الخطبة المسموعةخطبة الأسبوععاجل

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ، للدكتور محمد حرز

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 17 ربيع الأول 1446هـ ، الموافق 20 سبتمبر 2024م. 

 

لتحميل خطبة الجمعة القادمة 20 سبتمبر 2024م بصيغة word بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ، للدكتور محمد حرز.

 

لتحميل خطبة الجمعة القادمة 20 سبتمبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ، للدكتور محمد حرز.

 

عناصر خطبة الجمعة القادمة 20 سبتمبر 2024م بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.

 

أولًا: ميلادُ النبيِّ المختارِ ﷺ خيرٌ وبركةٌ.

ثانيــًــا : الـمَوْلـــِدُ الـنَّبَوِيُّ .. دُرُوسٌ تَتَجَدَّد.

ثالثًا وأخيرًا: ماتَ أكرمُ الخلقِ على اللهِ .

 

ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 20 سبتمبر 2024م بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا : كما يلي:

 

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) للدكتور/ مُحمد حرز

بتاريخ 17 ربيع الأول 1446هـ ، الموافق 20 سبتمبر 2024م

الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ:  ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ سورة يونس ءاية 58 ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وليُّ الصالحينَ، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ مِن خلقِهِ وخليلُهُ، خيرُ مَن صلَّى وصامَ، وبكى مِن خشيةِ ربِّهِ حينَ قام، القائلُ كما في حديثِ أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ: سُئِلَ رسولُ اللهِ  عن صَومِ يومِ الاثنَينِ فقالَ: “ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ )رواه مُسْلِمٌ)، فاللهُمَّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ  المختارِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أمَّا بعدُ: فأوصيكُم ونفسي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران :102)

عبادَ الله) :  وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا.

أولًا: ميلادُ النبيِّ المختارِ ﷺ خيرٌ وبركةٌ.

ثانيــًــا : الـمَوْلـــِدُ الـنَّبَوِيُّ .. دُرُوسٌ تَتَجَدَّد.

ثالثًا وأخيرًا: ماتَ أكرمُ الخلقِ على اللهِ .

أيُّها السادةُ: ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلي أنْ يكونَ حديثُنَا عن: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)، وخاصةً ونحن في شهرِ ربيعِ الأنوارِ شهرِ مولدِ سيدِ الأنامِ  ، وخاصةً والأمةُ الاسلاميةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِهَا تحتفلُ بذكرَى ميلادِ المختارِ ، وخاصةً ولقد حددتْ وزارةُ الأوقافِ هذا الشهرَ كلَّهُ بالحديثِ عن سيدِ الأنامِ ابتهاجًا وفرحًا وسرورًا وأنسًا بمولدِهِ الشريفِ ﷺ، وخاصةً ولقد مدحَ اللهُ وأثنَى علي نبيِّهِ يحيَ عليهِ السلامُ بيومِ مولدِهِ، فقالَ جلَّ وعلا: ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا )، فكيفَ بسيدِ الأنبياءِ وإمامِ النبيينَ وسيدِ المرسينَ وقائدِ الغُرِّ المحجلين؟ وكيفَ بسيدِ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخر وأولِ مَن تنشقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ ولا فخر؟ وخاصةً وما أجملَ أن يكونَ الحديثُ عن رسولِ اللهِ  ، وما أحلَى أنْ يكونَ الحديثُ عنهُ وكيفَ لا؟ وهو إمامُ الأنبياءِ وإمامُ الأتقياءِ وإمامُ الأصفياءِ، وكيف لا؟ وهو قدوتُنَا وأسوتُنَا ومعلمُنَا ومرشدُنَا بنصٍّ مِن عندِ اللهِ، والحديثُ عن رسول اللهِ  حديثٌ جميلٌ رقيقٌ رقراقٌ طويلٌ لا حدَّ لمنتهاهُ، وكيف لا؟

مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ***مُحَمَّدٌ خَيْرٌ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

مُحَمَّدٌ باسِطُ المَعْرُوفِ جَامِعَةً***مُحَمَّدٌ صاحِبُ الإِحْسانِ والكَرَمِ

مُحَمَّدٌ تاجُ رُسْلِ اللهِ قاطِبَةً***مُحَمَّدٌ صادِقُ الأٌقْوَالِ والكَلِمِ

مُحَمَّدٌ ثابِتُ المِيثاقِ حافِظُهُ***مُحَمَّدٌ طيِّبُ الأخْلاقِ والشِّيَمِ

مُحَمَّدٌ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ مِنْ مُضَرٍ***مُحَمَّدٌ خَيْرُ رُسْلِ اللهِ كُلِّهِمِ

العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

أولًا: ميلادُ النبيِّ المختارِ ﷺ خيرٌ وبركةٌ.

أيُّها السادةُ : لقد كان ميلادُ الرسولِ   ميلادَ أُمَّةٍ، وميلادَ فجرٍ جديدٍ، وميلادًا للقيمِ والأخلاقِ وميلادًا للحضارةِ الراقيةِ وميلادًا للإنسانيةِ كلِّهَا، كانَ ميلادُ النبيِّ ﷺ وبعثتُهُ مولدًا لنورِ الإسلامِ، وضياءَ الحقِّ المبين، الذي تبدَّدتْ بهِ ظلماتُ الشركِ والكفرِ، وزالَ به الرّانُ الذي طُبعَ على قلوبِ كثيرٍ مِن الناسِ، فكانَ رحْمَةً مُهْداةً للعالَمين والنعمةَ المسداةَ، وهو السراجُ المنيرُ بأبِي هو وأمِّي ﷺ قال جلَّ وعلا:  { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا { الأحزاب:45-46، وفي القرآنِ سراجانِ، سراجٌ وهاجٌ وهو الشمسُ، وسراجٌ منيرٌ وهو مُحمدٌ ﷺ والفرقُ بينهمَا أنَّ السراجَ الوهاجَ نورٌ وحرارةٌ، وأنَّ السراجَ المنيرَ نورٌ بلا حرارةٍ، الشمسُ تؤذيكَ بحرِّهَا صيفًا، ونورُ مُحمدٍ ﷺ يهديكَ صيفًا وشتاءً، الشمسُ كلمَا ازددتَ منهَا قربًا تصيبكَ بالأمراضِ، ونورُ مُحمدٍ ﷺ كلمَا ازددتَ منهُ قربًا ازددتَ مِن الملكِ العلامِ حبًّا، الشمسُ تغيبُ ليلًا، ونورُ مُحمدٍ ﷺ لا يغيبُ ليلًا ولا نهارًا. يا مصطفَى

أنتَ الذى مِن نورِهِ البدرُ اكتسَى***  والشمسُ مشرقةٌ بنورِ بهاكَ

أنتَ الذي لما رفعتَ إلى السمَا بكَ***قد سمتْ و تزينتْ لسراكَ

أنتَ الذي نادكَ ربُّكَ مرحبا ***ولقد دعاكَ لقربهِ و حباكً

ماذا يقولُ المادحون و ما عسى ****أنْ يجمعَ الكتّابُ مِن معناكَا

فَمَوْلِدُهُ – بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي – كَانَ مَوْلِدًا عَظِيمًا، فَلَقَدْ أَحْيَا اللهُ بِهَذَا الْوَلِيدِ الْمُبَارَكِ الْبَشَرِيَّةَ بَعْدَ امْـتِهَانِهَا، وَانْتَشَلَ بِهِ الإِنْسَانِيَّةَ مِنَ انْحِطَاطِهَا. وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَالإِنْسَانُ يَصْرَعُهُ ظُلْمُ الإِنْسَانِ، يَعْدُو الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مُتَسَلِّطًا، وَيَعْلُو الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ مُسْـتَعْبِدًا، وَهُدَّتْ مَنْظُومَةُ الأَخْلاقِ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَأَرَادَ اللهُ بِالإِنْسانِيَّةِ رَحْمَةً بِمَوْلِدِ هَذَا الرَّسُولِ الأَمِينِ ﷺ ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء ” ، فقال سُبْحَانَهُ مُبَيِّنًا مِنَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ : ” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) ال عمران ” و ما أحسنَ ما قالَهُ الحافظُ الشمسُ مُحمدٌ بنُ ناصرِ الدينِ الدمشقِي‌ في ذلكَ:

إِذَا كَانَ هَذَا كَافِرًا جَاءَ ذَمُّهُ … وَتَبَّتْ يَدَاهُ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدَا
أَتَى أَنَّهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ دَائِمًا … يُخَفَّفُ عَنْهُ لِلسُّرُورِ بِأَحْمَدَا
فَمَا الظَّنُّ بِالْعَبْدِ الَّذِي عاش عمره … بِأَحْمَدَ مَسْرُورًا وَمَاتَ مُوَحِّدَا

فلماذا نفرحُ بسيدِنَا رسولِ اللهِ ﷺ ؟

إنَّهُ يحقُّ لنَا أنْ نفرحَ ونفخرَ ونرفعَ رؤوسَنَا عاليةً إلى السماءِ بأنْ جعلنَا اللهُ مِن أمةِ سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ ، وإنِّي أرجوهُ تباركَ وتعالَى أنْ لا يخرجنَا مِن هذه الدنيا إلّا على تلكَ النعمةِ التي منَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بهَا علينَا، وهي نعمةُ الإيمانِ بهِ ونعمةُ الإيمانِ برسولِهِ ﷺ.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ وهو حبيبُنَا وشفيعُنَا في يومِ القيامةِ، وهو ﷺ أسوتُنَا وقدوتُنَا ومعلمُنَا ومرشدُنَا.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ ونبيُّنَا ﷺ كان سببًا في هدايتِنَا، فبهِ ﷺ عرفنَا النعمةَ العظمَى نعمةَ التوحيدِ، بهِ ﷺ طهَّرنَا اللهُ مِن الضلالِ والشركِ والكفرِ، ولولا رسولُ اللهِ ﷺ ما عرفنَا اللهَ، فبنعمتِهِ ﷺ عرفنَا النعمةَ العظمَى، لذلكَ منَّ اللهُ علينَا بهِ، فقالَ تعالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}. وبهذه المنةِ أكرمنَا بالمنةِ الأعظمِ منهَا وهي نعمةُ الإيمانِ باللهِ تعالَى {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ}. وقد هدانَا للإيمانِ بهِ ﷺ، كمَا قالَ ﷺ: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمْ اللَّهُ بِي)؟ رواه مسلم. ونحنُ إنْ شاءَ اللهُ على قدمِ الأنصارِ.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ ونبيُّنَا ﷺ أولَى بِنَا مِن أنفسِنَا، فليسَ هو أولَى بِنَا مِن آبائِنَا وأمهاتِنَا فحسب، بل هو أولَى بِنَا مِن أنفسِنَا، كما قالَ ربُّنَا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}. وكما قال ﷺ: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) رواه مسلم. وقال ﷺ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ هَلَكَ وَتَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَإِنِّي مَوْلاهُ) رواه مسلم.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ ونبيُّنَا  ﷺ بكَى علينَا عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ  تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سيدنا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (إبراهيم:36) ، وَقَولَ سيدِنَا عِيسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (المائدة:118) ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي» وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ»  رواه مسلم.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ ونبيُّنَا وهو الذي اشتاقَ لرؤيتِنَا، قالَ فيمَا رواهُ أحمدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « وَدِدْتُ أَنِّى لَقِيتُ إِخْوَانِي“ قَالَ فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي((   الله أكبر.

لماذا لا نفرحُ ونفتخرُ ولا نحتفلُ بنبيِّنَا ﷺ؟ ونبيُّنَا  ﷺ حريصٌ علينَا، كما قالَ ربُّنَا: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم}. فكان النبيُّ ﷺ حريصًا على نجاتِنَا مِن نارِ جهنم، كما جاء في الحديثِ الصحيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتْ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ) رواه مسلم.

ومِن حرصِهِ ﷺ علينَا أنْ خبَّأ دعوتَهُ لنَا ليومِ القيامةِ، فقالَ ﷺ: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) رواه مسلم. إذًا مِن حقِّنَا أنْ نفرحَ ونفتخرَ ونعتزَّ بهذا الحبيبِ الأعظمِ ﷺ، تطبيقًا لقولِهِ تعالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون}

هـذا الـحبيـبُ الذي في مدحِهِ شرفِي *** وذكُرُهُ طيبٌ في مسمعِـي وفـمِـي

هذا أبو القـاسـمِ المـخـتـارُ مِن مُضَرِ ** هــذا أجـــلُّ عـبـــادِ اللـهِ كـلِّــهِـــمِ

هذا هو المصطفَى أزكَى الورَى خلقًا ** سبحانَ مَن خصَّهُ بالفضلِ والكرمِ

هذا الذي لا يصحُّ الفرضُ مِن أحـــدٍ**ولا الآذانُ  بـلا ذكـرِ اسـمِـهِ الـعَـلَـمِ

العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

ثانيــًــا : الـمَوْلـــِدُ الـنَّبَوِيُّ .. دُرُوسٌ تَتَجَدَّدُ.

أيُّها السادةُ : مِن رحمةِ اللهِ بعبادِهِ المؤمنينَ أنْ بعثَ فيهِم خيرَ رسلِهِ وخاتمَ أنبيائِهِ وأفضلَ خلقِهِ سيِّدَ ولدِ آدمَ، وأنزلَ عليهِ القرءانَ وأيّدَهُ بالحجةِ والبرهانِ، فهو رسولٌ مصطفَى، ونبيٌّ مجتبَى، نبيٌّ عظيمٌ وإمامٌ كريمٌ، قدوةٌ للأجيالِ وأسوةٌ للرجالِ ومضربُ الأمثالِ وقائدُ الأبطالِ، معصومٌ قلبُهُ مِن الزّيغِ، ويمينُهُ مِن الخيانةِ، ويدهُ مِن الجورِ، ولسانُهُ مِن الكذبِ، ونهجهُ مِن الانحرافِ، ما سجدَ لصنمٍ ولا اتّجهَ لوثنٍ، ما مستْ يدهُ يدَ امرأةٍ لا تحلُّ لهُ، ولا شاركَ قومَهُ في لهوٍ ومجونٍ، طهّرَ اللهُ فؤادَهُ، وحفظَ رسالتَهُ، وأيّدَ دعوتَهُ، ونصرَ ملّتَهُ، وأظهرَ شريعتَهُ، ختمَ بهِ أنبياءَهُ، ونصرَ بهِ أولياءَهُ، وكبتَ بهِ أعداءَهُ, وخصَّهُ بفضائلَ كثيرةٍ لا تُحصَى يومَ القيامةِ، ولله در القائل

فمبلغُ العلمِ فيهِ أنّهُ بشرٌ   *** وأنّهُ خيرُ خلقِ اللهِ كلِّهِم

أغرٌ عليهِ للنبوةِ خاتمٌ *** مِن نورٍ يلوحُ ويشهدُ

وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ لاسمهِ  *** إذْ قالَ في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ

وشقَّ لهُ مِن اسمهِ ليجلَّهُ  ***  فذُو العرشِ محمودٌ وهذا محمدٌ

وإِنَّ مَوْلِدَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ لَيَحْوِي دُرُوسًا جَلِيلَةً، حُقَّ لَهَا أَنْ تُدْرَسَ وَتُدَرَّسَ، وَحُقَّ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَمُجْـتَمَعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مُرَبِّيًا ومُهَذِّبًا، وَلِمُسْـتَقْبَلِهِمْ مُوَجِّهًا منها على سبيل المثال والحصر:

 إِنَّ الْمَوْلِدَ النَّبَوِيَّ يُعْطِينَا دَرْسًا فِي الأَمَلِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ جلَّ وعلَا، فَظَلامُ الْجَهْـلِ وَالْجَهالَةِ، وَالانْحِلالِ وَالضَّلالَةِ، مَهْمَا اشْتَدَّ فَفَجْرٌ مِنَ اللهِ آتٍ، وَمَهْما ضاقَتْ بِالأُمَّةِ الْكُرُوبُ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهَا الْخُطُوبُ؛ فَالْفَتْحُ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَلَهَا مِنَ النَّصْرِ نَصِيبٌ، قال جلَّ وعلا: (كَتَبَ اللهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وقال جلَّ وعلا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ)، وقال جلَّ وعلا: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، وصدقَ المعصومُ إذ يقولُ كمَا في حديثِ تميمٍ بنِ أوسٍ الدارِي رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَلَهُ اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ)، رواه أحمد.

كَمَا أَنَّ ذِكْرَى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ تُعْطِينَا دَرْسًا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، وَرُسُوخِ الْمَبْدَأِ؛ فَهِيَ تُذَكِّرُنَا بِسَيْرِ دَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَقَدْ بَدَأَ الْمُصْطَفَى ﷺ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَحِيدًا يَوْمَ أَنْ بَعَثَهُ اللهُ فِي مُجْـتَمَعٍ يَعُجُّ بِالْمُتَنَاقِضَاتِ، وَتَمُوجُ فِيهِ الْفِتَنُ، فَكَانَ ثَابِتًا عَلَى مَبَادِئِ الدِّينِ، صَادِحًا بِالْحَقِّ رَغْمَ إِغْرَاءِ الْجَاهِلِينَ، شَامِخًا رَغْمَ تَهْدِيدِ الْمُجْرِمِينَ، لَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَائِبَ الرَّجَاءِ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُ مُتَحَدِّثًا بِلِسَانِ قَوْمِهِ عَارِضًا عَلَيهِ الدُّنْيَا وَوَاضِعًا عِنْدَ قَدَمَيْهِ الْمُغْرِيَاتِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ، فَلَمَّا رَأَى مِنْ ثَبَاتِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ وَسَمِعَ مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ أَدْرَكَ فَشَلَ مُهِمَّـتِهِ، وَعَلِمَ الْحَقَّ لَكِنَّهُ جَحَدَهُ، فَكَانَ بِعِنَادِهِ مَهِينًا، وَمُعْـتَدِيًا أَثِيمًا. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوَجِّهًا رَسُولَهُ الْكَرِيمَ إِلَى الثَّبَاتِ لِعِظَمِ الأَمَانَةِ، مَعَ قُوَّةِ الْمُعَارَضَةِ، وَشِدَّةِ الْمُعَانَاةِ: ” قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ” سورة الكافرون ،وَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي ذَلِكَ الثَّبَاتِ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ قَبْـلَهُ، فَكُلُّهُمْ وَاجَهُوا الْمِحَنَ وَالشَّدَائِدَ، فَثَبَتُوا وَصَبَرُوا، فَكَانَ اللهُ مَعَهُمْ حافِظًا وَنَاصِرًا، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ” وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الأنعام )، نَتَعَلَّمُ مِنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى ﷺ دَرْسًا عَظِيمًا فَحْوَاهُ أَنَّ الإِيمَانَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِلنَّصْرِ وَالتَّمْـكِينِ، لَقَدْ كَانَ مَوْلِدُ الْمُصْطَفَى ﷺ فِي حَقِيقَتِهِ مَوْلِدًا لأُمَّةٍ جَدِيدَةٍ، أُمَّةٍ خَرَجَتْ مِنَ الْعَدَمِ فَحَازَتِ الْخَيْرِيَّةَ بَيْنَ الأُمَمِ. إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى حَالِ الْعَرَبِ قَبْـلَ وِلاَدَةِ أُمَّةِ الإِسْلامِ فِيهِمْ لَيَرَى أَنَّ بِنَاءَ حَضَارَةٍ بِهِمْ ضَرْبٌ مِنَ الْخَيَالِ، فَأَرْضُهُمْ قَاحِلَةٌ، وَقَبَائِلُهُمْ مُتَنَاحِرَةٌ، وَصِلاتُهُمْ مُمَزَّقَةٌ، وَضَلالاتُهُمْ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ بَزَغَ فِيهِمْ نُورُ الإِيمَانِ وَارْتَفَعَتْ فِيهِمْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ، كَوَّنُوا فِي سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ دَولَةً رَاسِخَةَ الأَرْكَانِ، وَبَنَوْا بَعْدَ ذَلِكَ حَضَارَةً مَتِينَةَ الْبُنْيَانِ، فَأَيَّ أَسْبَابِ الْحَضَارَةِ حَازُوا؟ وَبِأَيِّ عَوَامِلِ الرُّقِيِّ فَازُوا، لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّصْرُ وَالتَّمْـكِينُ؟ إِنَّهُ الإِيمَانُ الصَّادِقُ – عِبَادَ اللهِ -، الإِيمَانُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ، إيمَانٌ بِهِ رَاسِخٌ، وَوُقُوفٌ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْـيِهِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الَّذِي يُمَزِّقُ حُجُبَ الضَّلالاتِ، وَيُقَوِّي فِي الْمُجْـتَمَعِ الصِّلاتِ، الإِيمَانُ الَّذِي يُنَقِّي الْقُلُوبَ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَيَدْفَعُ الْهِمَمَ إِلى الْبِنَاءِ، وَيُحَرِّكُ فِي الْعُقُولِ الْمَلَكَاتِ، وَيُفَجِّرُ فِي النُّفُوسِ الطَّاقَاتِ، فَهُوَ عَامِلٌ أَسَاسِيٌّ تَتَحَرَّكُ مَعَهُ وَبِهِ الْعَوَامِلُ اللازِمَةُ لِمُجْـتَمَعٍ صَالِحٍ، وَنَهْضَةٍ رَاقِيَةٍ، وَحَضَارَةٍ قَوِيَّةٍ. لَقَدْ وَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعْدًا صَادِقًا أَنَّ مَعَ الإِيمَانِ الْحَقِّ نَصْرًا وَفَتْحًا وَتَمْـكِينًا، يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) النور ” ، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : ” وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج “، فَالنَّصْرُ حَلِيفُ الإِيمَانِ، وَالْعِزَّةُ قَرينةٌ لَهُ.

كَمَا أَنَّ ذِكْرَى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ تُعْطِينَا دَرْسًا فِي تفريجِ الكروباتِ وتيسيرِ الصعابِ فمِن سننِ اللهِ في الكونِ أنَّ الضياءَ يأتِي بعدَ الظلامِ، وأنَّ الفرجَ يأتِي بعدَ الضيقِ، وأنَّ اليسرَ يأتِي بعدَ العُسرِ فكانَ ميلادُ النبيِّ العدنانِ   ميلادُ أمةٍ، قال ربُّنَا: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا  (الشرح: 5- 6.

يا صاحبَ الهمِّ إن الهمَّ منفرجٌ *** أبشر بخيرٍ فإنّ الفارجَ الله

إذا بُليتَ فثق بالله وارضَ به*** إنّ الذي يكشفُ البلوى هو اللهُ

اليأسُ يقطعُ أحيانًا بصاحبه *** لا تيأسنَّ فإنّ الفارجَ اللهُ

اللهُ يُحدثُ بعد العسرِ ميسرةً*** لا تجزعنَّ فإنّ الكافيَ اللهُ

واللهِ مالكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ  *** فحسبكَ اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ

فمهما عظمتْ مصيبتُكَ، وكبرَ همُّكَ، وازدادَ غمُّكَ، فاعلمْ أنَّ مع العسرِ يُسرًا، ومع الكربِ فرجًا، و على قدر عظم المحنة يأتي عظيم المنحة: وللهِ درُّ الشافعي:

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى***ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها***فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

نَتَعَلَّمُ مِنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى ﷺ دَرْسًا عَظِيمًا  في حياةِ اليتيمِ، فولدَ ﷺ يتيمًا فكان يتمُهُ تشريفًا لكلِّ يتيمٍ على ظهرِ الأرضِ إلى يومِ أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليهَا، لذا خاطبَهُ اللهُ بقولِهِ: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا” وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

وحياة اليُتْمِ والفَقْدِ للوالدينِ والجدِّ التي عاشَهَا مُحمدٌ ﷺ فقد كانتْ درسًا للصَّحْبِ وللأمةِ مِن بعدِهِ، فهذه المعاناةُ صقلتْ نفسَهُ ونفسيتَهُ وشخصيتَهُ، فزكتْ فيهِ جذوةَ الإشفاقِ والعطفِ على المساكينِ واليتامَى والحزنِ لآلامِهِم ، كيف لا وهو الرحمةُ المهداةُ مِن اللهِ والنعمةُ المسداةُ ، قالَ تعالَى فيهِ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 ، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه الترمذي، فالتربيةُ الربانيةُ التي تلقاهَا صنعتْ منهُ رجلًا صلبًا وقائدًا فذًّا أهلًا للمسؤوليةِ متمسكاً بالرسالةِ راسخَ الإيمانِ ثابتاً في مواجهةِ المصائبِ والمصاعبِ، فكانَ النبراسَ الذي يضيءُ الطريقَ ويكشفُ معالمَهَا للأمةِ كلِّهَا مِن بعدِهِ، وكان المثلَ الأعلَى لهَا ، فانعكستْ هذهِ الميزاتُ في شخصياتِ أبنائِهَا وقادتِهَا الذين تأسَّوْا بهِ وبسيرتِهِ الطاهرةِ.

نَتَعَلَّمُ مِنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى ﷺ دَرْسًا عَظِيمًا  في الأخلاقِ وجميلِ الصفاتِ وإنَّهُ لدرسٌ ثمينٌ أنْ تتمثلَ الأمةُ أخلاقَ نبيِّهَا مُحمدٌ ﷺ: فمَن يبحثْ في أخلاقِهِ يجدْ نفسَهُ أمامَ أعظمِ عظماءِ الإنسانيةِ، فقد وصفَهُ ربُّنَا عزَّ وجلَّ بقولِهِ سبحانَهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4 ، فهل عرفتْ الإنسانيةُ كمُحمدٍ ﷺ في الخُلُقِ؟ إنَّهٌ الذي أحسنَ وما أساءَ، ووصلَ وما قطعَ، وأعطَى وما حرمَ، وعفَا وما ظلمَ، وخالقَ الناسَ بخلقِهِ الحسنِ كلَّ حياتِهِ حتى أتاهُ اليقينُ، هكذا كان قبلَ الرسالةِ وبعدَهَا، في شبابِهِ وفي مشيبِهِ، مع الصديقِ ومع العدوِّ، كانت أخلاقُهُ أوسعَ مِن كلِّ الحدودِ والقيودِ، علّمَ الخلائقَ كيفَ تكونُ الأخلاقُ، فالأخلاقُ جزءٌ مهمٌّ جداً مِن الشريعةِ والدينِ يا سادةٌ، فقالَ كما في حديثِ أبي هريرةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } رواه البخاري ، وقال ﷺ [ ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البذيءِ ] رواه الترمذي ، فخيرُ الأخلاقِ أخلاقُهُ، وأفضلُ الأعرافِ أعرافُهُ؛ لأنّهَا ربانيةُ المصدرِ.

فاقَ النبيينَ في خَلقٍ وفي خُلقٍ ***   فلم يدانوهُ في عـلـــمٍ ولا كــــــــــرمٍ

 وتأتِي أهميةُ الأخلاقِ في الإسلامِ أنَّهَا أبرزُ ما يراهُ الناسُ ويدركونَهُ مِن أعمالِ المسلمِ، فالناسُ لا يرونَ عقيدتَهُ؛ لأنَّ محلَّهَا القلبُ، وهم لا يرونَ كلَّ عباداتِهِ ولكنهُم يرَوْنَ أخلاقَهُ وسلوكَهُ معهُم، ويتعاملونَ معهُ مِن خلالِهَا ، فالخلقُ هو السَّجيَّةُ والطَّبعُ، وهو صورةُ الإنسانِ الباطنيةُ، وبالنتيجةِ فهو هيئةٌ راسخةٌ في داخلِ النفسِ الإنسانيةِ وفطرةُ تصدُرُ عنها الأفعالُ بتلقائيةٍ وسهولةٍ ويُسرٍ مِن غيرِ حاجةٍ إلى فكرٍ ولا رويَّةٍ ، وهو عبادةٌ يؤجرُ عليهَا المسلمُ، وهو أساسُ الخيريَّةِ والتفاضلِ يومَ القيامةِ، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَة فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:“ أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا ) رواه أحمد في مسنده ، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ ؟ قالَ : المتَكَبِّرونَ] رواه الترمذي ، ولْنعلمْ أنَّ الأخلاقَ هي المؤشِّرُ على استمرارِ أمَّةٍ أو انهيارِهَا ، فالأمةُ التي تنهارُ أخلاقُهَا يوشكُ أن ينهارَ كيانُهَا.

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ*****فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

ثالثًا وأخيرًا: ماتَ أكرمُ الخلقِ على اللهِ.

أيُّها السادةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ الْمَصَائِبُ، وَتَلَوَّنَتِ الْمِحَنُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَكْلُومَةِ الْمَرْحُومَةِ- إِلَّا أَنَّهَا رَزِيَّةٌ كُبْرَى، وَرَزِيئَةٌ عُظْمَى، سَتَبْقَى مَحْفُورَةً فِي سِجِلِّ مَصَائِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاجِعَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَاهَا التَّارِيخُ، إِنَّها مُصِيبَةُ الْمُسْلِمِينَ بِفَقْدِهِمْ نَبِيّهِمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ ﷺ أَعْظَمَ حَدَثٍ مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَأَذْهَلَ عُقُولَهُمْ، وَزَلْزَلَ أَرْكَانَهُمْ، وَحَيَّرَ أَفْهَامَهُمْ. بَادَ اللهِ- لِنَعِشْ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي وَدَّعَ فِيهَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الدُّنْيَا، الدَّارَ الدَّنِيَّةَ، لَعَلَّهَا تَنْفُضُ غُبَارَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَعَلَّهَا تَكُونُ تَسْلِيَةً لأَهْلِ الْمَصَائِبِ الَّذِينَ فَقَدُوا أَحِبَّاءَهُمْ.

اِصْـبِرْ لِكُلِّ مُصـِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ *** وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةٌ تَشْجَى بِهَا     ***     فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد

أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ

الخطبةُ الثانية الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ

 

أيُّها السادةُ: فَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ!! يَوْمٌ زَارَ فِيهِ الْمَرَضُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُهَوِّدُ مِنَ الْبَقِيعِ بَعْدَمَا شَهِدَ جِنَازَةً لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ أَخَذَهُ صُدَاعٌ فِي رَأْسِهِ، وَاتَّقَدَتْ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ مَعَالِمُ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ، وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ تِلْكَ الْحُمَّى أَيَّامًا عِدَّةً.

ففِي ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُوَافِقِ لِلْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ بَدَأ الاحْتِضَارُ بِالنَّبِيَّ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فأَسْندَتْهُ عَائِشَةُ رضي اللهُ عنها إلَيْهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ: (إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ)، رواه البخاريُّ. طَيَّبْتْ لَهُ أَمُّ الْمُؤْمِنِينَ سِوَاكًا يَسْتَاكُ بِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ ويَقُول: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ». وَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ مِنْ السِّوَاكِ حَتَّى رَفَعَ يَدَهُ أَوْ أُصْبَعَهُ، وَشَخَصَ بَصَرُهُ نَحْو السَّقْفِ، وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ، فأَصغَتْ إلَيْه عَائِشَةُ وَهُوَ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»، ثمَّ مَالَتْ يَدُهُ وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى. وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَصَدَق أَنَسٌ حِينَ قَالَ: “لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا فَرَغْنَا مِنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا” رواه أحمدُ. فأحسَّ الحبيبُ ﷺ بنشاطٍ، فعصبَ رأسَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وخرجَ إلى الصحابةِ رضي اللهُ عنهم وقد فزعُوا فزعاً شديداً، وقلقُوا قلقلاً شديداً، وحزنُوا على مرضِ رسولِ اللهِ، وخافُوا على فراقِهِ ﷺ، فخرجَ إليهِم وصعدَ النبيُّ ﷺ على المنبرِ، والتفَّ الصحابةُ برسولِ اللهِ ﷺ، فخطبَ فيهِم رسولُ اللهِ ﷺ وقال بعدمَا حمدَ اللهَ عزَّ وجلَّ وأثنَى عليهِ، وصلَّى على نفسِهِ ﷺ، واستغفرَ لأهلِ أُحدٍ، وصلَّى عليهِم، وأكثرَ عليهِم الصلاةَ، وأكثرَ لهُم الدعاءَ، ثمَّ قالَ: أيُّهَا الناسُ! إنِّي بينَ أيديكِم فرطٌ، وأنَا عليكُم شهيدٌ، وإنَّ موعدكُم الحوض، وإنِّي لأنظرُ إليهِ مِن مقامِي هذا، أيُّهَا الناسُ! إنِّي لا أخشَى أن تشركُوا بعدِي ولكنِّي أخشَى عليكُم الدنيا أنْ تنافسُوا فيهَا كما تنافسَ فيهَا مَن كانَ قبلكُم فتهلككُم كما أهلكتهُم.

ثم فَقالَ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بيْنَ الدُّنْيَا وبيْنَ ما عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ما عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَقُلتُ في نَفْسِي ما يُبْكِي هذا الشَّيْخَ؟ إنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بيْنَ الدُّنْيَا وبيْنَ ما عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ما عِنْدَ اللَّهِ، فَكانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ هو العَبْدَ، وكانَ أبو بَكْرٍ أعْلَمَنَا، قالَ: يا أبَا بَكْرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أُمَّتي لَاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ، ولَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلَامِ ومَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ في المَسْجِدِ بَابٌ إلَّا سُدَّ، إلَّا بَابُ أبِي بَكْرٍ.

تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

واشتدَّ بهِ الوجعُ، واشتدَّ بهِ الألمُ، وزادَ بهِ المرضُ، وزادتْ عليهِ الحُمَّى ﷺ، دخلتُ على النَّبيِّ ﷺ وهو يُوعَكُ وعكًا شديدًا ، فمسستُه فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ! إنَّك لتُوعكُ وعكًا شديدًا ، قال : إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلان منكم ، قال : قلتُ : ذلك بأنَّ لك أجرَيْن ، قال : وذاك بذاك ، ثمَّ قال : ما مِن مؤمنٍ يُصيبُه أذًى مِن شوْكٍ فما سواهُ إلَّا حطَّ اللهُ عنه خطايا كما تحُطُّ الشَّجرةُ ورقَها)، وَبَيْنَمَا الصَّحْبُ الْكِرَامُ صُفُوفًا خَلْفَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ كَشَفَ سِتْرَةَ حُجْرَتِهِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ كَأَنَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ إِذَا كَمُلَ بَدْرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ هَمُّوا أَنْ يُفْتَنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ.فَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ عَادَ إِلَى صِحَّتِهِ وَتَشَافَى مِنْ مَرَضِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النَّظَرَةَ هِيَ النَّظْرَةُ الْأَخِيرَةُ، نَظْرَةُ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْحُجْرَةِ أَبَدًا. وَلَمَّا ارْتَفَعَ الضُّحَى دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَضَحِكَتْ.تَقُولُ عَائِشَةُ: فَسَأَلْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ -أَيْ: بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: “سَارَّنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ يَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ”. ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَأَوْصَى بِهِمَا خَيْرًا، وَدَعَا أَزْوَاجَهُ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، ثُمَّ بَدَأَ الْوَجَعُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَيَزِيدُ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الْكَرْبَ الشَّدِيدَ الَّذِي يَتَغَشَّى أَبَاهَا قَالَتْ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: “لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ”.

وَبَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ يُصَارِعُ وَيَتَجَرَّعُ هَذِهِ الْكُرَبَ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ أُمَّتَهُ بِأَهَمِّ وَصِيَّةٍ وَأَعْظَمِ أَمْرٍ فِي هَذَا الدِّينِ، فَأَخَذَ يُنَادِي بِصَوْتٍ مُنْكَسِرٍ قَدْ هَدَّهُ الْمَرَضُ: “الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ! الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ! الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ!”. ثُمَّ بَدَأَ الِاحْتِضَارُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَزِفَ الرَّحِيلُ، وَحَضَرَ الْأَجَلُ، وَحَانَ الْفِرَاقُ وَالْوَدَاعُ، فَجَعَلَ ﷺ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي ركْوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَيَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ! إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ! اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيَّ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ”.

ثُمَّ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّزْعُ فَعَرِقَ جَبِينُهُ، وَظَهَرَ أَنِينُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَحَشْرَجَ صَدْرُهُ، وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، وَتَشَنَّجَتْ أَصَابِعُهُ، حَتَّى بَكَى لِمَصْرَعِهِ مَنْ حَضَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَ أَصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ، وَشَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ السَّقْفِ، وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ، فَأَصْغَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ: “(فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين) [النِّسَاءِ:69]، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى”. ثُمَّ مَالَتْ يَدُهُ وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى.

فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَأَخَذَتْ تُنَادِي بِحَسْرَةٍ وَأَلَمٍ: يَا أَبَتَاهُ! أَجَابَ رَبًّا دَعَاه، يَا أَبَتَاهُ! جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاه، يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ.

وَمَاتَ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ، مَاتَ رَسُولُ الْهُدَى الشَّفِيقُ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ، مَاتَ شَمْسُ الْحَيَاةِ وَبَدْرُهَا، مَاتَ مَنْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِمَوْتِهِ ، ماتَ امامُ الأنبياءِ، ماتَ أمامُ الاتقياءِ، ماتَ أمامُ الأصفياءِ، ماتَ أكرمُ الخلقِ على اللهِ، وصعدتْ أطهرُ روحٍ عرفهَا التاريخُ إلى ربِّهَا، وانقلبتْ المدينةُ رأسًا على عقبٍ، وقامَ عمرُ على المنبرِ وهددَ وأرعدَ وتوعدَ، وحذّرَ الناسَ بأنَّ تلكَ دعوَى أطلقَهَا المنافقون، فأصبحَ الناسُ في أمرٍ مَريجٍ، وفي فوضَى مدلهمةٍ.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- غَائِبًا فِي مَزْرَعَتِهِ، وَمَا أنْ سَمِعَ الْخَبَرَ حَتَّى جَاءَ عَلَى فَرَسِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى هَلَعَ النَّاسِ وَاضْطِرَابَهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُغَطّى بِثَوْب حبرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: “بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللهِ لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا! أَمّا الْمَوْتَةُ الّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مِتّهَا”.

ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ، وَعُمَرُ قَائِمٌ يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ.

فَتَكَلَّمَ الصِّدِّيقُ، تَكَلَّمَ رَجُلُ السَّاعَةِ، تَكَلَّمَ بَطَلُ الْمَوْقِفِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ:144-145].فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى مَا حَمَلَتْهُ رِجْلُهُ، وَتَيَقَّنَ النَّاسُ الْخَبَرَ فَضَجُّوا بِالْبُكَاءِ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ.

يَقُولُ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَلأَهْلِهَا ضَجِيجٌ بِالْبُكَاءِ كَضَجِيجِ الْحَجِيجِ أَهَلُّوا جَمِيعًا بِالْإِحْرَامِ، فَقُلْتُ: مَهْ! قَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ((

وكَيْفَ لا يَبْكُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ الْجَمَادَاتِ تَتَصَدَّعُ أَلَمًا عَلَى فِرَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَهَذَا جِذْعٌ كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا اتّخذَ لَهُ الْمِنْبَرَ تَرَكَ الْجِذْعَ، فَصَاحَ الْجِذْعُ كَمَا يَصِيحُ الصَّبِيُّ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَاعْتَنَقَهُ، فَجَعَلَ يَهْذِي كَمَا يَهْذِي الصَّبِيُّ الَّذِي يَسْكُنُ عِنْدَ بُكَائِهِ، فَقَالَ: “لَوْ لَمْ أَعْتَنِقْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”.

حَتَّى الْمَحَارِيبُ تَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةٌ *** حَتَّى الْمَنَابِرُ تَرْثِي وَهِيَ عِيدَانُ

هكذا ماتَ الرسولُ ﷺ، واللهُ تعالَى يقولُ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ  [الأنبياء:34-35].

أفإنْ متَّ يا مُحمدٌ فأيُّ مخلوقّ يخلدُ بعدَكَ؟! لا واللهِ، إنّهَا الحقيقةُ الكبرَى في هذا الوجودِ، إنَّهَا الحقيقةُ التي تعلنُ على مدَى الزمانِ والمكانِ في أذنِ كلِّ سامعٍ، وعقلِ كلِّ مفكرٍ أنّهُ لا بقاءَ إلّا للحيِّ الذي لا يموتُ، لو شاءَ اللهُ جلَّ وعلا أنْ يجعلَ رسولَ اللهِ ﷺ فوقَ مستوَى الموتِ وآلامِ الموتِ لفعل، ولكنهُ بشرٌ يموتُ كما يموتُ سائرُ البشرِ:  { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34((إ((ِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزُّمَر:30-31].

تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

إِنَّهُ الْمَوْتُ! تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَرْتَجُّ لَهَا الْقُلُوبُ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَفِيضُ مِنْ هَوْلِهَا الْعُيُونُ، كَيْفَ لَا وَقَدْ أَسْمَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ بِالْمُصِيبَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) [الْمَائِدَةِ:106].

مَا ذَكَرَ إِنْسَانٌ الْمَوْتَ إِلَّا أَحَسَّ بِالْوَجَلِ، وذَلِكَ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ، وَنَدِمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي الْعَمَلِ.

كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَعَنِ الْهَوَى زَاجِرًا! كَفَى بِهِ قَاطِعًا للأُمْنِيَاتِ، وَمُزَهِّدًا فِي الْمَلَذَّاتِ.

تَذَكُّرُ الْمَوْتِ -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- يَرْدَعُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَيُلَيِّنُ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ، وَيُهَوِّنُ عَلَى الْعَبْدِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا فَلا يَتَحَسَّرُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَ مِنْهَا.

فَيَا غَافِلاً فِي مَلَذَّاتِهِ، يَا سَادِرًا فِي شَهَوَاتِهِ، يَا مُضَيِّعًا لِصَلَوَاتِهِ، تَذَكَّرِ الْمَوْتَ وَسَاعَتَهُ، وَهَوْلَهُ وَسَكْرَتَهُ، وَصُعُوبَةَ كَأْسِهِ وَمَرَارَتَهُ.

اِعْلَمْ -أَخِي- أَنَّهُ مَهْمَا طَالَتْ سَلَامَتُكَ سَيَأْتِي الْيَوْمُ الَّذِي فِيهِ سَتُصْرَعُ، وَعَنِ الْعَمَلِ وَالْخَيْرِ سَتُمْنَعُ، وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ سَتَبْلَعُ.

سَيَأْتِي الْيَوْمُ الَّذِي سَتُحْمَلُ فِيهِ عَلَى الأَكْتَافِ، وتنادِي الروحُ بلسانِ الحالِ يا ابنَ آدمَ، جمعتَ الدنيا أم الدنيا جمعتْكَ؟ يا ابنَ آدمَ، تركتَ الدنيا، أم الدنيا تركتْكَ؟ يا ابنَ آدمَ، استعددتَ للموتِ، أم المنيَّةُ عاجلتْكَ، يا ابنَ آدمَ، خرجتَ مِن الترابِ وعدتَ إلى الترابِ، خرجتَ مِن الترابِ بلا ذنبٍ، وعدتَ إلى الترابِ وكلُّكَ ذنوب، فَبَادِرْ أَخِي الْمُقَصِّرَ -وَكُلُّنَا ذَاكَ الْمُقَصِّرُ- بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَوْدَةِ الْحَمِيدَةِ إِلَى طَرِيقِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الِاسْتِقَامَةِ، فَرَبُّكَ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ يَفْرَحُ بِعَبْدِهِ إِذَا تَابَ، وَصَدَقَ مَعَ رَبِّهِ وَأَنَابَ.

وَاعْلَمْ -أَخِي الْمُبَارَكَ- أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، بِمُلْكِهَا وَزَهْرَتِهَا، وَلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا لا تُسَاوِي عِنْدَ مَنْ عِنْدَهُ ذَرَّةُ عَقْلٍ غَمْسَةً وَاحِدَةً مِنْ غَمَسَاتِ جَهَنَّمَ، أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ جَهَنَّمَ.فلَا تَغْتَرَّ -أَخِي الْمُبَارَكَ- أَنَّكَ تَتَقَلَّبُ فِي صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَآمَالٍ وَإِمْهَالٍ.

فَـكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ *** وَكَمْ مِنْ سَـقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
وَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضَاحِكًا *** وَأَكْفَانُهُ فِي الْغَيْبِ تُنْسَجُ وَهُوَ لا يَدْرِي

حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.

                                                           كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه

                                                      د/ محمد حرز إمام بوزارة الأوقاف

 

_______________________________

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة

 

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة

 

تابعنا علي الفيس بوك

 

الخطبة المسموعة علي اليوتيوب

 

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات

 

للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة

 

للمزيد عن أخبار الأوقاف

 

للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف

 

للمزيد عن مسابقات الأوقاف

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى