول الله ؟ وما موقف الكفار من كلامه ؟ لقد تتبَّع كُرز بن علقمة الأثر حتى انتهت آثار الأقدام عند الغار ، وهنا قال : هذه أثر أقدام محمد ، وهو أشبه بالموجود في الكعبة – يقصد أنه أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام – ، ثم قال : وهذه أثر قدم أبي بكر أو قدم ابنه ، ثم وضّح في ثقة ويقين وقال : وما تجوّزا هذا المكان إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض. هذا هو موقف كُرز بن علقمة في تقصّيه أثر رسول الله وصاحبه أبي بكر ، فما هو موقف الكفار من ذلك ؟ إنه وبالرغم من هذا التأكيد الذي أكده لهم كُرز ، إلا أنهم لم يدخلوا الغار ، ولم يخطر ببالهم أن ينظروا فيه ، مع أن آثار الأقدام انتهت عنده ولم يفكِّر أحدُهم في أن يَقْلِبَ الحجرَ أو يفتش عن محمد وصاحبه ، مع أن هذا هو أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن ، فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك ، وهذا دليل على أنه قد عميت قلوبهم قبل عقولهم .
– الكافر في خدمة الإيمان :
إذا تساءلنا وقلنا : من كان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته ؟ ألم يكن هو عبد الله بن أريقط ، وكان ما زال على الكفر ، كيف كان عبد الله بن أريقط أمينًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما زال على الكفر ، وكيف لم يغره الرصد والجائزة العظيمة الذي رصدتها قريش لمن يخبر عن رسول الله ؟ ألا يلفتنا هذا إلى أن الله عز وجل بقدرته جعل هذا الكافر أمينًا على رسول الله ، وسخّره في خدمة الإيمان ونبي الإسلام ؟
– وجعل كلمة الذين كفرو السفلى :
لقد أراد الكفار – كما ذكرنا سابقاً – القضاء على الدعوة بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو نَفْيه بإخراجه إلى مكانٍ بعيد ، أو سجنه ، لكن الله عز وجل أراد أن يلفتنا إلى أن الباطل لا يمكن أن يعلو على الحق ، وأن الحقَّ دائماً هو الأعلى ؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: “وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا” [التوبة: 40]، ومعنى هذا أن الله سبحانه لا يجعل كلمة الكفار السفلى إلا إذا كانت في وقت ما في عُلُو
ولكن: لماذا أوجد الله علواً ولو مؤقتاً للكفر؟ أراد الحق ذلك حتى إذا جاء الإسلام وانتصر على الكفر يكون قد انتصر على شيء عال فيجعله أسفل ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ لأن كلمة الله دائماً وأبداً هي العليا، وليست كلمة الله عُلْيَا جَعْلاً، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا وهي العليا. ولهذا لم يعطفها بالنصب في سياق الآية ؛ لأن كلمة الحق سبحانه وتعالى هي العليا دائماً وأبداً وأزلاً.
– المحبة الصادقة
وإذا سألنا : ماذا فعل أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة ؟ ما هي هذا المحبة الصادقة من أبي بكر لرسول الله ، سأتركك مع هذا النص المبارك للتتأمل موقف أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول أبو بكر : ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنْ الطَّلَبِ أَحَدًا فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالْأُخْرَى فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقْتُهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ( ).
– صدّ الكفار والمقاتلين بأوهى البيوت :
مما هو معلوم لدينا أن أوهى البيوت هو بيت العنكبوت ، وذلك كما قال تعالى:{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 41]. والعنكبوت من الجنود التي سخرها الله عز وجل في رحلة الهجرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد نسج خيوطه على مدخل الغار ، ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في: أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت، وهو بيت العنكبوت ، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور ، وإنْ أُهيجَ هاج ، وهذا في ذاته نصر من الله سبحنه ؛ إذ إنه قد صدّ هؤلاء الكافرين بالرغم من وصولهم إلى مكان رسول الله بأوهى البيوت ، وهو بيت العنكبوت .
راجع الآية من سورة[التوبة: 40]:
فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه: ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما “.
والسؤال هنا : وهل هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر ؟ فأبو بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار، إذن الرد الطبيعي من رسول الله هو أن يقول له : ” لن يرونا ” ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى العليّ الأعلى ، فقال: ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما ” ، لأنه ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله ، والله لا تدركه الأبصار ؛ فمن في معيته لا تدركه الأبصار، أي أنهم يأخذون ملمحاً من ملامح الألوهية هنا ( ) .
– عميت قلوبهم قبل أعينهم :
وأحب أن أَضيف أمراً آخر هنا ، وهو حينما خرج رسول الله من داره ، خرج ملثّمًا ؛ حتى لا يعرف أحد بخروجه ولا يدل عليه إذا رآه وهو على هذه الحالة – أي الملثم – ، ولكني هنا أتوقف وأقول : حتى ولو كان رسول الله ملثمًا ، فإن لرسول الله مشيته الخاصة التي تُطوى الأرض له ، وله صلى الله عليه وسلم عبقه الطاهر ، أي رائحة عرقة ، والتي كانت في ذاتها طيب لبعض أصحابه ويظل الأثر منها يفوح في أرجاء المكان الذي به رائحة عرق رسول الله ، وكذلك للنبي الكريم سمته العظيم ، فهو صلى الله عليه وسلم كان في وجهه نور ، بل إنك قد تعجب حينما تعلم أن لكل لون من الألوان 49 درجة من هذا اللون ، فالأبيض له 49 درجة من اللون الأبيض ، وهكذا سائر الألوان ، وإذا توقّفنا عند اللون الأبيض سنجد أن أقصى درجة من هذا اللون يُسمى بالأزهر ، وإذا ربطنا ذلك بوصف النبي صلى الله عليه وسلم والحديث عن وجهه وأنه كان أزهر اللون كما جاء في بعض الراوايات ، فلك هنا أن تتخيل نور وجه رسول الله ، فإذا لم يُعرف من مشيته ، فأين رائحته ؟ وإذا لم يُعرف من رائحة عرقه فأين نور وجهه ؟ هذا كله ليدلك على أن هؤلاء الكفار قد عميت قلوبهم قبل أعينهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لماذا لا نقيم مجتمعًا إنسانيًّا واحدًا كالذي أٌقامه رسول الله ؟
إننا إذا عدنا إلى صفحات التاريخ وقبل أي تقدم حضاري وقبل ظهور أية مواثيق أو معاهدات أو إقرار أي دستور يسير عليه البلاد ، لوجدنا أن أول وثيقة أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاريخ تقضي بالوحدة الوطنية ، والتي عُرفت باسم ” الصحيفة ” ( ) .
هذه الصحيفة التي تبين أن الألفة بين الجماعات المختلفة على أرض واحدة هي حجر الأساس في بناء الوطن ، وهي السبيل إلى بناء مستقبل قوي يتمتع به أبناء الوطن .
هذه الصحيفة التي أرست أسمى القواعد وهي كرامة النفس – مطلق النفس الإنسانية – وحرية العقيدة ، والتعايش السلمي والإخاء الإنساني .
إننا بالنظر إلى مجتمع المدينة حينما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا وجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد في المدينة مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الاعتقاد ، والانتماء ، والتعايش ، وغير ذلك ، لقد كان في المدينة المهاجرون الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش ، وكان هناك المسلمون من الأوس والخزرج ، وكان هناك الوثنيون غير الموحدين ، وكان هناك اليهود ، وهم يومئذ قبائل ثلاثة ، بنو قينقاع ، وبنو النضير، وبنو قريظة ، وكان هناك الأعراب الذين يساكنون أهل المدينة ، وكان هناك الموالي ، والعبيد، وغيرهم .
إذن هو مجتمع فيه مهاجرون ، وأوس وخزرج منهم المسلمون، ومنهم الوثنيون ، ومنهم اليهود ، والأعراب، والعبيد . ومع هذا التنوع وذلك المزيج المختلف ، فقد وفَّقَ النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الانتماءات ، وبين هذه الاتجاهات وتلك الأديان ، بين المؤمنين بدين ، وبين الوثنيين . وأكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وبيّن أن أهل المدينة جميعًا أمة واحدة ، سلمهم واحدة ، وحربهم واحدة .
وهكذا مضى الإسلام يرسم منهج الوحدة ، ويضع أسس التآخي ، وينظم المجتمع في وحدة الصف ، وحدة لا تعرف تفرقة بين جنس وجنس ، ولا بين لون ولون ، ولا بين طبقة وأخرى ( ) . وهذا الذي نحن في أمس الحاجة إليه اليوم ، كي نستطيع أن نقف في وجه الفتنة الداخلية منها والخارجية . فلماذا لا نقيم مجتمعًا كالذي أقامه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى