خطبة الجمعة القادمة بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 24 ربيع الأول 1446هـ ، الموافق 27 سبتمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 27 سبتمبر 2024م بصيغة word بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 27 سبتمبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 27 سبتمبر 2024م بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.
أولًا: انتهتْ الإجازةُ وبدأَ العامُ الدراسيُّ الجديدُ.
ثانيــًــا : العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟
ثالثًا وأخيرًا: العُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالشَّرِّ .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 27 سبتمبر 2024م بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ : كما يلي:
﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
للدكتور/ مُحمد حرز بتاريخ 24 ربيع الأول 1446هـ ، الموافق 27 سبتمبر 2024م
الحمدُ للهِ الذي خضعَ كلُّ شيءٍ لإرادتِهِ، وذلَّ كلُّ شيءٍ لعزتِهِ، وتواضعَ كلُّ شيءٍ لكبريائِهِ، واستسلمَ كلُّ شيءٍ لقدرتِهِ، الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ: يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، أولٌ بلا ابتداءٍ وآخرٌ بلا انتهاءٍ، الوترُ الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، القائلُ كما في حديثِ عثمانَ رضى اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ( خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ)، فاللهُمَّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني**وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّأً مِن كُلِّ عَيب**كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
أمَّا بعدُ: فأوصيكُم ونفسِي أيُّهَا الأخيارُ بتقوىَ العزيزِ الغفارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} (آل عمران :102(.
عبادَ الله: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، بل إنْ شئتَ فقلْ: فضلُ العلمِ عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا.
أولًا: انتهتْ الإجازةُ وبدأَ العامُ الدراسيُّ الجديدُ.
ثانيــًــا : العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟
ثالثًا وأخيرًا: العُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالشَّرِّ .
أيُّها السادةُ: ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلي أنْ يكونَ حديثُنَا عن العلمِ وأهميتِهِ في حياتِنَا، وخاصةً ولقد بدأَ العامُ الدراسيُّ بالفعلٍ فكان لزامًا علينَا نحن الدعاةَ أنْ نبينَ لأولادِنَا وشبابِنَا وبناتِنَا أهميةَ العلمِ وفضلَهُ ليجددُوا النيةَ في تحصيلِهِ وليعزمُوا على التفوقِ في دراستِهِم ليُسعدوا أمهاتِهم وأبائَهم ويرفعُوا مِن شأنِ وطنِهِم وأمتِهِم؛ لتنهضَ بلدُنَا إلى برِّ الأمانِ، فلا سعادةَ ولا فلاحَ ولا تقدّمَ ولا رقيَّ إلَّا بالعلمِ ، وخاصةً والكثيرُ مِن طلابِنَا لا يهتمُّ بالتعليمِ ويظنُّ أنّهُ بالغشِ في النهايةِ سينجحُ، ولا يعلمُ أنَّ الغشَّ خيانةٌ للهِ ورسولِهِ، ولا يعلمُ أنَّ الغشَّ تدميرٌ لذاتِهِ وكيانِهِ وهو لا يدرِي، ولا يعلمُ أنَّ الغشَّ طريقٌ لهلاكِ الأممِ والمجتمعاتِ ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ، وخاصةً والعلمُ سببٌ في بناءِ الإنسانِ وصناعةِ الحضاراتِ، وخاصةً والواجبُ على الآباءِ أنْ يعلمُوا أبناءَهُم ويصبروا عليهم وحمايتَهُم مِن الجهلِ والجهلاءِ، وخاصةً واللهُ جلَّ وعلَا جعلَ العلمَ النافعَ طريقًا مُوصلًا لمرضاتِهِ، وسبيلًا يُوصلُ إلى كلِّ خيرٍ وبرٍّ وهدَى. لذَا كانَ مِن دعائِهِ ﷺ إذا أصبحَ قالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا) رواه ابن ماجه……. وللهِ درُّ القائلِ:
فَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً ***تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
ومَنْ فاتَهُ التَّعْليمُ حالَ شَبابِهِ *** فَكَبِّرْ عليْهِ أرْبَعًا لوَفاتِهِ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
أولًا: انتهتْ الإجازةُ وبدأَ العامُ الدراسيُّ الجديدُ.
أيُّها السادةُ: المتأملُ في سرعةِ انقضاءِ الإجازة، يجدُ أنّهَا وإنْ كانتْ فترةً قصيرةً في عمرِ الزمنِ، إلّا أنّها طويلةٌ في حسابِ المكاسبِ والخسائرِ، فقد غنمَ فيها قومٌ، وخسرَ فيها آخرون، وعجلةُ الزمنِ تمضِي بلا توقفٍ، وشتانَ بينَ مَن حفظَ أوقاتَهُ، فكانتْ الثمرةُ زيادةً في أرصدةِ حسناتِهِ، ورفعةً لدرجاتِهِ، وبينَ مَن فرَّطَ فيهَا، فكان مِن المغبونين، كما في حديثِ ابنِ عباسٍ رضى اللهُ عنهما “نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ”.
أيُّها الأحبةُ الأخيارُ، وتدورُ الأيامُ دورتَهَا، وتعودُ الحياةُ إلى طبيعتِهَا، وينطلقُ قطارُ التعليمِ، وتنطلقُ معهُ حياةٌ جديدةٌ، مِلؤهَا التفاؤلُ والأملُ، وإنّهُ لأمرٌ يستحقُّ التفكرَ والتأملَ، وكيفَ لا؟ وقد قال ﷺ: “مَن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا، سهَّل اللهُ لهُ بهِ طريقًا إلى الجنةِ” رواه مسلم.
والواجبُ على الآباءِ أنْ يغرسُوا الهمهمَ في أولادِهِم، وأنْ يحرصُوا على تعلميهِم وتربيتِهِم تربيةً صحيحةً، وأنْ يصبرُوا عليهم حتى يعبرُوا بهم إلى برِّ الأمانِ، فالأولادُ أمانةٌ، وتربيتُهُم أمانةٌ، وتعليمُهُم أمانةٌ، ستسألُ عنهَا يومَ القيامةِ إذا حافظتَ عليهِم فقد صُنتَ الأمانةَ، وإذا أهملتَهُم فقد خُنتَ الأمانةَ كما أخبرَ بذلك الصادقُ المصدوقُ ﷺ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ( أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) (متفق عليه)، وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ- رضى اللهُ عنه–قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ(
ليسَ اليتيمُ مَن انتهَى أبواهُ *** مِن الحياةِ وخلفَاهُ ذليلاً
إنّ اليتيمَ هو الذي تَرى لهُ *** أُمَّا تَخَلّتْ أو أَبًا مشغولًا
وعلينَا معاشرَ الآباءِ أنْ نعِيَ جيدًا أنَّ مهمةَ التربيةِ والتعليمِ ليستْ مقتصرةً على المدرسةِ أو المعاهدِ والجامعاتِ فحسب، بل إنَّ لنا فيهَا النصيبَ الأكبرَ، والجانبَ الأعظمَ، ففِي القرآنِ نداءٌ خاصٌّ بنَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.. ﴾ [التحريم: 6]، وقد قال عليٌّ رضي اللهُ عنه عن قولِهِ تعالَى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾؛ أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم، بل إن الرسولُ الله ﷺ يقررُ أنَّ المربِّي والمعلمَ الأولَ للولدِ هو وَالِدُهُ، ففي الحديثِ المتفقِ عليهِ قال ﷺ: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ”. وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ياسادة الَّتِي يَنْبَغِي لَنَا معاشر الآباء أَنْ لَا نَغْفُلَ عَنْهَا، وَخَاصَّةً مَعَ بِدَايَةِ الدِّرَاسَةِ،أَنْ نَغْرِسَهَا فِي نُفُوسِ أَبْنَائِنَا الطُّلَّابِ: احْتِرَامُ الْمُعَلِّمِ . فَإِذَا احْتَرَمَ الطَّالِبُ مُعَلِّمَهُ اسْتَفَادَ مِنْهُ؛ اسْتَفَادَ مِنْ عِلْمِهِ، اسْتَفَادَ مِنْ أَدَبِهِ، اسْتَفَادَ مِنْ تَجَارِبِهِ ؛ ولله در القائل
إِنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَيْهِـمَا****لَا يَنْصَحَانِ إِذَا هُمَا لَمْ يُكْـــــــــــــــرَمَا
فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ أَهَنْتَ طَبِيبَهُ *****وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمَا
فَالْمُعَلِّمُ جَدِيرٌ بِالِاحْتِرَامِ، جَدِيرٌ بِالْإِكْرَامِ، وَأَعْنِي بِالْمُعَلِّمِ : ذَلِكَ الْمُعَلِّمَ الْمُخْلِصَ، الَّذِي يَبْذُلُ مَا بِوُسْعِهِ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِ الْأَجْيَالِ وَتَرْبِيَةِ النَّشْءِ، وَتَقْوِيمِ سُلُوكِهِمْ ، فَمُعَلِّمٌ كَهَذَا مِنْ وَاجِبِ الْأُمَّةِ شُكْرُ جُهُودِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِ ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِهِ .
وأنادي إخوانِي المعلمين وفَّقهُمُ اللهُ، فأقولُ: يا معشرَ المربينَ الكرام، أنتم بيتُ القصيدِ ومحطُّ الركبِ، أنتم روادُ العلمِ وسُلَّمُ الترقِّي، بينَ أيديكُم عقولُ الناشئةِ، وعدةُ المجتمعِ وأملُهّ، وعليكُم بعدَ اللهِ تُعقَدُ الآمالُ، ولسنواتٍ عدةٍ، تُحطُّ عندكُم الرحالُ، ونبيُّكُم ﷺ قد أكبَرَ مِن شأنِكُم، وأعلَى مِن مقامِكُم، حينَ قالَ عنكُم: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ.. وإِن اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتى النّمْلَة فِي جُحْرِهَا، وَحَتّى الْحُوت، لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ”.ها هم أبناءُنَا قد أقبلُوا عليكُم مجيبينَ مجلينَ، ينتظرونَ منكُم العلومَ النافعةَ، والوصايا الجامعةَ، فخذوا بمجامعِ تلك القلوبِ إلى اللهِ، ودلُّوهَا على مراضيهِ: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]..
يا مشاعلَ النورِ والرحمةِ، ما كان للهِ يدومُ ويتصلُ، وما كان لغيرِهِ ينقطعُ ويضمحلُّ، فأخلصُوا للهِ القولَ والعملَ، قال الإمامُ الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ: لا يزالُ الرجلُ بخيرٍ إنْ قالَ: قالَ للهِ، وإنْ عملَ: عملَ للهِ، فجملُوا عملَكُم بالإخلاصِ، فأجرُ الدنيا قليلٌ، والآخرةُ خيرٌ وأبقَى..يا مشاعلَ العلمِ والنورِ، رسالةُ العلمِ والتعليمِ اقتداءٌ، اقتداءٌ بخيرِ المعلمينِ وأحسنِ المربينَ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ، قال معاويةُ بنُ الحكمِ رضي اللهُ عنهُ: “فبأبِي وأمِّي ما رأيتُ معلمًا كرسولِ اللهِ ﷺ، واللهِ ما كهرنِي ولا ضربنِي ولا شتمنِي”، وقال أنسُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه: “صحبتُ رسولَ اللهِ ﷺ عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ”، لقد كان ﷺ خيرَ المعلمينَ، وأحسنَ المربينَ؛ لأنَّهُ كان في تعليمِهِ وتربيتِهِ حليمًا رحيمًا، رفيقًا شفيقًا، ييسِّرُ ولا يعسرُ، يبشرُ ولا ينفرُ، ولأنّهُ كان طلقَ الوجهِ، دائمَ التبسمِ، كثيرَ التوددِ، قال جريرُ بنُ عبدِاللهِ رضي اللهُ عنه: “ما لقيت النبيَّ ﷺ إلا تبسَّم في وجهي، “. وتأملُوا أيُّها الأخيارُ مطلعَ سورةِ الرحمن: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]؛ لتعلمُوا أنَّ الرحمةَ هي أهمُّ صفاتِ المعلمِ، وأنَّ المعلمُ بلا رحمةٍ يفقدُ أهمَّ مقوماتِ نجاحِهِ. يا مشاعلَ الهدَى، نعلمُ أنَّ الأجيالَ تغيرتْ، وأن الملهياتِ والشواغلَ قد كثُرت، فهل الحلُّ في التضجرِ والشكوى، واليأسِ مِن صلاحِ الأحوالِ، كيفَ وأنتُم تعلمُون: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. فيا أيُّها المعلمونَ الكرام، وطِّنوا أنفسَكُم واصبرُوا، وشدُّوا عزائمَكُم واجتهدُوا، واستعينُوا باللهِ ولا تعجِزوا، ابذلُوا كلَّ ما تستطيعون، ودافعُوا الباطلَ بكلِّ ما تملكُون، وساهمُوا بكلِّ ما تملكونَ في بناءِ وطنِكُم واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يضيعُ أجرَ المحسنين، قال جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] .وأهمسُ في أذنِ أولادِي وأقولُ لهُم أبنائِي الأعزاء، بُنياتي الغاليات تأملُوا معِي ما يقولهُ الإمامُ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: “العلمُ: حياةُ القلوبِ، ونورُ البصائرِ، وشفاءُ الصدورِ، ورياضُ العقولِ، ولذَّةُ الأرواحِ، وأنسُ النفوسِ، وهو الصاحبُ في الغربةِ، والمحدثُ في الخلوةِ، والأنيسُ في الوحشةِ، والكاشفُ عن الشبهةِ، مذاكرتهُ تسبيحٌ، والبحثُ عنهُ جهادٌ، وطلبُهُ قربةٌ، وبذلُهُ صدقةٌ، ومدارستُهُ عبادةٌ، والحاجةُ إليهِ أعظمُ مِن الحاجةِ إلى الشرابِ والطعامِ”. وتأملُوا معِي قولَ ربِّكُم ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]، قال الإمامُ الثعالبِي: مَن اتقَى اللهَ عُلِّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ.
فيا بنيَّ المبارك، تيقَّنْ أنّكَ لستَ بأقلَ مِن غيرِكَ، ولا أدنَى مِمَّن سواك، وأنّكَ مِن صُنعِ أفكارِكَ، وأنّكَ ثمرةٌ لقناعاتِكَ وإيمانِكَ، فغيِّرْ قناعاتِكَ تتغيرْ حياتُكَ، غيِّرْ قناعتِكَ لتحلُو حياتُكَ، وتعظُمَ مُنجزاتُك، وهيا لتكونَ ما ينبغِي لكَ أنْ تكونَ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ النحل: 128)
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
ثانيــًــا :العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟
أيُّها السادةُ: اعْلَمُوا أَنَّ دِينَكُمْ دِينُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَثَقَافَةٍ، وَلَيْسَ دِينَ جَهْلٍ وَتَخَرُّصٍ أَوْ خُرَافَةٍ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَكْثَرَ عِلْمًا بِدِينِهِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ وَيَثْبُتَ عَلَيْه. والْعِلْمُ أَعَزُّ مَطْلُوبٍ وَأَشْرَفُ مَرْغُوب، تَسَابَقَ الْفُضَلاءُ لِطَلَبِهِ، وَتَنَافَسَ الأذْكِياءُ لِتَحْصِيلِهِ، مَنِ اتَّصَفَ بِهِ فَاق غَيرَهُ، وَمَنْ اتَّسَمَ بِهِ بَانَ نُبْلُهُ، ورَفَعَ اللهُ أَهْلَهُ دَرَجَات، وَنَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ كَرَّاتٍ وَمَرَّات، قالَ جلَّ وعلا: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: “الْعُلَمَاءُ فَوْقَ الْمُؤْمِنِينَ مِائَةَ دَرَجَةٍ، وَمَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ”. العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟ العلمُ سببٌ لتقدمِ الأممِ والشعوبِ، فلا سعادةَ ولا فلاحَ ولا تقدّمَ ولا رقيَّ إلَّا بالعلمِ، فبالعلمِ تُبنَى الأمجادُ، وتُشَيَّدُ الحضاراتُ، وتَسُودُ الشعوبُ، وتقلُّ الأمراضُ والأوبئةُ، فالعلمُ هوَ الركيزةُ العظمَى لأيِّ نهضةٍ في قديمِ التاريخِ وحاضرِهِ، وحيثُ كانت النهضةُ كانَ التعليمُ، وحيثُ كانَ التعليمُ كانتْ النهضةُ، فكم مِن أممٍ نهضتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تقدمتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تفوقتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تأخرتْ بسببِ جهلِهَا، وكم مِن أممٍ سادَ فيهَا الظلامُ وحلّتْ بهَا الأمراضُ والأوبئةُ بسببِ جهلِهَا، ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ. العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ ؟
منزلةُ العلمِ رفيعةٌ عاليةٌ، لا تُساويهَا منزلةٌ مِن المنازلِ، ولا تُقاربُهَا مكانةٌ مِن المقاماتِ، وما مِن إنسانٍ إلّا وهو محتاجٌ إلى العلمِ، وكيفَ لا؟ واللهُ تعالى أخرجَنَا مِن بطونِ أمهاتِنَا لا نعلمُ شيئًا، ولا نعرفُ شيئًا، قالَ ربُّنَا: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، ومَن توهَّمَ أنّهُ بلغَ الغايةَ في المعارفِ والعلومِ، ووصلَ إلى النهايةِ فقد أخطأَ وضلَّ ضلالًا مبينًا، فكلُّ ما عندَ الناسِ مِن العلومِ والمعارفِ قليلٌ على كثرتِهِ وتنوعِهِ، كمَا قالَ اللهُ تعالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الإسراء: 85.
لذا حثّنَا اللهُ جلَّ وعلَا على العلمِ، وبيَّنَ منزلةَ العلمِ والعلماءِ، والثوابَ العظيم َعندَ اللهِ تعالى لأهلِ العلمِ، فقالَ سبحانَهُ: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة: 11. فلم يقلْ جلَّ وعلا: الذينَ أُوتُوا جاهًا أو مالًا أو ولدًا، بل قال بعدَ تحقيقِ الإيمانِ والتوحيدِ: الذينَ أوتُوا العلمَ درجات، فكيف يُعقلُ بكَ أخي الحبيب أنْ تنأَى عن طلبِ العلمِ وتُعطِي لهُ ظهرَك؟!ولم يأمرْ اللهُ -تعالى- نبيَّهُ ﷺ بالاستزادَةِ مِن شيءٍ إلَّا مِن العلمِ، فقالَ لهُ سبحانَهُ وتعالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه:114). وما ذاكَ إلَّا لِمَا للعلمِ مِن أثرٍ في حياةِ البشرِ، فأهلُ العلمِ هُم الأحياءُ، وسائرُ الناسِ أمواتٌ.
والعلمُ ميراثُ الأنبياءِ والرسلِ، ففِي صحيحِ البخارِي تعليقًا والسننِ الأربعةِ قالَ النبيُّ ﷺ: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظَ وَافِرٍ)، والعلمُ طريقٌ إلى الجنةِ يا سادةٌ، كما صحَّ في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبِي الدرداء -رضي اللهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ:” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” وفي روايةِ أبي داود: ( وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ )، العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟ سُئِلَ أحدُ السلفِ: أجمعُ المالِ أفضلُ أم جمعُ العلمِ؟ فقال: بل جمعُ العلمِ؛ لأنَّ المالَ ينقصُ بالإنفاقِ والعلمُ يزدادُ، ولأنَّ مَن جمعَ العلمَ يزدادُ أحباؤهُ، ومَن جمعَ المالَ يزدادُ أعداؤهُ)، العلمُ خيرٌ مِن المالِ، فالعلمُ يحرسُكَ وأنتَ تحرسُ المالَ.
بل استشهدَ اللهُ بالعلماءِ دونَ غيرِهِم على أجلِّ مشهودٍ وهو توحيدُهُ، وقرنَ شهادتَهُم بشهادةِ الملائكةِ الأبرارِ، فقالَ تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)، فانظرْ كيفَ بدأَ سبحانَهُ بنفسِهِ، وثنَّى بالملائكةِ، وثلَّثَ بأهلِ العلمِ، وناهيكَ بهذَا شرفًا وفضلًا وجلاًء ونبلًا، وقالَ عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: 9.
علمُ العليمِ وعقلُ العاقلِ اختلفَـا *** مَن ذا الذي منهمَا قد أحرزَ الشرفَا
فالعلمُ قالَ أنَا أحرزتُ غايتَـُه *** والعقلُ قالَ أنا الرحمنُ بِي عُرفَا
فأفصحَ العلمُ إفصاحًا وقال له *** بأيّنَا الرحمنُ في قرآنِهِ اتصفَـا
فبانَ للعقلِ أنّ العلـمَ سيدُهُ *** وقبّلَ العقلُ رأسَ العلمِ و انصرفَا
العلمُ وما أدراكَ ما العلمُ؟ الْعِلْمُ أَعْظَمُ مَا تَنَافَسَ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَغَلَى مَا غُبِطَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا”. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَسَدِ هُنَا الْغِبْطَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَهُ. الْعِلْمُ يَبْقَى أَثَرُهُ للإنْسَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَيَخْلُدُ ذِكْرُهُ عِنْدَ الوَرَى وَإِنْ كَانَ تَحْتَ التُّرَابِ مَدْفَونًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَه”. رَوَاهُ مُسْلِم.
أهلُ العلمِ أحياءٌ، وأهلُ الجهلِ أمواتٌ ..
وللهِ درُّ عليٍّ بنِ أبِي طالبٍ رضى اللهُ عنهُ وأرضاهُ
مَا الفَخْرُ إلا لأَهلِ العِلمِ إنَّهُمُ ***على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ****والجَاهِلُون لأَهلِ العِلمِ أَعدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِش حَيًّا بِه أَبَدا***النَّاسُ مَوتى وأَهلُ العِلمِ أَحْيَاءُ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم الخطبة الثانية الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ، وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلّا بهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
ثالثًا وأخيرًا: العُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالشَّرِّ .
أيها السادةُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَمَانٌ -بِإِذْنِ اللهِ- جل وعلا لِأَهْلِ الإسْلامِ، وَسِيَاجٌ -بِأَمْرِ اللهِ- لِأَهْلِ الإِيمَانِ، وَمَوْتُهُمْ إِيذَانٌ بِنَقْصِ الدِّينِ وَإِنْذَارٌ بِظُهُورِ الْبِدَعِ، وَعَلامَةٌ عَلَى اسْتِعْلاءِ الْجَهَلَةِ وَالْمُخَرِّفِينَ وَالْمُنْحَرِفِينَ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقول: “إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِمَوتِ الْعُلَمِاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”. مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وفي الصحيحين عن أَبي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ ﷺ: ( إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ(.
يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِكُلِّ مَنْ يَجْتَرِئُ على الفَتْوَى: تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.فالحذرَ الحذرَ مِن علمٍ لا ينفعُ، لذا كان مِن دعائِهِ ﷺ: “ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ، وقلبٍ لا يَخشَعُ، ودُعاءٍ لا يُسمَعُ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ)، بل قالَ النبيُّ ﷺ كمَا في حديثِ أبي هريرةَ رضى اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ:“ مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه ، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ“ رواه أبو دواد. بل إن أولَ مَن تسعرُ بهِ نارُ جهنمَ العالمُ الذي كان يأمرُ الناسَ ، ولا يأتمرُ ، وينهاهُم ولا ينتهِي)،فالعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ هُمْ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالفِتَنِ وَمَدَاخِلِهَا، وَهُمْ أَبْـصَرُ النَّاسِ بِالـشَّرِّ وَمَدَاخِلِهِ، قَالَ جل وعلا في قِصَّةِ قَارُونَ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾. فَأَهْلُ العِلْمِ مُتَمَيِّزُونَ عَنْ غَيْرِهِم، فَهُمْ على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِم، لَمَّا رَأَوُا النَّاسَ يَتَمَنَّوْنَ لِأَنْفُسِهِم مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ، حَذَّرُوهُم مِنَ الشَّرِّ وَالفِتْنَةِ، وَبَيَّنُوا لَهُمُ الخَيْرَ، فَقَالُوا لَهُم: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾. وَلَكِنْ، وَبِكُلِّ أَسَفٍ لَمْ يَعْرِفِ الذينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا أَنَّ العُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ على حَقٍّ، وَأَنَّ طَاعَتَهُم وَاجِبَةٌ عَلَيْهِم، إلا عِنْدَما حَلَّتْ عُقُوبَةُ اللهِ تعالى بِقَارُونَ، قَالَ جل وعلا عَنْ هَؤُلَاءِ: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾. لكن هذا العلمُ إنْ لم يحركْ قلبَكَ وجوارحَكَ للعملِ، ولخشيةِ اللهِ، ولتقوَى اللهِ، فلا خيرَ فيهِ ولا بركةَ لهُ، ما ثمرةُ العلمِ إنْ لم يورثْكَ العملَ؟! ما ثمرةُ العلمِ إنْ لم يقربْكَ مِن اللهِ سبحانَهُ؟! ما ثمرتُهُ إنْ لم يورثْنَا خشيةَ اللهِ وتقوى اللهِ، ما ثمرةُ العلمِ إذنْ؟! يقولُ الشاطبيُّ في كتابِه القيمِ الموافقات: إنَّ كلَّ علمٍ لا يفيدُ عملاً ليس في الشرعِ ما يدلُّ على استحسانِهِ، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤].وفي الصحيحينِ مِن حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: (يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ أي: أمعاؤه ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ). قال جل وعلا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢ – ٣]، لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يسألَ عن علمِهِ ماذا عملَ بهِ، فعن أبي برزةَ الأسلمِي رضى الله عنه قال قالَ النبيُّ ﷺ ((لا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ، حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه، فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِه، فيم فعَلَ فيه؟ وعن مالِه، من أين اكتسَبَه؟ وفيم أنفَقَه؟ وعن جِسمِه، فيمَ أبلاه؟
فالبدارَ البدارَ بالعلمِ النافعِ وتحصيلِهِ قبلَ فواتِ الأوانِ والندمِ على ما فات، البدارَ البدارَ فإنَّ تحصيلَ العلمِ أمرٌ مُهمٌّ، وإنَّ التعلمَ في الصغرِ يعودُ على الناشئةِ بنفعٍ عظيمٍ، وكما يُقالُ: “التَّعلُّمُ في الصغرِ كالنقشِ على الحجرِ”، ولقد وعَى الصحابةُ والتابعون وغيرُهُم أنَّ تعلمَ الصِّغارِ لهُ كبيرُ الأثرِ في نُشوءِ الطِّفلِ العِلميِّ؛ حيثُ يجعلُهُ أقوى ثَباتًا وأرسخَ في الذاكرةِ مِمَّا يتعلَّمُه الإنسانُ وهو كبيرٌ، رُويَ أنَّ الحسنَ بنَ عليٍّ كان يقولُ لبنيهِ وبنِي أخيهِ: (يا بَنِي وبنِي أخي، إنّكُم صغارُ قومٍ يوشكُ أنْ تكونُوا كبارَ آخرين، فتعلَّمُوا العلمَ، فمنْ لم يستطعْ منكم أنْ يرويَه، أو قال: يحفظَه فليكتبْه)، البدارَ البدارَ لخدمةِ الإسلامِ والمسلمينَ بتحصيلِ العلمِ النافعِ، البدارَ البدارَ لرفعةِ مصرِنَا الحبيبةِ بالعلمِ النافعِ، وللهِ درُّ شوقِي:
العلمُ يبنِي بيوتًا لا عمادَ لهَـا *** والجهلُ يهدمُ بيوتَ العزِّ والشرفِ
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبدُ الفقيرُ إلى عفوِ ربِّه
د/ مُحمد حرز
إمامٌ وخطيبٌ ومدرسٌ بوزارةِ الأوقافِ
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف