خطبة الجمعة القادمة : زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي، للدكتور محمد داوود

خطبة الجمعة القادمة : زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي، للدكتور محمد داوود ، 28 رمضان 1446هـ – 28 مارس 2025م
خطبة بعنــــوان:
زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي
للدكتـــــــــور/ محمد حسـن داود
(28 رمضان 1446هـ – 28 مارس 2025م)
خطبة الجمعة القادمة word : زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي، للدكتور محمد داوود
خطبة الجمعة القادمة pdf : زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي، للدكتور محمد داوود
العناصـــــر :
– الصيام والصدقات.
– الزكاة وأثرها.
– زكاة الفطر ودورها في التكافل المجتمعي.
– في خواتيم رمضان.
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن للإسلام منهج عظيم في تحقيق التكافل المجتمعي، منهج عظيم في رعاية الفقراء، والاهتمام بهم، ومن ذلك أن تراه يدعو ويؤكد على رعايتهم في كل الأوقات، وبخاصة في الأعياد: بصدقة الفطر، والأضحية.
ومن ينظر الصيام والصدقات ومنها الزكاة، يجد بينهما ارتباطا وثيقا وعلاقة وطيدة بالصيام، فإن كان في معنى الصيام، الشعور بالفقير، ففي الزكاة والصدقات أيضا الشعور به؛ وكما أن الصيام طريق وصول إلى درجة التقوى، فكذلك الصدقات، إذ يقول الله (عز وجل): (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ..) (آل عمران: 133-134). كما أنهما بابان إلى مغفرة الذنوب والأجر العظيم، قال تعالى: (.. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35). بابان إلى الجنة، ففي الحديث الشريف: “مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ..” (رواه مسلم). حصنان من النار، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “الصِّيامُ جُنَّةٌ، وحِصنٌ حَصينٌ مِن النَّارِ”. وقال: ” اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ” (رواه البخاري). كما أن في الصدقات إعانة للصائمين، وفى ذلك يقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): ” مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ” (رواه الترمذي) .
ولقد نص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، على غايات عظيمة، وأهداف سامية، وحكم نبيلة ،وآثار طيبة لإخراج الزكاة، إذ يقول الله (عز وجل): (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103)؛ فالزكاة طهارة لنفس الغني من البخل، كما أنها طهارة له من الذنوب والآثام، قال تعالى: (ِإِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (البقرة: 271). والزكاة في الجانب الآخر طهارة لنفس الفقير من الحسد والحقد والضغينة. وهى سبب لتأليف القلوب، وتأنيس النفوس، وإشاعة جو من التعاطف والتراحم، والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، ثم هي طهارة للمال مما تعلق به من حقوق، وهي نماء لشخصية الغني وكيانه المعنوي؛ كما أنها نماء للحسنات والدرجات، ولا نبالغ عندما نقول إنها نماء للأموال وبركة، قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ” (رواه مسلم) ويقول: “مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا “. غير أنها أعظم الأبواب إلى التكافل والتكاتف بين أفراد المجتمع.
فهي وسيلة ما أقواها وما أهمها من وسائل التكافل المجتمعي الذي جاء به الإِسلام؛ إذ إن الإسلام لا يرضى أن يُهمل الفقير والمسكين وابن السبيل وغيرهم من المحتاجين، فلا يجد القوت الذي يكفيه، والثوب الذي يزينه ويستره ويواريه، والمسكن الذي يؤويه، وبخاصة في أيام الفرح والتي منها عيد الفطر، فكانت زكاة الفطر، طعمة للمساكين، وطهرة للصائم مما قد يقع فيه من اللغو والرفث، جبرا للصيام كما يجبر سجود السهو الصلاة؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ”(رواه أبو داود).
– ففيها تطهير الصائم مما يحصل في صيامه من رفث ولغو.
– وفيها إحسان إلى الفقراء، وكف لهم عن السؤال في يوم العيد؛ فهو يوم فرح، ولا يريد الشرع أن يوجد في المسلمين في يوم فرحهم من هم جوعى، فاحرصوا على فرحة هؤلاء وأبنائهم، واعلموا أن أحب الأعمال إلى الله (عز وجل) سرور تدخله على مسلم، كما قال الحبيب النبي (صَلى الله عليه وسلم): ” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تَطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، (يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ)، شَهْرًا، “.
– وفيها الاتصاف بخلق الكرم والجود، ولقد جاء عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): “إنَّ اللَّهَ كريمٌ يُحِبُّ الكرمَ، ويُحِبُّ معاليَ الأخلاقِ، ويكرَهُ سَفْسافَها”. وقال: “إنَّ اللهَ تعالى جَوَادٌ يحبُّ الجُودَ، و يحبُّ مَعالِي الأَخلاقِ، و يكرَهُ سَفسافَها”.
– وفيها إظهار شكر نعمة الله (عز وجل) بإتمام صيام شهر رمضان، وفعل ما تيسر من الأعمال الصالحة فيه، وأي نعمة أعظم من أن يوفق العبد إلى القيام بما عليه من طاعة، وأي فرح يفرحه العبد بمثل أن يؤدي ما عليه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).
وفيها الفوز والفلاح ؛ فعن كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:14- 15) قَالَ: “هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ” (السنن الكبرى للبيهقي)” وعنه أيضأ: أن النَّبِي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ” كَانَ يَأْمُرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:14- 15).
وتجب زكاة الفطر بغروب شمس آخر يوم من رمضان، ويجوز إخراجها من أول يوم منه، ومن خصوصيتها أنها تخرج عن الأبدان، فتخرج عن الذكر والأنثى والصغير والكبير؛ فعن ابنَ عمرَ (رضيَ اللهُ عنهُما) قالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ”.
ومقدارها صاعا من غالب قوت البلد، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (رضي الله عنهما) قَالَ: “كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ”(متفق عليه).
ويجوز إخراج القيمة مالا، فبه يتحقق الإغناء المقصود في قوله (صلى الله عليه وسلمَ): “أغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ” كما يتحقق بالطعام؛ وفي المال توسعة على الفقراء من جوانب كثيرة من أهمها: قضاء حاجاتهم، وإعانتهم على متطلبات حياتهم، وحمايتهم من استغلال بعض التجار حاجتهم إلى المال. ولقد حددت دار الإفتاء المصرية قيمةَ زكاة الفطرِ هذا العام بـ (35) جنيها كحد أدنى، فمن استطاع أن يزيد فهو خير له، فما عندكم ينفد، وما عند الله باق، وما في أيديكم ينتهي ويزول، وما تدخره لنفسك عند الله يدوم؛ تراه بعينك في دنياك وآخرتك حيث يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): ” مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”. ويقول: “كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ”(رواه ابن حبان). ويقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): ” مَنْ تصدَّقَ بعدْلِ تمرَةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ، ولَا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيِّبَ، فإِنَّ اللهَ يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثُمَّ يُرَبيها لصاحبِها، كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ حتى تكونَ مثلَ الجبَلِ”.
ها هو شهر رمضان وقد عزم على الرحيل، فمن كان قد أحسن فيه فعليه بالتمام، ومن كان قد فرط فيه فليختمه بالحسنى، فإن كان ما بقي قليل، إلا أن العمل فيه كثير، ولو لم يتبقى منه إلا ساعة لزمك الاهتمام بها، وحسن اغتنامها؛ إذ لا تعلم هل تعود أم لا، وربك من فضله وكرمه ورحمته يضاعف الأجر، ويرفع الدرجات، فتزود من الشهر الكريم، واستودعه عملًا صالحًا يشهد لك به غدا، فأنت في العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر، عسى أن تدركها. وما زال العتق من النار في كل ليلة عسى أن تكون من أهله. لا تقطع الدعاء، فرب دعوة خرجت من القلب فاستجيب لها. لا تقطع الرجاء فرب دمعة سالت من العين فغفر لك بها. لا تقطع المناجاة، فرب مناجاة في جوف الليل يرحمك الله بسببها. قد تنالك فيما تبقى من شهرك نفحة من نفحات الرحمن فتسعد في الدارين، فأري الله من نفسك خيرا، وتعرض بالطاعات والقربات لنفحات رحمة الله، فقد قال الحبيب النبي (صَلى الله عليه وسلم): “إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا”. واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا”(البخاري).
إن العاقل من اغتنم بقية لحظات شهره فشغلها بالطاعات وعظيم القربات، واستبدل السيئات بالحسنات، فقد قال النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): “رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ” (رواه أحمد)، وإن من أعظم ما يودع به الصائم شهره ويختم به صيامه، هو الإكثار من الاستغفار؛ ولو تتبعت الآيات القرآنية والاحاديث النبوية لوجدت أنها حثت المسلم على الاستغفار عند ختام الأعمال الصالحات ونهاية الطاعات وإتمام العبادات؛ إذ يجبر النقص فيها، ويملأ قلب العبد طمأنينة وسكينة، ويحفظه من الإعجاب بعمله، ويذكره بتقصيره الفائت، وبأنه بحاجة إلى فعل الصالحات والمداومة عليها، فانظر هديه صلى الله عليه وسلمَ في ختام الصلام، كما جاء عن ثَوْبَانَ (رضي الله عنه) قال: “كَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: “اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ” (رواه مسلم)، وتدبر ختام سورة المزمل، وهى سورة قيام الليل إذ يقول ربنا (سبحانه وتعالى): ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل: 20)، وتدبر قول الحق (سبحانه وتعالى) في الحج: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 199) كما كان من هديه صَلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار، بل تراه يختم حياتَه كلها بالاستغفار، فعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، قالت: “سمعتُ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ) يقولُ عندَ وفاتِه: اللَّهم اغفِر لي وارحَمني وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى”. وعلى هذا الهدي كان السلف الصالح (رضوان الله عليهم) قال أبو هريرة (رضى الله عنه): “الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجِيءَ غَدًا بِصَوْمِهِ مُرَقَّعًا فَلْيَفْعَلْ”.
ها هو شهر رمضان نودع أيامه الأخيرة، فهو كما قال عنه ربنا (سبحانه وتعالى): (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة:184)، قليلة، سرعان ما تنقضي، وهكذا هو أمر الإنسان، أيام؛ كما قال الحسن البصري (رحمه الله): “يا ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك”؛ فما أحوجتنا أن نعتبر بمرور الأيام، ونغتنم ما بقي من أعمارنا وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” (رواه الترمذي).
نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يتقبل منا هذا الشهر، وأن يعيده علينا مرات عديدة في أعمار مديدة، وأن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء
=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن