خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة بعنوان: التحذير من خطورة التكفير، للدكتور/ محمـد حسن داود

خطبة الجمعة بعنوان: التحذير من خطورة التكفير، للدكتـــــور/ محمـد حســــن داود
الشيخ محمد حسن داود (17 رجب 1446هـ – 17 يناير 2025م)
 العناصـــــر :
 خطورة الفكر التكفيري، وتحذير الإسلام منه.
 أثر الفكر التكفيري وأسبابه وعواقبه.
 الغش وأثره وصوره.
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
 فإن الإسلام دين في جوهره ورسالته، وأحكامه وتشريعاته، وجملته وتفصيله؛ يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يقوي ولا يضعف، يبنى ولا يهدم، رحمة كله، إنسانية كله، سماحة كله، فما من خير إلا وبين فضله وأمر به وحث عليه، وما من شر إلا وبين خطره ونهى عنه وحذر منه؛ ومما نهى الإسلام عنه وحذر منه: “التكفير”.
 فالفكر التكفيري أخطر ما يكون على الفرد والمجتمع، فهو فكر من يتربص بالأمن والأمان والاستقرار، لا يسكن إلا عقول زارعي الفتن، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، جهلاء العقول، دعاة جهنم؛ حيث اندلقت ألسنتهم بالباطل واندلعت أصواتهم بالضلال؛ والحق سبحانه وتعالى يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ”. ومسألة تكفير الناس شديدة في أمرها وخطيرة في عواقبها وليس أمرها بالهيِّن، يقول الإمام القرطبيّ (رحمه الله): “وبابُ التّكفير بابٌ خطير أقدَم عليه كثير من النّاس فسقَطوا، وتوقّف فيه الفحولُ فسلِموا، ولا نعدِل بالسّلامة شيئًا”.
 فأنظر كيف صوره النبي (صَلى الله عليه وسلم)، في شدته وخطورته؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلمَ: “وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ” (رواه البخاري ومسلم) وكلُّنا يعلم جزاء من قتل مؤمناً عمداً بغير حق، فقد قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93).
 إن من أسباب ظهور الفكر التكفيري:
 الغلو في الدين؛ والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يقول محذرا من الغلو في الدين: “إياكم والغلوَّ في الدينِ فإنما أهلَك مَن كان قبلَكم”، ويقول: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ أَحَدٌ إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ” (رواه البخاري).
 كما أن من أسبابه القول على الله بغير علم؛ وهذا خطر جسيم وفساد عريض، فإن أخطر المعاصي وأشد الذنوب القول على الله (جل وعلا) بغير علم فقد قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (النحل: 116) وفى ذلك زجرا لكل من سولت له نفسه أن يقدم على الكلام في شرع الله بغير علم ولا هدى فقد قال جل وعلا: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) (الأعراف: 33). لذا يجب الحذر دائما؛ فإن الأفكار الزائغة والمفاهيم المنحرفة والأقوال الشاذة لا تظهر إلا بترك العلماء أهل التقى والوسطية، وأخذ العلم عن أهل الجهل والهوى والغلو والتطرف، وفي ذلك نذكر بما قاله ابن سيرين: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم” (نسأل الله أن يحفظ مصر، وأن يحفظ الأزهر).
 كما أن من أسباب ظهور التكفير: اتباع الهوى، ولا شك أن اتباع الهوى آفة من أعظم الآفات؛ والله (عز وجل) يقول : (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50). وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23).
إن القارئ في التاريخ والسير يرى جيدا كم كان الصحابة (رضي الله عنهم) يخافون كلمة التكفير ويحذرون أمرها، فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما): هَلْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ: كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَكُنْتُمْ تَقُولُونَ: مُشْرِكٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ. فإن الإسلام لا يقر التكفير ولا يرضى به؛ بل إن التكفير ينفر من الإسلام ويصد عن طريقه، يشوه صورة الإسلام؛ يشوه سماحته، ووسطيته، ويسره ويورث الناس المشقة والحرج والعسر، فكيف يقر الإسلام هذا الباطل، والله (عز وجل) يقول (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78)، والنبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول: “بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا”.
 إن في إلقاء الناس بالكفر تعدي واضح وصريح على مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت الشريعة بحمايتها وحفظها من كل جاهل يلقي الناس بالكفر. نعم إن قضية إلقاء الناس بالكفر قضية خطيره وجريمة نكراء؛ حيث إنها تحدث فوضى واضطراباً في المجتمع، وتمزيقاً لأواصر المحبة، وغرساً لبذور الشقاق والخلاف، ولقد اتخذه السفهاء مطية وذريعة ومسوغا لاستباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال؛ لذا تدبر معي وأنظر إذ يحذرنا رسولنا صلى الله عليه وسلمَ من الوقوع في مثل هذه المهالك؛ إذ يقول: ” إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا” (رواه البخاري). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) قال: ” أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ “. ويقول صلى اللهُ عليه وسلم: “إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءَ الْإِسْلَامِ، اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ؛ انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ، قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: “بَلِ الرَّامِي”. وعَنِ ابنِ مَسْعودٍ (رَضْيَ اللهُ عنه) أنَّ النَّبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) قال: “هَلَكَ المُتنَطِّعونَ” قالها ثلاثًا. (رواه مسلم).
 الخطبة الثانية /
إن من أشد ما حذرنا الإسلام منه: “الغش” بكل ضروبه وأنواعه، وبكل أشكاله وألوانه، لعموم ضرره، وشمول خطره، واستفحال أمره، وكثرة شره، وكفى زاجرا عنه قول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا”
وإن الغِش لا يقف في صوره على ميدان ولا مجال، بل تراه في مجالات كثيرة؛ فيكون الغش في النصيحة، بعدم الصدق فيها، ويكون الغش في الأمانات بعدم حفظها، أو بعدم ردها كما هي إن كانت مادية، ويكون الغش في العهود بعدم الوفاء بها، ويكون الغش مع الأولاد بعدم التربية الحسنة، ويكون الغش في القول بالكذب، وإن أشهر ما يكون الغش فيه: التجارة: ومن صوره: بيع المعيب دون بيان عيبه، أو التطفيف في الكيل، أو الاحتكار.
 فالواجب أن لا يبيع التاجر معيبا إلا بينه؛ إذ يقول رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ”. وما أعظمه من باب لجلب البركة؛ فلما سُئل عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه)،عن سر بركة ماله ويسر حاله اثر التجارة، قال: “ما رددتُ ربحاً قط، وما كتمتُ عيباً قط “. وتدبر هذا الموقف، فلقد مَرّ رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)، عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي “(رواه مسلم)
 كذلك اهتم القرآن الكريم بأمر الكيل والميزان وجعل الوفاء بهما من وصاياه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) (الأنعام:152)، وقال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفينَ * الَّذينَ إِذا اكْتالوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفونَ * وَإِذا كالوهُمْ أو وَزَنوهُمْ يُخْسِرونَ * أَلا يَظُنُّ أولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعوثونَ * لِيَوْمٍ عَظيمٍ* يَوْمَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمينَ ) (المطففين1-6).
 كذلك من مظاهر الغش في التجارة احتكار السلع: ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : “مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ”. وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: “مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ”( رواه ابن ماجه ).
نسأل الله (عز وجل) أن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء
محمد حســـــــن داود
إمام وخطــيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى