خطبة الجمعة القادمة : محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي الرحمة، بتاريخ 4 من ربيع أول 1436 هـ – 26 من ديسمبر 2014م
خطبة الجمعة القادمة : محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي الرحمة، بتاريخ 4 من ربيع أول 1436 هـ – 26 من ديسمبر 2014م.
لتحميل الخطبة أضغط هنا .
ولقراءة الخطبة كما يلي:
أولاً : العناصر :
1- النبي (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين.
2- من مظاهر رحمته (صلى الله عليه وسلم):
– رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالنساء
– رحمته بالأطفال
– رحمته بالمذنبين والمخطئين.
– رحمته بغير المسلمين
– رحمته بالحيوان .
3-الاقتداء بالرحمة النبوية وأثره في حياتنا المعاصرة.
ثانيًا – الأدلة:
الأدلة من القرآن الكريم:
1-يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
2-ويقول تعالى:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
3-ويقول تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }[آل عمران: 159].
4-ويقول تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31].
الأدلة من السنة النبوية:
1-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِنِّى لأَدْخُلُ الصَّلاَةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ»[متفق عليه].
2-وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ. وَقول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ – وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ) فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ»[صحيح مسلم].
3-وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ». فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ»[سنن أبي داود].
4-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : «إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»[صحيح مسلم].
5-وعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): «رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لاَ تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ»، قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. [صحيح البخاري].
6-وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: «إِنْ كُنْتُ لَآتِي النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْإِنَاءِ فَآخُذُهُ فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ، وَإِنْ كُنْتُ لآخُذُ الْعَرْقَ مِنَ اللَّحْمِ فَآكُلُهُ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ فَيَأْكُلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ»[صحيح ابن حبان].
7-وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَرْحَمَ النَّاسِ بِالْعِيَالِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مُسْتَرْضَعٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، وَكُنَّا نَأْتِيهِ ، وَقَدْ دَخَنَ الْبَيْتُ بِإِذْخِرٍ ، فَيُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ”[الأدب المفرد للبخاري].
8-وعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : «دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»[صحيح البخاري].
9-وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «….اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلاَلٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ…..»[صحيح مسلم].
10-وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ : فَدَخَلَ بُسْتَانًا لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟»، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»[سنن أبي داود].
ثالثًا- الموضوع :
لقد جمع الله سبحانه وتعالى لرسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) مكارم الأخلاق البشرية، وتألّقت روحـه الطاهرة بعظيم الشمائـل والخِصال، وسيرته العطرة نبع سخيّ ومصدر ثريّ لكل أنواع العظمة الإنسانيَّة، وكيف لا يكون كذلك وقد اصطفاه الله تعالى على بني آدم، وختم به أنبياءه، فكانت حياته أنصع حياة عرفتها الإنسانيَّة منذ نشأتها، ويكفيه (صلى الله عليه وسلم) شرفًا أن الله سبحانه وتعالى قد شهد له بعظمة الأخلاق فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4].
الرحمةُ المهداةُ جاء مبشِّرا ** ولأفضلِ الأديان قام فأنذرا
ولأكرمِ الأخلاق جاء مُتمِّمًا ** يدعو لأحسنِها ويمحو المنكرا
صلى عليه اللهُ في ملكوته ** ما قام عبدٌ في الصلاة وكبّرا
ومن عظيم الأخلاق التي تحلَّى بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) خُلُقُ الرحمة، فلقد وهبه الله قلبًا رحيمًا ، يرقُّ للضعيف، ويحنو على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، فكانت الرحمة له سجيّة، فشملت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فهو رحمة الله للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهو (صلى الله عليه وسلم) رحمة ربانية مهداة لكل الخلق، وما سنته وسيرته وحياته كلها إلا مظاهر من رحمته (صلى الله عليه وسلم)، بل من مظاهر رحمة الله تعالى بالخلق أن بعث هذا النبي الكريم، فقد جاء بمنهج شامل للحياة، كانت الرحمة من أهم ركائزه، ولقد علَّمَنا بمواقفه العظيمة وتعامله مع الجميع كيف ننسج من الرحمة ثوبًا نهديه إلى من حولنا، ليتحول العدو إلى حبيب بتلك اللمسة الحانية.
ومن رحمته (صلى الله عليه وسلم) أنه كان حريصًا على الناس شديد الخوف عليهم، يسعى بكل سبيل لرفع المشقة عنهم، يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، إنه من أَنْفُسِنا ومن أَنْفَسِنا شفوق بنا، حريص علينا يشق عليه عصياننا، رؤوف بنا يقف على الصراط يقول: ربِ سَلِّمْ سَلِّمْ، ويطيل السجود والدعاء يدعو لأمته بالنجاة والسعادة يوم القيامة، يسجد تحت عرش الرحمن فلا يرفع رأسه حتى يقال له: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى».
لقد قضى حياته (صلى الله عليه وسلم) في خدمة من حوله وإعانتهم، فها نحن أُولَاءِ نراه في خدمة أهل بيته، وكأنه يريد أن يخفف عنهم وطأة متاعب أشغال المنزل، هذه الأعمال التي يأنف معظم الرجال أن يعيروها قدرًا من تعاونهم، كانت أمرًا طبيعيا في حياته (صلى الله عليه وسلم)، إن المرأة لا تحتاج إلى من يساعدها في عملٍ ما بقدر حاجتها لأن تشعر دائما بطيور الرحمة ترفرف حولها، وهكذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغمر أهل بيته بالرحمة، وذلك كلُّ ما تتمناه المرأة من زوجها.
وقد تعددت مظاهر التعبير عن الرحمة من جانب النبي (صلى الله عليه وسلم) تجاه أهل بيته، فتارة نراه في خدمة أهل بيته، وتارة نراه يداعبهم ويُدخل السرور إلى قلوبهم، وتارة أخرى نراه يتجاوز عن أخطائهم برحمة وحُنُوّ، وهكذا كانت إشارات الرحمة تنتشر في بيت النبوة، فتفيض عليه حنانًا، سُئلَتْ عَائِشَةُ (رضيَ اللَّه عنها): “ما كانَ النَّبِيُّ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم) يَصنعُ في بَيْتِهِ ؟ قالت: كان يَكُون في مِهْنَةِ أَهْلِهِ. يَعني: خِدمَةِ أَهلِه. فإِذا حَضَرَتِ الصَّلاة، خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ.”[صحيح البخاري]، ولو قرأ الرجال سيرته واقتدوا به ما تحولت بيوتهم إلى جحيم لا يطاق!!
لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رحيمًا بالمرأة، ويوصي بالرحمة بها، بل كان يشفق على المرأة حين يسرع الحادي في قيادة الإبل التي تركبها النساء، فيقول له: رفقا بالقوارير، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) حَادٍ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): “رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لاَ تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ”. قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ.[صحيح البخاري]، أراد أنّ الإبل إذا سَمِعت الحُداء أسْرعَت في الْمشي واشْتَدّت فأزْعجت الراكب وأتْعَبَتْه فنهاه عن ذلك لأنّ النساء يَضْعُفْن عن شدّة الحركة [النهاية في غريب الأثر لابن الجزري]، يوصي الحادي ألا يسرع بهن!! وما الإسراع بهن شيء يذكر بجوار ما تلاقيه المرأة من معاناة في حياتها من غلظة وجفاء في أحيان كثيرة.
وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل بيته، بادر بالسلام، وإذا دخل ليلًا، خافَتَ به حتى لا تستيقظ زوجته إن كانت نائمة. كما ورد في حديث المقداد قال: «… فَيَجِىءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لاَ يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ»[صحيح مسلم]، ألهذه الدرجة؟! يخشى من أن يوقظ أهل بيته وهم نائمون حتى لا يقطع عليهم نومهم وراحتهم! يالها من رحمة عجيبة يجب أن تنحني أمامها جباه كل عظيم.
ومن عجيب رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالمرأة أن يراعي نفسيتها في الأيام الشهرية التي يعتريها فيها ما كتبه الله تعالى على بنات حواء، وفيها يختل نظام الهرمونات لدى المرأة وتكون في أمسِّ الحاجة إلى لطف المعاملة، والحنوّ والرأفة، وهذه أمور لا يقدرها كثير من الرجال ولا يلتفتون إليها، بل ربما زادوا من ضغوطهم عليها، وربما يغضبون حين يجدون من المرأة تغيرًا في السلوك، ويصفونها بالمتقلبة وبالعبوس، أما سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) فنرى أنوار رحمته تفيض على زوجه عائشة، حين تشرب فيبحث عن موضع شفتيها ليشرب منه، فعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: «إِنْ كُنْتُ لَآتِي النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِالْإِنَاءِ فَآخُذُهُ فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيَأْخُذُهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ وَإِنْ كُنْتُ لآخُذُ الْعَرْقَ مِنَ اللَّحْمِ فَآكُلُهُ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فِيَّ فَيَأْكُلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ»[صحيح ابن حبان]، إنها قمة الرأفة، بل قمة الإنسانية أن تحتمل من تحب في لحظات ضعفه وتحنو عليه وترحم آلامه، لا أن تتجاهل مشاعره أو تضغط عليه وتحمّله عبئًا فوق عبئه.
ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رحيما بالصغار، إذا رأى ولده إبراهيم يأخذه فيقبله ويشمّه، وهذا مشهد آخر يظهر عظمة محمد (صلى الله عليه وسلم) الإنسان العطوف الذي زاد شوقه إلى ولده الغائب لدرجة جعلته يقبله ويشمُّه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَرْحَمَ النَّاسِ بِالْعِيَالِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مُسْتَرْضَعٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا وَكُنَّا نَأْتِيهِ ، وَقَدْ دَخَنَ الْبَيْتُ بِإِذْخِرٍ ، فَيُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ”[الأدب المفرد للبخاري].
لقد اعتبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عدم تقبيل الصغار وإشباعهم بالحب والعطف قسوة ونزعًا للرحمة، فعَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ! فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ”[صحيح البخاري]، بل إن الصلاة نفسها لا تنسيه رحمته بالأطفال ورأفته بهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْعِشَاءَ ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ”[مسند أحمد]، بل كان يسمع بكاء طفل صغير وهو في الصلاة فيخفف رحمةً بالطفل وبأمه، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : “إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِه”[صحيح البخاري].
ولقد شملت رحمته (صلى الله عليه وسلم) الجاهل فكان يعلمه برفق ولا يُعَنِّفُه على تقصيره،ولا يَنْتَقِصُ من قدره، فهذا الأعرابي الذي بال في مسجده (صلى الله عليه وسلم) ثار الناس وهموا أن يفتكوا به لهذا الجُرم الذي فعله،فماذا فعل النبي (صلى الله عليه وسلم)؟! قال: ” دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ – فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ”[صحيح البخاري]، وهذه الكلمة نوجهها لكل المسلمين مع ما يقع بينهم الآن من تقاطع وصراع: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.
وهذه رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمخطئ، فماذا فعل مع هذا الشابّ الذي جاءه يستأذنه في الزنا!! فصاح به الناس، لكنه (صلى الله عليه وسلم) قربه منه وقال له في منتهى اللطف والرفق : “أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟”قَالَ: لا، قَالَ:”وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟”قَالَ: لا، قَالَ:”وَكَذَلِكَ النَّاسُ لا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟….. ثم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِ هَذا الشَّابّ ، وَقَالَ:”اللَّهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ”[المعجم الكبير للطبراني]، فخرج الشابّ وما شيء على وجه الأرض أبغض إليه من الزنا، فهذه رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتلكم ثمرتها!!
ومن مظاهر رحمته (صلى الله عليه وسلم) بغير المسلمين أنه كان يسعى إلى هدايتهم والرفق بهم، وتقديم جانب الحوار على الصدام، فهو يجنح إلى السلم ويبرم المعاهدات، وإذا صار حال العدو إلى ذلٍ وقهرٍ رَحِمَهُ (صلى الله عليه وسلم)، يرسل إلى الأمم والملوك رسائل يدعوهم فيها إلى الحق قبل أن يفكر في حربهم، وإذا أرسل جيشًا أوصاه بالرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء والذين لا يحاربون، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «….اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلاَلٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ…..»[صحيح مسلم].
والعجب كل العجب أن نجد مظلة الرحمة النبوية تمتد لترفرف على من ناصبوه العداء وحاربوه وفعلوا معه كل ما يستطيعون من الكيد والإيذاء، إن يوم الحديبية وحده يكفي دليلا على عظمة رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فهاهو يقترب من مكة التي خرج منها مطرودًا، وهو اليوم في موطن القوة يستطيع أن يفاجئ القوم ويفعل بهم ما يريد، لكنه يؤثر السلم ويقبل شروط أهل مكة التي لم يرضَ بها كثير من المسلمين في حينها ، فقبلها حتى لا تراق قطرة دم، لقد كانت الرحمة في تفاصيل حياته كلها حتى في وقت الحروب التي دُفِعَ إليها دفعًا، فهاهو يدخل مكة يدخل مكة بجيشه العظيم الذي أعجز أهل مكة أن يقاوموه – مجرد مقاومة- فيسمع سعد بن عبادة (رضي الله عنه) يقول مزهوًا: “اليوم يوم الملحمة”، فيردّ النبي (صلى الله عليه وسلم): “بل اليوم يوم المرحمة”! ثم تأتي لحظة النصر فيقف أهل مكة جميعًا أمامه خاضعين مستسلمين ينتظرون أيَّ قضاء يقضي فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فيقول لهم: «مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟ ». قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ : « اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»، قالها لهم وفيهم الذين حاصروه هو ومن معه ثلاث سنوات، يمنعون عنهم الطعام فمات من مات معه من الصغار والكبار ، وفيهم الذين قتلوا عمه حمزة (رضي الله عنه) ومثلوا بجثته وحاولوا أكل كبده، وفيهم الذين باتوا يدبرون له المكايد.
إنها رحمة عامة لكل الخلق، ألّفت حوله القلوب، وأذابت الأحقاد فتحولت العداوة إلى محبة، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، يقول ابن كثير رحمه الله: ” أي: لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم”
ومع كل هذا نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعلمنا الوسطية والاعتدال حتى في خُلُقٍ كالرحمة، فلقد كانت رحمته (صلى الله عليه وسلم) مكسوة بالوسطية، فهو رحيم دون ضعف، متواضع في غير ذلة، محارب لا يغدر، سياسي لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب لكن لا ينقض العهود والمواثيق، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والقوة في مواجهة الخصوم.
وهذه الرحمة النبوية لم تقف عند حدود البشر، بل امتدت لتشمل الحيوان، فهاهو يوصي بالرفق في الحيوان والإحسان إليه في هذه اللحظة التي يفارق فيها الحياة – عند الذبح- فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[سنن الترمذي]، إنه (صلى الله عليه وسلم)لا يريد لمخلوق لحظة عذاب لمخلوق ضعيف – وإن كان حيوانًا- ودَخَلَ بُسْتَانًا لِرَجُلٍ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟»، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»[سنن أبي داود].
بعد هذه اللمحات والمشاهد من حياته التي تفيض رحمةً ندرك لماذا حثَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) أتباعه على أن يتخذوا من الرحمة نهجًا في حياتهم، فإن الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى يرحم من عباده الرحماء، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إِنَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ»[متفق عليه]، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عن النَّبِىِّ(صلى الله عليه وسلم) قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ»[سنن أبي داود]، فَلْتَرْحَم الضعيف ولترحم اليتيم، وإن وجدت في قلبك قسوة فاعلم أنها تجرُّ صاحبها إلى النار والعياذ بالله، فإن الله تعالى جعل القسوة علامة على التكذيب بالدين فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون: 1 – 3]، وفي حديث الهرة التي دخلت بسببها امرأة النار، والكلب الذي دخل رجل بسببه الجنة نجد أثر الرحمة والقسوة، فما الهرة في حد ذاتها تستحق إدخال هذه المرأة النار إلا لما كانت دليلا على قسوة القلب، ولا الكلب يستحق دخول هذا الرجل الجنة إلا لما كان دليلا على رحمة في قلبه، فالله عز وجل يريد منا أن نتراحم وأن يعطف بعضنا على بعض.
فارحم أخاك الذي تجعل من أي خصومةٍ بينك وبينه مبررًا لأن تقسوَ عليه وتغلظ له القول والفعل، وتحاول الفتك به، متناسين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان رحيمًا – كما رأينا- حتى بالكفرة الذين كان كفرهم صريحًا لا مرية فيه، فلقد كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أظهرهم.
لقد كانت غاية النبي (صلى الله عليه وسلم) هي رحمة الإنسان وهدايته والسعي بكل سبيل إلى نجاته من المهالك في الدنيا والآخرة، فعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: « أَسْلِمْ ». فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ»[سنن أبي داود]، ولقد قال (صلى الله عليه وسلم) لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يوم خيبر: «عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[صحيح البخاري]، لأنه سيكون سببًا في إنقاذ رجل – بل ربما أسرة ممتدة إلى يوم القيامة من الشقاء الأبدي.
فلْنتراحم فيما بيننا، لنرحم من في الأرض يرحمنا من في السماء، {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] .