عاجل

بين الدين والسياسة، لوزير الأوقاف

لاشك أن هناك مكونات لحياة الأفراد والمجتمعات هي كالماء والهواء لا غنى عنها ولا مفر منها ، بل هي أشبه ما يكون بالفطرة ، فالناس مفطورون على التدين ” فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” ( الروم : 30 ) ، فالنفس تنزع بفطرتها إلى الدين أيًّا كان اتجاه هذا الدين ، وحتى من يحاولون مقاومة هذه الفطرة ، فإنها تظل تنازعهم و تراودهم وتشغل كيانهم النفسي بصورةٍ أو بأخرى ، أما الشاذ من الأشياء والأفكار والطباع فلا يُقاس عليه.

      على أن حال المجتمعات المدنية وحتى غير المدنية يتطلب عقدًا ينظم حياة الناس ، وقوام أي دولة يقوم على أرض وشعب ونظام حكم ، فلا دولة بلا أرض ، أو بلا شعب ، أو بلا نظام حكم ، والعلاقة بين الدين والسياسة لا يمكن في وضعها الصحيح ومنطقتها الوسطى أن تشكل أزمة أو مشكلة شريطة وضع الديني في موضعه والسياسي في موضعه ، فالدين يضبط العلاقة التي بينك وبين الله – عز وجل – في المعتقد والتعبد ، على أن تكون حركات حياتك وسكناتها منضبطة بضوابط القيم والأخلاق والسلوك السوي الذي يحقق مصالح البلاد والعباد على أسس وقواعد عامة ، كقاعدة ” لا ضرر ولا ضرار ” وغيرها من القواعد العامة في تنظيم حركة الحياة على أساس قويم.

      أما ما يتصل بتنظيم حياة الناس وحركتها ونظام الحكم وخلافه، فلم يضع الإسلام لها قالبا جامدا صامتا يصب الناس فيه صباً ، وإنما وضع لذلك أسساً وقواعد عامة من أهمها : تحقيق العدل ، ومنع الفساد ، والعمل على قضاء حوائج الناس ، وتمكينهم من أداء مناسكهم وشعائرهم دون تضييق ، وفي إطار ما يحفظ الأمن والسلم العام للمجتمع كله , ولا يحدث فتنا أو اضطرابات تضر بأمن المجتمع وسلامه ، فكل ما يحقق هذه الأهداف العامة هو حكم رشيد بغض النظر عن شكله ومكوناته وآليات حركته ، فمن المتفق عليه بين العقلاء والعلماء المعتبرين أن الأمور المتصلة بحركة حياة الناس ومعاملاتهم ونظام حكمهم تختلف من زمان إلى آخر ، ومن مكان إلى آخر ، ومن مجتمع إلى آخر ، وأن كثيرًا من الأحكام التفصيلية المرتبطة بذلك تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، وعلى الناس أن يبحثوا عما يصلح أحوالهم ، وما يحقق لهم الرخاء والنماء والازدهار والتقدم والرقي في ضوء الفكر المتجدد ، وليس الفكر الجامد عند ظواهر النصوص أو أقوال بعض العلماء أو الفقهاء المتقدمين الذين أفتوا بما يناسب زمانهم ومكانهم وبيئتهم ، وربما أصبحت بعض فتاواهم لا تناسب زماننا ولا مكاننا ولا أحوالنا ، بل صرنا في حاجة إلى عقول مستنيرة قادرة على الاجتهاد بما يواكب مستجدات العصر ومستحدثاته وطبيعته .

      ولكن الطامة التي ابتلينا بها في زماننا فهي تلك الفئات والعناصر والجماعات التي تتاجر بدين الله -عز وجل – وتستخدمه في تحقيق مصالحها الخاصة سياسية كانت أم حزبية أم انتخابية أم شخصية ، وتلك التي أصيبت بالجمود في الرأي والانغلاق في الفكر والعقل وانسداد الأفق الثقافي ، وانعدام الرؤية ، فصارت تحفظ بعض الآراء في بعض المسائل الفقهية التي ناسبت عصرها وزمانها ومكانها ، وتسقطها إسقاطًا خاطئًا حتى على أمور وقضايا غير مشابهة بدون علم ولا فقه ولا وعي ، ولا إحاطة بفقه الواقع أو فقه الأولويات أو فقه المقاصد ، ويريدون أن يحملوا الناس حملا على رؤيتهم ، مع إلباس المباحات لباس الفرائض والواجبات ، وإلباس المكروهات أو ما هو خلاف الأولى لباس المحرمات المهلكات المنكرات ، وإلباس الأمور العادية لباس العقائد وأصول الدين ، مكفرين بغير تكفير ، ومفسقين بغير تفسيق ، منفرين لا مبشرين ، ساخطين على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم وعلى أوطانهم ، لا يؤمنون بغير أنفسهم ، لا هم علماء ولا حتى طلاب علم حقيقيين ، هم ما بين جاهل مغرور مغرر به مضلل مخدوع ، وصاحب دنيا يريد أن يصيبها من أي جهة وأن يركب لإصابتها أي مركب ، حتى لو كان الكذب والخداع ، أو ذبح البشر أو حرقهم أو جلدهم أو التنكيل بهم في إجرام لا علاقة له بالإسلام ولا بالأديان ولا بالآدمية ولا بالإنسانية .

      ومن العجب العجاب المدهش المفجع المؤلم المفظع تلك الجماعات التي تظن أنها تخدع الناس وفي الواقع لا يخدعون إلا أنفسهم لأن الناس شبت عن الطوق واستفاقت من الخداع ، ومن هذا الخداع المكشوف ما كان من جماعة الإخوان الإرهابية حين قسموا أنفسهم إلى حزب هو حزب الحرية والعدالة ، وجماعة هم جماعة الإخوان الإرهابية ، قائلين إن الحزب للسياسة والجماعة للدعوة ولا علاقة ولا رابط بينهما كذبًا وزورًا وبهتانا ، وما الحزب إلا ذراع سياسي للجماعة ، وما الجماعة إلا رافد مجتمعي للحزب ، وكلاهما يعمل لصالح الجماعة وأفرادها وتمكينهم وإقصاء غيرهم ، فكان ما كان من المخاطر التي عرضّت أمننا القومي للخطر ؛ لإيثارهم مصلحة الجماعة وتنظيمها الدولي على المصلحة العليا للوطن ، لأنهم لا يؤمنون بوطن ولا بدولة وطنية .

       ومن ثمَّة فإننا نؤكد أن هذا الخلط وتوظيف الدين للسياسة قد جرَّ على مجتمعنا ووطننا ومنطقتنا كثيرًا من المشكلات ، فقد اختبرنا أكثر هذه الجماعات وتلك التنظيمات فرسبوا في جميع الاختبارات ، ففي الوقت الذي كنا نسمع فيه كلاما حاسما بفصل الأجنحة الدعوية لهذه الجماعات عن العمل الحزبي ودعمه سياسيًا أو انتخابيًا ، كنا نلمس على أرض الواقع كذب هؤلاء جميعا ورسوبهم في كل الاختبارات ، ففي اللحظات الحاسمة والمواقف الفاصلة تجد تلك الجماعات الدعوية قد انتفضت وهبت عن بكرة أبيها لمناصرة الحزب الذي ينتمي إليها أو تنتمي هي إليه ، ضاربة بكل العهود والمواثيق الدينية والمجتمعية عرض الحائط ، بحيث سار الأمر مكشوفا مرئيا رأي العين ، مما يجعلنا نطالب وبشدة ، ونعمل وبحسم ، وندعو إلى عدم توظيف الدين أو المذهبية أو الطائفية لأغراض حزبية أو انتخابية ، لأن ذلك كله يؤجج الصراع المجتمعي ، ويسيئ للدين ، ويشوه الوجه النقي لحضارتنا العظيمة الراقية ، فخدمة الدين شيء واستخدامه للمصالح الخاصة شيء آخر .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى