خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة : صِنَاعَــــةُ الأَمَـــلِ ، للدكتور مسعد الشايب
خطبة الجمعة : صِنَاعَــــةُ الأَمَـــلِ ، للدكتور مسعد الشايب ((صِنَاعَــــةُ الأَمَـــلِ))
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
الجمعة 3 من رجب 1446هـ الموافقة 3 من يناير 2025م
===========================================
أولا: العناصر:
1. دعوة الشريعة الإسلامية للتحلي بالأمل، بيان ماهيته، ومكانته.
2. ستُ صورٍ، وأشكالٍ للأمل في رحمة الله.
3. الخطبة الثانية: (صورٌ من الهجرة الغير مشروعة).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجّلين، صلاة وسلاما عليك يا سيدى يا رسول الله، وعلى آلك، وأصحابك، وأتباعك، وأحبابك، إلى يوم الدين، وبعد:
===========================================
(1) ((دعوة الشريعة الإسلامية للتحلي بالأمل، وبيان ماهيته، ومكانته))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: خرج نبينا (صلى الله عليه وسلم) ذات يومٍ فرحًا مسروًرا، وهو يضحك، ويقول: (لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرَ يُسْرًا})(شعب الإيمان للبيهقي)، وكان سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالسًا ذات يوم أيضًا، فنظر إلى جحر، ثم قال: (لو جَاءَ الْعُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ هَذَا الْجُحْرِ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يُخْرِجُهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا})(رواه البزار في المسند).
وعن خباب بن الأرت (رضي الله عنه)، قال: شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة (ينام على عباءة له في ظل الكعبة)، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، (وكانت تلك الشكوى وقت اشتداد الإيذاء والاضطهاد للنبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته من كفار قريش). فقال: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)(رواه البخاري)، فهذه النصوص دعوة للتحلي بالأمل والبعد عن اليأس والإحباط، وخصوصًا في أوقات الأزمات.
=====
والأمل هو: انشراح الصدر، وإحسان الظنّ، وتوقع الخير، والطمع في رحمة الله فيما يتعلق بالأمور المستقبلية، أو هو شوق الوصول لهدف يلوح على البعد، باعثه الحاجة والرغبة في السعادة، فهو ضرب من التفاؤل.
=====
والأمل هو الحياة: فالحياة لا تتحرك ولا تدور عجلتها إلا بالتحلي بالأمل، فالأمل هو القوة الدافعة للإنسان في تلك الحياة، يبعث فيه العزيمة والقوة والنشاط، ويشرح صدره للعمل، ويخلق فيه الصبر و الجِدّ والكفاح والمثابرة.
=====
فلولا الأمل ما ذاكر طالبٌ ولا اجتهد، لولا الأمل ما زرع فلاحٌ ولا حصد، لولا الأمل ما أنجب والدٌ ولد، لولا الأمل ما تناول مريضٌ دواء ليتحصل على الشفاء، لولا الأمل ما ركب تاجرُ الأهوال والمخاطر، لولا الأمل في الجنة ما عصى مؤمن شيطانه وهواه….وهكذا.
فالأمل حياة؛ لأن به تدور وتتحرك عجلة الحياة، وهو الذي ينير لنا دروبها، ويخفف من ويلاتها، وهو مصدر البهجة والفرح والسرور فيها، فالإنسان لا يستطيع أن يحيا بلا أمل، فحياة بلا أمل حياة جافة, قاحلة, شاقة, شائكة, عابسة, كالحة, فلا حياة مع اليأس, ولا يأس مع الحياة.
أحبتي في الله، إن الأمل والإيمان قرينان: فالحق تبارك وتعالى يقول على لسان يعقوب (عليه السلام): {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87]، ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ*قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ*قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ*قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:51ـ56].
=====
فالمؤمنون الموحدون حقيقة هم أكثر الناس أملا، وأكثرهم تفاؤلًا واستبشارًا وأبعدهم عن اليأس والتشاؤم، يثقون في الله (عزّ وجلّ)، ويحسنون الظن به، إذا مرضوا لم ينقطع أملهم في الشفاء، وإذا وقعوا في خطأ لم ييأسوا من رحمة الله وعفوه، وإذا كانوا في ضيق أو هم أو غم وثقوا أن مع العسر يسرًا، وإذا أصابتهم مصيبة صبروا أملًا في الأجر والثواب وثقة في وعد الله لهم بالخير.
=====
ولقد قرن النبي (صلى الله عليه وسلم) بين الشرك وبين اليأس والتأييس من رحمة الله (عزّ وجلّ) مبالغة في التحذير والتنفير منه، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما): أن رجلًا قال: يا رسول الله ما الكبائر؟. فقال (صلى الله عليه وسلم): (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِياسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)(المعجم الكبير للطبراني).
=====
أيها الأخوة الأحباب إن التحلي بالأمل من أعظم صفات الأنبياء والمرسلين: فسيدنا نوح (عليه السلام) يتحلى بالأمل في دعوته لقومه، ويطمع في إيمانهم له، فيلبث فيهم داعيًا إلى الله ألف سنة إلا خمسين عامًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14].
=====
وانظروا إلى سيدنا زكريا (عليه السلام) بالرغم من كبر سنه، ووهن عظمه، واشتعال رأسه بالشعر الأبيض، وطعن امرأته في السن لا يفقد الأمل في أن يرزقه الله (عزّ وجلّ) بالذرية التي تحمل علمه من بعده، فالحق تبارك وتعالى يقول متحدثًا عنه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا*قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا*وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا*يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:2ـ6].
===========================================
(2) ((ستُ صورٍ، وأشكالٍ للأمل في رحمة الله))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: لقد فتح الله (عزّ وجلّ) لنا باب الأمل واسعًا على مصراعيه في كل شيء, فعلى سبيل المثال:
1ـ الأمل في التوبة، والعفو، والصفح، وهذا بابٌ فتحه للعصاة والمذنبين، فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]، نزلت هذه الآية في قوم قتلوا فأكثروا القتل، وزنوا فأكثرا الزنا، فقالوا: يا محمد إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت تلك الآية، وفي الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)(رواه الترمذي).
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)(رواه مسلم)، فلا ييأس مذنب من عفو الله.
=====
2ـ الأمل في الشفاء، وهذا بابٌ فتحه الله للمرضى، فالحق تبارك وتعالى يقول على لسان خليل الأنبياء: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، ويقول سبحانه وتعالى عن أيوب (عليه السلام): {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[الأنبياء:84،83]، وعن أسامة بن شريك (رضي الله عنه)، قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ها هنا وها هنا، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: (تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ)(رواه أبو داود)، فلا ييأس مريض من أمر مرضه مهما كان داؤه عضالًا، ولا ييأس عقيم من عدم الإنجاب, فعليهما الأخذ بأسباب التداوي مع التعلق بحبل الله في الشفاء.
=====
3ـ الأمل في فك الكربات، والأزمات، وهذا بابٌ فتحه الله لكل من كان في ضيق وكرب، فهذا نبي الله يونس (عليه السلام) سجين في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ومع ذلك يتمسك بالأمل، ويأوي إلى الركن الشديد، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88،87]، وهذه السيدة مريم (عليها السلام) لما حان وقت ولادة عيسى (عليه السلام) تمنت أن لو كانت تحت التراب خوفًا من الاتهام في شرفها، فيطمئنها الحق تبارك وتعالى فاتحًا لها باب الأمل، قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا*فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا*وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}[مريم:23ـ26]، ولنا في حديث الرعاة الثلاثة دليل وشاهد، فقد انطبقت على الغار الذين يبيتون فيه صخرة فسدت عليهم بابه، فلم ييأسوا ولم يقنطوا من الخروج من هذا الغار، فتوسل كل واحد منهم بعمل صالح لله، ففرج الله عنهم وفتح لهم باب الغار. (متفق عليه).
=====
4ـ الأمل في الذرية، والإنجاب، وهذا بابٌ فتحه الله لكل مشتاق للذرية والإنجاب، ففي قصة إبراهيم (عليه السلام) يتدفق الأمل تدفقًا واضحًا, حيث يقول الحق سبحانه: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ*قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ*قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود:71ـ73], ولما جاءته (عليه السلام) البشرى قال كما يقص القرآن الكريم: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ*قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ*قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:54ـ56].
=====
5ـ الأمل في عودة الغائب في الدنيا، وهذا بابٌ فتحه الله لمن غاب عنه أحبابه، رحمة ورأفة به، فهذا نبي الله يعقوب (عليه السلام), لا ييأس مع طول غياب يوسف (عليه السلام) الذي امتد لقرابة أربعين سنة كما يقول المفسرون، بل ويقدم طلب البحث عن يوسف (عليه السلام) على طلب البحث عن أخيه بنيامين, فيقول كما يقص القرآن الكريم على لسانه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87], ويقول أيضًا: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ*قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ*فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[يوسف:95].
=====
6ـ وكما فتح الله (عزّ وجلّ) باب الأمل لعباده في أمور دنياهم فتح لهم باب الأمل في أمر دينهم، فعن أبي ذرّ (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ). قلت: وإن زنى، وإن سرق؟. قال: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ). قلت: وإن زنى، وإن سرق؟. قال: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ). قلت: وإن زنى، وإن سرق؟. قال: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ)(متفق عليه).
وفي الحديث الشريف عن سيدنا معاذ بن جبل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: يا معاذ , فقال: لبيك يا رسول الله وسعديك , قال: (لَا يَشْهَدُ عَبْدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ). قلت: أفلا أحدث الناس؟. قال: (لَا، إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلُوا عَلَيْهِ)(مسند أحمد).
عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب………..
===========================================
(الخطبة الثانية)
((صور من الهجرة الغير مشروعة))
لمحافظات البحيرة والقليوبية والمنوفية وأسيوط والمنيا والفيوم والشرقية وكفر الشيخ والدقهلية والغربية والأقصر.
===========================================
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: إذا كنا نتحدث عن صناعة الأمل، وإحسان الظن بالله، فينبغي أن نبينَ ونوضحَ أن الهجرة الغير مشروعة وصورها في وقتنا الحاضر ليست من صناعة الأمل، بل هي إلقاء باليد إلى التهلكة، ومن صور هذه الهجرة الغير مشروعة الآتي:
=====
1ـ الهجرة إلى البلاد الأوربية وغيرها عن طريق التسلل عبر الجبال وعبر البحار، وهذه الهجرة فضلا عن أنها دخول لتلك البلاد بطرق غير رسمية، فإن فيها تعريضَ النفس للهلاك قبل الدخول لتلك البلاد، وبعد الدخول، ونحن منهيون عن إلقاء أنفسنا إلى التهلكة، ومنهيون عن قتلها والاعتداء عليها كما تقدم.
كما أن الإسلام يأمرنا بالحياة الكريمة، وتوعد المسلم إذا عاش ذليلا مستضعفًا في غير بلاد الإسلام، وأمره بالهجرة لبلاد الإسلام إذا كان الأمر كذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ). قالوا: وكيف يذل نفسه؟. قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ)(رواه الترمذي).
فالمهاجرين لتلك البلاد بطرق غير رسمية يعملون بشكل أشبه بالعبودية، ونادرًا ما يلجئون للقضاء خشية التعرض للطرد أو الإبعاد، وفي العديد من الدول لا يملكون حق الطعن على القرارات الإدارية التي تؤثر عليهم، وعلى حياتهم، فهجرتهم هذه محرمة شرعًا.
=====
2ـ أيضا من الهجرة الغير مشروعة؛ الهجرة للجماعات المتشددة والانضمام إليها، التي تجابه الدول، والأنظمة الحكوميةـ في أنحاء العالم، وخصوصا في منطقتنا العربية ـ بغير وجه حق ـ، وتنشر الإرهاب في جنبات العالم، وتسفك الدماء، وهو ما كان يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما شابهها من جماعات تدعي الإسلام، والإسلام منهم براء.
فقد نهى الإسلام عن الإرهاب، وسفك الدماء بغير وجه حق سواء أكانت دماء مسلمة أم غير مسلمة، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام:151]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (لَنْ يَزَالَ (لَا يَزَالُ) الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)(رواه البخاري). كما عدّ النبي (صلى الله عليه وسلم) سفك الدماء من السبع الموبقات. (متفق عليه)، وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) أيضا قال: (إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)(رواه البخاري)، وكفل الإسلام لغير المسلمين حرية الاعتقاد، وتكفّل بحفظ وحماية أرواحهم، وأموالهم، وأعراضهم، فقالَ تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة:256]، وقالَ مخاطبًا النبيَّ (صلى الله عليه وسلم): {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)(رواه البخاري)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(رواه أبو داود)، وعن خالد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أَلَا لَا تَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا…)(رواه أبو داود).
والدواعش (قاتلهم الله) قد استحلوا كلَّ ذلك اليوم، وضربوا بالقرآن والسنة عُرَضَ الحائط، فما نسمعه اليوم من هجرة بعض الشباب إليهم في العديد من البلاد هجرة غير مشروعة لا يرضاها الله (عزّ وجلّ)، ولا يرضاها النبي (صلى الله عليه وسلم).
===========================================
(الخطبة الثالثة)
((ميراث المرأة بين عدل التشريع وظلم الأعراف والتقاليد))
لمحافظات القاهرة وقنا وسوهاج وأسوان والجيزة وبني سويف والبحر الأحمر والوادي الجديد.
===========================================
الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد:
============
((أصناف الناس تجاه ميراث البنات))
فمن المعروف أن الإسلام هو دين الوسطية، ومن معاني الوسطية: لزوم حدّ الاعتدال والبعد عن الإفراط والتفريط في كل شيء، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].
ومن عجيب أمر بعض المسلمين أنهم يخالفون تلك الوسطية ويقعون في إفراط أو تفريط فيما يتعلق بأمر ميراث النساء كالتالي:
=====
1ـ فريق يقوم بحرمان المرأة من ميراثها مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا، وسواء أكانت المرأة أمًا أم بنتًا أم أختًا، وهؤلاء تشبهوا بأهل الجاهلية الذين منعوا المرأة ميراثها، وهؤلاء كأنهم أعلم من الله (عزّ وجلّ) الذي أمر بإعطاء كل ذي حق حقه في الميراث، وقسّم المواريث فلم يترك قسمتها لأحدٍ حتى النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهؤلاء نحذرهم من سخط الله (عزّ وجل) ومن غضبه وبطشه، فقد ختم الحق تبارك وتعالى آيات المواريث بقوله تعالى محذرًا لنا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء:14،13].
=====
2ـ وفريق أخر لا يعطي المرأة ميراثها إلا إذا كان صغير المقدار، ولا يعطونها نصيبها إذا كان مقداره كبيرًا، وهؤلاء أيضًا مخطئون، واعتدوا على أمر الله وتعدوا حدوده لقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النساء:7]، فالمرأة تُعطى نصيبها في الميراث قلّ أو كثُر.
=====
3ـ وفريق ثالث يعطون المرأة ما يسمى بالترضية أي: جزء من ميراثها إذا كان ميراثها عظيمًا، وهؤلاء يرد عليهم بما رددنا به على الفريق الثاني، وأن المرأة يجب أن تعطى حقها كاملًا في الميراث، وكلا الفريقين نذكرهم بقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)(متفق عليه).
=====
4ـ وفريق أخر إذا أعطوا المرأة ميراثها أعطوها أسوأ ما في الميراث من أراضي أو عقارات…إلخ، وهذا فوق أنه ظلم وجشع فيه تشبه بأهل الجاهلية ومساواة لفعلهم الذي عابه الله عليهم بقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء:2]، فقد كانوا يستبدلون الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى فيأخذون الدرهم الجيد والشاة السمينة من أموال اليتامى ويضعون الدرهم الزائف من أموالهم والشاة الهزيلة مكانها. ثم تأمل وصف الله (عزّ وجلّ) لتلك الفعلة بالحوب الكبير أي: الإثم العظيم، فهذا الفعل من الكبائر. وإعطاء المرأة أسوأ ما في الميراث مساوٍ لتلك الفعلة وهو كبيرة مثلها.
=====
5ـ وفريق خامس عكس كل هؤلاء وهم مَنْ يُفْرِطُون في توريث النساء، فيقومون بكتابة كل ما يملكونه من أموال وعقارات وأراضي للزوجات والبنات، ويقومون بحرمان الإخوة والأخوات (الأعمام والعمات)، بل أحيانًا يصل العقوق بهم إلى حرمان الوالدين من الميراث أيضًا، وهذا الفريق أيضًا مخطئ خطأ الفريق الأول وواقع في الضلالة والجاهلية مثله، فهم وإن أعطوا النساء نصيبهن؛ إلا أنهم قد خالفوا أمر الله في موضعين:
(الأول): حرمان من له حق في الميراث من نصيبه كالأعمام والعمات.
(الثاني): الزيادة في نصيب النساء على ما قدره الله (عزّ وجلّ)، فالبنت إذا انفردت ولم يكن معها ذكر أخذت نصف التركة، وإن كان اثنتين أو أكثر من البنات بدونذكرٍ أيضًا يشتركن في ثلثي التركة؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:11].
وأقول للورثة الذين يقبلون هذا الوضع: اتقوا الله وردوا الحقوق لأصحابها، ولا تكون كالإمعة إن أحسن الميت أحسنتم، وإن أساء أسأتم، فأنتم مشاركون في هذا الجرم لقبولكم به، وتذكروا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ)(رواه الترمذي، وأحمد)
=====
((التحذير من الصور الفائتة))
فهذه صورٌ من ظلم المرأة في الميراث بسب الأعراف والتقاليد النابعة من العصبية القبلية الجاهلية، نابعةٌ من الحرص على الدنيا والطمع في حطامها، والتي يترتب عليها قطيعة الأرحام، وزوال أواصر الودّ والرحمة والترابط بين أفراد المجتمع، وزوال البركة، وتلك الصور ضرب من الظلم، وأكل الحرام واستحلاله.
=====
((صورة أخرى أشد فداحة))
وإذا كنا نتكلم عن عدل التشريع في ميراث المرأة فلا يفوتني أن أنوه إلى صورة أخري من صور مخالفة العدل الإلهي في تشريع ميراث المرأة ألا وهو الدعوة إلى مساواة المرأة بالذكر في الميراث ضاربين بقول الله (عزّ وجلّ): {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[النساء:11]، وبقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النساء:176] عُرضَ الحائط.
=====
إن التدخل والتلاعب في أمر المواريث بحرمان أصحاب الحقوق من أنصبتهم، أو الدعوة لمساوة الأنثى بالذكر في النصيب المقدر ضربٌ من الافتئات على الله، وتدخلٌ في شئونه، واتهامٌ لحكمته وعلمه.
فأول آية أنزلها الله في التوارث بين الأقارب تقول: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنفال:75]، وآية الكلالة الثانية المتقدمة ختمت بقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النساء:176]، وبعد توزيع وتقدير بعض الأنصبة يقول تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:11]، وختمت الآية التي بعدها بقوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}[النساء:12].
=====
فالتلاعب والتدخل في أمر المواريث افتئات على الله (عزّ وجلّ) واتهامٌ لعلمه وحكمته، وهدرٌ لوصيته، ويفتح الباب للتلاعب في النصوص الشرعية، وإنكار المسلمات والثوابت والمعلوم من الدين بالضرورة، وأحذر كل من يتلوث بشيء من ذلك أحذرهم بقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]
===========================================
فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب