خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة القادمة : صناعة الأمل ، للشيخ أحمد عزت

«من صور الأمل في القرآن الكريم» ج٣
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٣ من رجب لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ٣ من يناير لعام ٢٠٢٥
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، وبعد
فلقد حفل القرآن الكريم بالحديث عن الأمل، وجاءت آيات كثيرة تتحدث عنه، قال الله تعالى:
– “فإن مع العسر يسرًا . إن مع العسر يسرًا” خرج البزار في “مسنده” وابن أبي حاتم -واللفظ له- من حديث أنس عن النبي ﷺ قال: “لو جاء العسر، فدخل هذا الجحر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه” فأنزل الله عز وجل: “فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرًا”.
وروى ابن جرير وغيره من حديث الحسن مرسلًا نحوه، وفي حديثه: فقال النبي ﷺ: “لن يغلب عسر يسرين”.
فلا تفقد الأمل وإن كنت في سديم العتمة فما نخشاه وما نظنه سرابًا قد يكون حقيقة جميلة تنتشلنا من قاع الشفقة على أنفسنا،
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” [ الطلاق: ٣].
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبْشِرْ بخير فإن الفارج اللهُ
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه
لا تيأسنَّ فإن الكافيَ اللهُ
الله يُحدِث بعد العسر ميسرة
لا تجزعن فإن الصانع اللهُ
فإذا بُليتَ فَثِقْ بالله وارْضَ به
إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ
واللهِ ما لك غير الله من أحد
فحسبُك اللهُ في كلٍّ لك اللهُ
وروى آدم بن أبي إياس في تفسيره بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالك الأشجعي إلى النبي -ﷺ- فقال: أسر ابني عوف، فقال له: أرسل إليه أن رسول الله -ﷺ- يأمرك أن تكثر من قول: “لا حول ولا قوة إلا بالله” فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه، فصاح بهم، فاتبع آخرها أولها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب يألم ما هو فيه من القد، فاستبق الأب والخادم إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه رسول الله -ﷺ- فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله -ﷺ-: “اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعا بإبلك، ونزل قوله تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه” [الطلاق: ٢- ٣] الآية.
وقول النبي ﷺ: “ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب خيره” خرجه الإمام أحمد ، وخرجه ابنه عبد الله في حديث طويل، وفيه: “علم الله يوم الغيث أنه ليشرف عليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب”.
والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده، بإنزال الغيث عليهم، وتغييره لحالهم وهم لا يشعرون.
وقال تعالى: “فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين” [الروم: ٤٨-٤٩]
والأمل ليس هو السعادة أو التفاؤل، الأمل هو ما نشعر به عندما نفكر بأن الحياة تستحق أن تعاش، وأن عملنا يستحق القيام به.
السعادة والتفاؤل لا يمكن أن توجد من دون أمل، ولكن الأمل يمكن أن يوجد بدون السعادة أو التفائل.
مصادر الأمل عند المسلم:ــ
إن هناك أركانًا أربعة لإحياء الأمل الكبير:ـ
١- الإيمان بالله تعالي.
٢- قوة المنهج الذي لا يتغير.
٣- التاريخ يحي فينا الأمل.
٤ الواقع الماثل.
١. الإيمان بالله تعالي:ـ
الإيمان والأمل متلازمين، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشارًا، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر، إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء، الاعتقاد بقوة غير محصورة، ورحمة غير متناهية، وكرم غير محدود، الاعتقاد بإله قدير رحيم، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، إله هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم.
إله يداول الأيام بين الناس. فيبدل من بعد الخوف أمنًا، ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجًا، ومن كل هم مخرجًا، ومع كل عسر يسرًا. قال تعالي {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ …}
[آل عمران: ١٤٠].
* وأن الأمر كله بيده: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ..} [آل عمران]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢].
* وهو سبحانه يورث الأرض من يشاء من عباده، كما قال: {إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.} [الأعراف: ١٢٨]
* وأنه تعالي شديد المحال، عزيز لا يُغلب، كما قال تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ.} [الرعد: ١٣]
* وأنه سبحانه وتعالى له جنود السموات والأرض قال عز وجل: {ولله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: ٤] .
* والله وحده هو المالك لهذا الكون {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.} [آل عمران: ٢٤].
* والله وحده هو القاهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.} [الأنعام: ١٨].
* والله وحده هو النافع الضار {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.} [الأنعام؛ ١٧].
المؤمن الذي يعتصم بهذا الإله البر الرحيم، العزيز الكريم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، يعيش على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه. إنه دائمًا متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه ضاحك، ويستقبل أحداثها بثغر باسم، لا بوجه عبوس قمطرير.
إننا بحاجة ماسة إلى تغذية الإيمان بالله تعالى على أساس واضح من الثقة الكاملة في قوة الله التي لا تقهر؛ فعندئذٍ تزيد ثقته بربه ويطمئن قلبه بوعده ويرضى بقضائه وقدره ويستقيم على شرعه.
فهل يليق بمسلم يرى الطائرات والبواخر العملاقة والصواريخ الفتاكة ثم يضعف بصره عن رؤية الليل والنهار، البحار والأنهار، الماء والريح، الشمس والقمر، النور والظلمة، الحر والبرد؟ من الذي يحرك كل هذا؟
إن الله يجيب في وضوح وجلاء: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٤١].
هل قرأنا القرآن حقًّا وأيقنا بأن الماء الذي هو سر الحياة؟ هو الذي أغرق فرعون وقوم نوح، وأن الرياح اللواقح تحولت مع قوم عاد إلى لواقح {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ.} [الذاريات: ٤٢].
وأن الحجارة التي تبني البيوت والعمارات تحولت إلى هلاك لقوم لوط، هل نوقن أن هناك جنوداً لا ترى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.} [المدثر: ٣١] مثل الفيروسات والميكروبات والإيدز والسرطان والقلق النفسي…؟! هل كان يتصور أحد أن يزول ملك فرعون على يد رجل تربى في بيته؟ وأن يتحول المستضعفون في مكة إلى ملوك الأرض في المدينة والشام ومصر والهند والسند والمغرب العربي؟!
ـ ومن مقتضيات الإيمان بالله تعالي الإيمان بأسمائه الحسني وصفاته العليا ..
قال ابن القيم: أكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يَسلَم من ذلك إلا من عرَف اللهَ وعرَف أسماءَه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته. فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل التام.
والله سبحانه عند ظن عبده به، عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -ﷺ- يَقُولُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)
فَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ
فَإِنَّ الله أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
فلابد من حسن الظن بالله تعالي والثقة المطلقة في إرادته تعالي والتعلق بمشيئته تعالي وعدم التعلق بالأسباب
فعندما تسمع من يقول: ماذا نفعل ونحن مجردون من الأسباب المادية؟!
نقول له إنه تبرير الأذلاء وحجة الضعفاء، وكأن الأسباب المادية هي التي تأتي بالنصر. فماذا كان يملك نوح عليه السلام من الأسباب المادية عندما وقف أمام قومه وقال لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ.} [يونس: ٧١].
ونفس الموقف يتكرر مع هود عليه السلام يقف وحده أمام قومه ويتحداهم قائلًا: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ.} [هود: ٥٥] فإني لا أخشاكم ولا أبالي بكم، فمعي قوة لا تقهر ومعي نصير لا يغلب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا.} [هود: ٥٦]
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وأنتم أيها الغلاظ الشداد ما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربي بناصيتها، فما خوفي إذًا منكم؟
إنها حقيقة الألوهية عندما تتجلي في قلوب الصفوة المؤمنين، عندها يهتف القلب على الفور: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.} [يوسف: ٧٦]
■ ومن مقتضيات الإيمان بالله تعالي الثقة في معية الله تعالي وحفظه لعبده المؤمن
– فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال: “حسبنا الله ونعم الوكيل” فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ. فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.} [الأنبياء: ٦٩].
– وهذه هاجر عليها السلام امرأة مؤمنة، ترَكها زوجها إبراهيم عليه السلام مع ابنها الرضيع بأرض قفار لا أثر فيها للحياة، وقفل راجعًا وهي تتبعه متعجبة من هذا الصنيع؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. إنها الثقة بالله التي تقوِّي الذات ولا تدمّرها؛ لأنها تنقلها من التواكل إلى التوكل، وتُشعِرها أنها تستمد قدرتها من قدرة الله.
– وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ- المشركين، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
قَالَ:( الله)، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
ـ وأيضا الثقة بما عند الله من ثواب وعقاب…. فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله أي تسبيحة أو تحميدة أو صدقة أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك: قال تعالي{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.} [التوبة: ١٢٠-١٢١]
أيها المؤمنون ….إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.
٢ـ قوة المنهج الذي لا يتغير:ـ
إن قوة المنهج جزء من قوة الملك الذي أنزل الكتاب وأجرى السحاب وهزم الأحزاب. إنه القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة: قال تعالي{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.} [الحجر: ٨٧]،
وقال تعالي{لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢]، ولا تستطيع قوى الإنس والجن لو اجتمعت أن تأتي مثله، ولا تستطيع حضارة اليوم أن تواجه تحدي القرآن في إعجازه اللغوي والتشريعي والتاريخي والعلمي {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِاجْتَمَعُوا لَهُ …} [الحج: ٧٣].
فالمؤمن يثق في كلام الله؛ لأن كلام الله كله صدق سواء في الأخبار أو في الأحكام ( الأوامر والنواهي) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ..} [الْأَنْعَامُ] أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام. ومن الأمثلة التطبيقية حديث الأنصاري الذي لزم المسجد حزينًا من كثرة همومه وديونه أرشده النبي -ﷺ- إلى استبدال اليأس بالأمل والتفاؤل، وأن عليه أن يترك اليأس والتشاؤم ويحسن التوكل على الله تعالى، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: “يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَالِي
أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ؟”.
قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: “أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟”. قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: “قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ”. قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي” أخرجه أبو داود.
ولذلك حاول أعداء الإسلام أن يحرفوا القرآن ويهاجموا السُّنَّة، وأن يحطوا من شأن هذا الدين، والله تعالى في عليائه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا …} [فصلت: ٤٠].
لقد ظل الملايين في العالم يحفظون القرآن ويقرءونه، وبقي الكتاب الأول المحفوظ في الصدور المتلوّ في المساجد والدور، المقروء من المؤمنين وغيرهم في المدن والقرى والكفور.. لقد بقي كالشمس الساطعة على العالم رغم أنفه، والقمر المضيء على الكون رغم ظلمته، إنه النور الذي لا يُطفأ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: ٣٢].
فالمعركة مع القرآن مآلها الخسران، هذا وعد الرحمن للمؤمنين ووعيده للكافرين {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.} [الأنفال: ٣٦].
لقد سبقت بريطانيا وفرنسا إلى الحرب على القرآن والسنة، وقال اللورد كرومر عندما جاء إلى مصر، جئت لأهدم ثلاثة: القرآن، والكعبة، والأزهر. وهلك دون مراده.
أيها المؤمنون… ثقوا في قوة القرآن والسنة، ثقوا أن معكم أقوى سلاح على وجه الأرض؛ لأنه سلاح تعمير الأرض لا تخريبها، إحياء الموتى لا قتل الأبرياء، الحكم بالعدل وليس إشاعة الظلم، التحلي بالعفة لا التدني بالخسة، التكافل بين الأغنياء والفقراء ليس الحقد والسرقة والاعتداء، الأمن لا الخوف، البر لا الظلم، الإحسان لا الطغيان، السكينة لا الضغينة، التواضع لا الكبر والخيلاء، وحق لمنهج هذه بعض معالمه أن يقود وأن يسود، وأن نتحرك به في هذا الوجود؛ حتى يسطع نوره على أهل الأرض جميعًا.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. وبعد ف
٣ـ التاريخ يحي فينا الأمل:ـ
اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر
ضلَّ قومٌ ليس يَدْرُون الخَبَر
إن التاريخ كله يعطي رسالة واضحة {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ …} [آل عمران: ١٤٠].
فدوام الحال من المحال “دولة الإسلام مع الظلم تزول ودولة الكفر مع العدل تطول”. فكيف إذا اجتمع الكفر والظلم؟! إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات قال تعالي: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ.}[القصص: ٥٨]. وقال تعالي: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا.} [الكهف: ٥٩].
إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيعون من لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟ أين عمالقة الهند والصين؟ أين هولاكو ولويس التاسع؟ أين نابليون؟ أين كارل ماركس ولينين وستالين؟ وغيرهم كثير؟ {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ . أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ . سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ.} [القمر: ٤٣-٤٦].
وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم…..
والكثير منا يتذكر قصة ذلك القائد الذي هُزِم في إحدى المعارك فاختلى بنفسه ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسًا عظيمًا، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببًا في انتصاراته ونجاحاته كُلها، فلولا الأمل لسيطر اليأس على القلوب، وأصبح الكل يحرص على الموت.
وقد مر كسرى ملك الفرس يومًا بشيخ عجوز يزرَع شجرة زيتون، فقال له متعجبا: “أيها الشيخ! ما بالك تغرِس هذه الشجيرة وهي لا تُثمر إلا بعدَ أعوام عديدةٍ وأنت شيخ هرم؟ فهل تأمُل أن تأكل من ثمرها؟” فقال له الشيخ العجوز: “أيها الملك لقد غرسوا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرِس لكي يأكل من يأتي بعدَنا” فاستحسن جوابه، وأمر له بجائزة. فقال له العجوز: “ما أسرع ما أثمر هذا الشجر”
فهكذا الحياة أمل وعمل. فالأمل مع العمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر؛ لتحثهم على تعمير الكون، وقد قال النبي ﷺ: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) (رواه البخاري في الأدب المفرد). فالنبي -ﷺ- يوجهنا، ويريد منا بأن لا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد حاجاتنا، ولكن أن نعمل لحاضرنا ولمستقبلنا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى