خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة : لغة القرآن والحفاظ على الهوية ، إعداد مكرم عبداللطيف
خطبة الجمعة إعداد مكرم عبداللطيف : لغة القرآن والحفاظ على الهوية ، بتاريخ 4 جمادي الآخرة 1446هـ الموافق 6 ديسمبر 2024
عناصر الموضوع:
١-أهمية اللغة العربية
٢-اللغة العربية لغة القرآن
٣-فضل اللغة العربية في القرآن والسنة وآثار السلف
٤-أهداف وثمرات اللغة العربية
٥-_وجوب المحافظة على هوية اللغة العربية
البيان والتوضيح
الحمد لله الذي جعل القرآن لسانًا عربيًّا وتبيانًا، وجعل اللغة العربية لفهم القرآن والسنة مفتاحًا وبيانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أنعم باللسان على الإنسان منة توضيحًا وإعطاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفصح الناس لسانًا وأحسنهم بيانًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين سلكوا طريقته لغة وبيانًا وإعرابًا.
العنصر الأول :
أهمية اللغة العربية
بسم الله الرحيم الرحمن: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1- 4].
ولما خصه جل ثنائه باللسان العربي وضَّح أن لغة القرآن أعظم لغةاختص بهاالإنسان.
اقتبس النحو فنعم المقتبس *** والنحو زين وجمال ملتمس
صاحبه مكرم حيث جلس *** من فاته فقد تعمى وانتكس
كأن ما فيه من العي خرس *** شتان ما بين الحمار والفرس
ومن نعمه وآلائه وقدرته وآياته: اختلاف الألسن واللغات كما يختلفون بالألوان والجنسيات (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم:22].
وكل رسول بعثه الله إلى قومه بعثه بلسان من قومه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ..) [إبراهيم:4].
ومن التنويه بشأن اللغة العربية كما في الآيات القرآنية: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، فبيَّن أن لغة القرآن اللغة العربية واللغة الفصيحة والكتاب والسنة؛ فهمهما ومعرفتهما متوقف على معرفة اللغة (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3]، وامتن بإنزال القرآن أنه عربي وتبيان (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء: 193- 195].
ومحمد رسولنا خاتم الرسل وأفضلهم أُرسل إلى الناس كافة، وخُوطب بدعوته العرب والعجم، فبعثه الله من قريش أفصح العرب بيانا، وأسلمهم لسانا، وخُوطب الناس بالعربية جمعاء فالأمة العربية أفصح الأمم لسانا وأسرعهم إفهاما وأقدرهم بيانا.
هذه اللغة العربية أصلح اللغات، وأجمل الكلمات، وأجمع المعاني والعبارات، وأحسن إشارة وأوجز عبارة، وأسهل كلامًا وأسرع حفظًا بإلمام، تشنّف السماع وتوضّح المعاني بإبداع، وهذه اللغة يكفيها شرفًا وفضلاً ارتباطها بالقرآن تتلى، واتصالها بسنة المصطفى، فهي محفوظة بحفظ القرآن، فعلى الرغم من محارباتها في شتى المجالات وأنواع التواصلات وألوان المبيعات والتعامل والمؤسسات حتى ندر ذكرها، وقل الاعتزاز بها؛ ومع ذلك فهي محفوظة، ومكانتها محفوفة، فبقاء القرآن والسنة بقاؤها، فلا فهم لهما إلا بها، ولا إبداع في فوائدهما إلا بها حتى قيل لولا القرآن ما كانت عربية.
اللغة العربية في شريعتنا لها مكانة، وفي علومنا ودروسنا لها حصانة، ولعزنا وشرفنا لها وقع وصيانة، فاسمع أقوال العلماء لتعرف ثمرتها وأهميتها في كل بناء، قال شيخ الإسلام: “فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلِّغًا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين” ا. هـ.
ويقول أيضًا: “إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” انتهى.
وقال أيضًا: “معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها”.
وقال الثعالبي رحمه الله: “من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب”. اهـ.
فلغتنا وقرآننا صنوان، فأين الذين عزفوا عنها، ومالوا إلى غيرها؟! بل يتبجحون باللغات الأجنبية ومعرفتها ودرسها، وتركوا اللغة العربية جانبًا وهي هويتنا ولغة قرآننا.
لغتنا أوسع اللغات وأكثرها بيانًا، وأوفاها حجة وإيضاحًا، حتى قال الشافعي مقالته الشهيرة: “لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرهم ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي”.
لغتنا غنية بثروتها لا قدرة لأحد أن يحصيها، قال الكسائي: “قد دَرَس من كلام العرب كثير”، ومع ذلك فقد وفت بالمقصود، ووسعت كل صغير وكبير ومولود، وأوعبت وأوسعت وأكبرت وأكبرت وألمعت.
ولهذا علم النحو علم يتوصل به إلى شيئيين: فهم القرآن والسنة وإقامة اللسان على اللسان العربي والسليقة.
العنصر الثاني :
اللغة العربية لغة القرآن
الحمدُ لله الذي جَعَلَ العَرَبِيَّةَ لَنا لِسانًا، وَزادَها شَرفًا وجَمالاً وَبَيانًا، أَنزَلَ بِحروفِها الذِّكرَ قُرَآنًا، كَرَّمَ الإنسَانَ، وهَداهُ بالقُرآنِ، وعلَّمهَ البَيانَ، وبعث سَيِّدَنا مُحمَّدًا أَفصَحُ النَّاسِ لِسَانَا وأجمَلُهم بَيانَاً، وَهبَهُ رَبُّهُ جَوامِعَ الكَلِمِ فَفاقَ النَّاسَ فَضْلاً وَجَمالاً، فالَّلهمِ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عليه وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ فهم في الُّلغَةِ والبَيانِ فُرساناَ، أما بعد :
اللغة العَربيةُ يَستَهدِفَها أعدَاؤُهَا :
حين كانَت لُغَةُ قُرآنِنا بهذه القُوَّةِ والمَقدِرَةِ، فَلا غَرابَةَ أنْ يَستَهدِفَها أعدَاؤُهَا، ويَعبَثَ بِها المُستَعمِرُ المَاكِرُ الخَبِيثُ بِالتَّهَجُّمِ تارةً وبِالتَّهوِينِ مِنْ شَأْنِهَا تارةً، وبِالسُّخرِيَةِ مِنها ومن المُشتَغِلينَ بِها تارةً أخرى، عَبْرَ وسائِلِ إعلامِهم، وقَصَصِهم، ورِواياتِهم، ومَسرَحِيَّاتِهم، حتى مع الأسفِ بِتنَا نَعرفُ شُعُوباً عَرَبِيَّةً إسلامِيَّةً لا تَكادُ تُميِّزُ حَرفَهمُ العَرَبِيُّ مِن الفرَنسيِّ, وَبِتنَا نسمعُ مِن أَبنَائِنَا عباراتِ الُّلغةِ الأجنَبِيَّةِ مُختَلِطَةً بِلُغَتِهُمُ اليَومِيَّةِ بل إنَّ عَدَداً مِن المَحَلاَّتِ والمَلابسِ تَحمِلُ عباراتٍ أجنَبِيَّةٍ ولَطالَمَا حَمَلَتْ عِباراتٍ بَذيئَةٍ ومَشينَةٍ نظراً لإقصاء اللغة العربية .
شِعَارٌ العَرَبِ :
لكلِّ أُمَّةٍ شِعَارٌ, وقَد أَنعَمَ اللهُ تَعالى على أُمَّةِ العَرَبِ بِأفْصَحِ لِسانٍ، وأَقوى بَيَانٍ، ثُمَّ كانَ تَاجُها وفَخَارُها مَنْ أوتِيَ جَوَامِعِ الكَلِمِ القائِلِ “إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا”، فلقد مَنَّ اللهُ تعالى علينا بأَفضَلِ لُغةٍ في الأكوانِ إنَّها لُغةُ القرآنِ الكَريمِ فهيَ أَسَاسُ الُّلغَةِ وَتَاجُها وشِعَارُها الُّلغةُ العَرَبِيَّةُ زهرةُ التَّأريخِ، وَشَهَادَةُ الأَجيَالِ، وَالمَنهَلُ العذبُ، والبيانُ السَّاحِرُ, ومِفتَاحُ الحقِّ المُبينِ. حَامِلةُ رِسَالِةِ الإسلامِ، وأدَاةُ تَبليغِ الوَحيَينِ, مَحفُوظَةٌ بِحفظِ القُرآنِ الكَريمِ، واللهُ تعالى قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون)[الحجر: 9]، هي لُغَةُ الإعجَازِ الإِلَهيِّ والإبْدَاعِ الأَدَبِي. والعَرَبُ عامَّةً وقُريشٌ خاصَّةً تَعرِفُ قِيمَةَ الُّلغةِ ومَدْلُولاتِها ومآلاتِها.
قُريشٌ ضَاقتْ من بَلاغةِ القُرآن :
ضَاقتْ قُريشٌ بالقُرانِ الكريمِ وبأُسلُوبِهِ وبَيَانِه ذْرعاً, طَلَبَت من الوليدِ ابنِ المُغيرةِ أنْ يَقولَ في القُرآنِ قَولًا يَبْلُغُ قَومَهُ أنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، ومُنكِرٌ لهُ فقَالَ الوليدُ وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاَوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاَوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاَهُ, مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ أسمِعتم هذا الوَصفَ البَليغَ من أهلِ البلاغَةِ والُّلغةِ ألا يَحِقُ لَكم يا عرَبُ أنْ تَفخَروا بِلُغَتِكم وتُحافِظوا عليها وَتَذُودوا عن حِياضِها فالقُرآنُ الكَريمُ نَزَلَ بها، فَقَالَ سُبحانَهُ:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 192- 195].
إعِمَال العَقل والِّلسَانِ العَرَبِيِّ :
رَبَطَ الله بينَ الِّلسَانِ العَرَبِيِّ وَبينَ إعمَالِ العَقلِ فَقَالَ تَعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2] فَتَفَاعَلَ المُسلِمونَ مَعَ القُرآنِ فَأعمَلُوا عُقُولَهم وأنتَجُوا حَضَارَةً لا تُنكَرُ وَرَبَطَ اللهُ تَعالى بين الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ وبينَ الدَّعوةِ إلى العِلمِ، فقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[فصلت: 2]، فَنَطَقَ بِها المُسلِمُ وغَيرُهُ، وَصَارَتْ اللُّغَةُ ضَرُورَةً في كُلِّ فَنٍّ فَأَلَّفُوا المَعاجِمَ التي سَهَّلت لِلنَّاسِ النُّطقَ بِها. وَجَعلَ سُبحانَهُ الُّلغةَ العَرَبِيَّةَ سَبِيلاً إلى العِلمِ والتَّقوى فَقَالَ سُبحانَهُ (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27- 28].
فَضلِ الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ عِند أعْلامِ الإسْلام :
تَحدَّث أعلامُ الإسلام عن فَضلِ الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ وَمَكانَتِها فقد قَالَ الخليفةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ وتُثَبِّتُ الْعَقْلَ”.
وكتبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه خطابًا لعُمرَ عَنْهُ فَبَدَأَهُ بِقولِهِ: (مِنْ أبو مُوسى)، فَكَتَبَ إليه عُمرُ أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِلُه بِغيره! ما أعظمَ غَيرَتَهم على لُغَةِ القُرآنِ! فَلِلَّهِ دَرُّهُم!.
وقَالَ عبدُ المَلِكِ بنِ مَروانَ: “أَصلِحُوا أَلسِنَتَكُم فَإنَّ المَرءَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ فَيستَعِيرُ الثَّوبَ والدَّابَةَ ولا يُمكِنُه أنْ يَستَعيرَ الِّلسانَ، وَجَمَالُ الرَّجُلِ فَصَاحَتُهُ”.
وَقالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: اعلم أنَّ اعتِيادَ الُّلغَةِ يُؤثِّرُ في العقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأثِيراً قَويِّاً بَيِّناً، ويُؤَثِّرُ أَيضَاً فِي مُشَابَهةِ صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ، ومُشَابَهَتُهُم تَزِيدُ العَقلَ والدَّينَ والخُلُقَ، والُّلغَةُ العَرَبِيَّةُ مِنْ الدِّينِ، وَمَعرِفَتُها فَرضٌ واجِبٌ، فإنَّ فَهمَ الكتَابِ والسنَّةِ فَرضٌ، ولا يُفهمانِ إلاَّ بِفَهمِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ، ومَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهو واجِبٌ.
دَقِيقَةُ المَبنى واسِعةُ المَعنى :
اللغة العربية دَقِيقَةُ المَبنى واسِعةُ المَعنى بِحرفٍ واحدٍ, بل بِحَرَكَةٍ واحِدَةٍ يَتَغَيَّرُ كُلُّ شيءٍ تَأمَّلُوا قَولَهُ تَعالى(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]ومعناها أنَّ الْعُلَمَاءَ بِسَبَبِ مَعرِفَتِهم باللهِ وبِشَرعِهِ فهُم أكثَرُ النَّاسِ خَشيَةً وَمَحبَّةً وإجلالاً لِلهِ تعالى. ولو قَرأها أحدٌ فَقالَ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ، لَصَار معناها فَاسِدَاً فَاحِشَاً قَد تُبطِلُ صَلاتَهُ حفِظَ الله لُغَتَنا مِن كُلِّ مَكرُوهٍ، وحيَّا اللهُ أَهلَهَا وأبَقَاهُم ذُخرًا يَصُونُونَ عِرضَها، ويَرُدُّونَ مَجدَها، أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجِيم:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[إب
العنصر الثالث :
فضل اللغة العربية في القرآن والسنة وآثار السلف
حظيت اللغة العربية بشرفٍ عظيمٍ؛ إذ تنزَّل بها الكتاب الكريم، كتاب رب العالمين، على الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي كان أفصح البشر لساناً، فزاد من شرف اللغة العربية أنها كانت لغته صلى الله عليه وسلم التي مكَّنه الله – عز وجل – منها أيما تمكُّن، وكان صحابته الكرام وسلف الأمة – رضوان الله عليهم – على النهج ذاته في العناية باللغة العربية تكريماً وعناية وتشريفاً.
اولا:فضل اللغة العربية في القرآن الكريم:
وعندما نتأمل عناية القرآن الكريم باللغة العربية نجد عدة آيات تنص على نزول القرآن عربياً، وهو شرفٌ أي شرفٍ لهذه اللغة، أن تكون اللغة التي اصطفاها الله – عز وجل – لمخاطبة عبادة، حيث وُصف القرآن بكونه عربياً في ست آيات، وهي قوله تعالى:
{الـر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْـمُبِينِ 1إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ١، ٢].
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27 قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28]
{حم» 1 تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2 كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: ١ – ٣].
{حـم» 1 وَالْكِتَابِ الْـمُبِينِ 2 إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 وَإنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: ١ – ٤].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْـجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْـجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: ٧].
كما جاء وصفه باللسان العربي في ثلاث آيات، وهي قوله تعالى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْـحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ 102 وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّـمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْـحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 102، 103].
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].
{وَإنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ 195وَإنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ 196 أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ 197 وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ 198 فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 192 – 199]
وجاء تفصيل كونه عربياً وليس أعجمياً في آية واحدة، وهي قوله تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: ٤٤].
وجاء وصفه بالحكم العربي في آية واحدة، وهي قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37].
والحاصل من ذلك أن مجموع ما ورد من ألفاظ العربية في وصف القرآن إحدى عشر آية تدل على شرف اللغة العربية، دلالة لا ينكرها إلا مكابر أو جاحد.
قال الفراء: «وجدنا للغة العرب فضلاً على لغة جميع الأمم اختصاصاً مـن الله تعالى وكرامة أكرمهم بها، ومن خصائصها أنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات».
ولفظة عربي ما جاءت في هذه الأيات الكريمات صفة لجنس من البشر، وإنما للكتاب المنزل من الله تعالى، وهذا له بُعدُه ودلالته؛ «فعربية القرآن إنما هي عربية منهج إبانة، ولذا كثر في هذه الأيات قوله لعلكم تعقلون، لعلهم يتقون، لعلهم يتذكرون، وهذا كله إنما يكون من منهاج الإبانة على معانيه ومقاصده ومغازيه»
ودلالته أن العربية لغة تفوق غيرها من اللغات في الفصاحة والبيان، قال السعدي: «يخبر تعالى أن آيات القرآن هي {آيَاتُ الْكِتَابِ الْـمُبِينِ} [الشعراء: ٢] أي: البيِّن الواضحة ألفاظه ومعانيه. ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها.
وقال ابن كثير معللاً اختيار العربية لغة للقرآن الكريم: «وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات
كما أن «اختيار الله للعربية، أو اللسان العربي، ليكون أداة التوصيل، ووسيلة الإبانة، ووعاء التفكير للرسالة الخاتمة الخالدة… قضية ذات أبعاد لغوية، وثقافية، وعلمية، وحضارية، حيث لم يعد ينكر اليوم، علاقة التعبير بالتفكير، ودور التعبير في التفكير والإبداع الأدبي والعلمي، والمحاكمات العقلية… لذلك فمجرد اختيار العربية لتكون لغة التنزيل والإبانة والتوصيل… يعني امتلاكها هـذه الأبعاد جميعاً»
ولذا فإن التبحر في هذه اللغة هو السبيل لإدراك معاني الكتاب، وهو شرف كبير لهذه اللغة أن جعلها الله – عز وجل – مفتاح الوصول لمعاني الكتاب العزيز ومراميه، قال الفارابي: «القرآن كلام الله وتنزيله، فَصَّل فيه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، مما يأتون ويَذَرُون، ولا سبيل إلى علمه وإدراك معانيه إلا بالتبحر في علم هذه اللغة».
بل هـي السبيل لضبط الدين بالكليـة كما قـال ابن تيمية: «إنَّ الله لما أنزل كتابَه باللسان العربي، وجعل رسولَه مبلِّغاً عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السَّابقين إلى هذا الدين متكلِّمين به، ولم يكن سبيل إلى ضبط الدِّينِ ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، صارت معرفته من الدِّين، وأقرب إلى إقامةِ شعائر الدين.
ثانيا:فضل اللغة العربية في السنة النبوية:
وكما أن للغة العربية تلك المنزلة الرفيعة في القرآن الكريم، فإن منزلتها في السنة النبوية، لا تقل عن ذلك بحال، وليس أصدق على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وسمته وهديه في العناية بهذه اللغة.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودِّع فقال: أنا محمد النبي الأمي (قاله ثلاث مرات) ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه»[رواه أحمد وصححه الألباني ].
وقريباً منه ما جاء عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُعطِيتُ فَواتِحَ الكَلِمِ وخَواتِمَه. قُلْنا: يا رسولَ اللهِ عَلِّمْنا مما عَلَّمَك اللهُ عز وجل، فعَلَّمَنا التشَهُّدَ»[رواه البيهقي وصححه الألباني ].
فقد أعطي صلى الله عليه وسلم «فواتح الكلم» «أي البلاغة والفصاحة والتوصل إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات التي أغلقت على غيره… (وجوامعه) التي جمعها الله فيه فكان كلامه جامعاً كالقرآن في كونه جامعاً فإنه خلقه، (وخواتمه) أي خواتم الكلام يعني حسن الوقف ورعاية الفواصل فكان يبدأ كلامه بأعذب لفظ وأجزله وأفصحه وأوضحه ويختمه بما يشوق السامع إلى الإقبال على الاستماع مثله والحرص عليه».
ولفظة «أعطيت» توحي بأن الله عز وجل منحه وميزه صلى الله عليه وسلم بهذه المزية، ولن يختار الله سبحانه وتعالى لنبيه إلا الكمال والعلو الذي تمثل في إحاطته التامة باللغة العربية وحسن فصاحته وبيانه.
قال القاضي عياض: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل؛ سلاسةَ طبع وبراعةَ منزع وإيجازَ مقطع ونصاعةَ لفظ وجزالةَ قول وصحةَ معانٍ وقلةَ تكلُّف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها»
وقال الرافعي واصفاً بلاغته صلى الله عليه وسلم : «إذا نظرت في ما صح نقله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في الأولى مُسددَ اللفظ مُحكم الوضع جزل التركيب متناسِب الأجزاء في تأليف الكلمات… ورأيته في الثانية حسن المعرِض، بيِّن الجملة، واضحَ التفضيل، ظاهِرَ الحدود جيدَ الرصفِ، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديعَ الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان»
لذا فإن فهم السنة النبوية وإدرك كنهها ومراميها يحتاج – كما أسلفنا القول في القرآن – إلى تبحر وسعة علم باللغة العربية، وهو شرف وتكريم يضاف إلى ما سبق من تكريم وتشريف لهذه اللغة.
قال: الأصمعي «إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[متفق عليه ]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه»
فضل اللغة العربية في آثار السلف:
ولهذا الفضل والتكريم الذي حظيت به اللغة العربية في القرآن والسنة عني الصحابة – رضي الله عنهم – والسَّلفُ من بعدهم بعلومِ اللغة العربية، وحثُّوا على تعلُّمِها، لفضلها وعلوِّ منزلتها، قال ابن تيمية: «وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو (التكلم بغير العربية) إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه».
ومن الآثار الواردة في عناية الصحابة باللغة العربية ما جاء عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: «تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ».
وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأشعري: «أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِـي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُــوا الْقُـــرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌ»
ومن فقه السلف أنهم كانـوا يرون اللغة العربية من الدين، «فقد كان أبو عمرو بن العلاء يَعُدُّ العربية من الدين لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك فقال: صدق».
كما كانوا يرونها تؤثر تاثيراً بالغاً في العقل والخلق، قال ابن تيمية: «اعتياد اللغة يؤثِّر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بَيِّناً، ويؤثِّر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإنَّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض، ولا يُفْهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب
ومنعوا غير العالم بالعربية المتقن لها من القول في الشريعة، قال الشاطبي: «فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً… أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً أو كالعربي في كونه عارفاً بلسان العرب، بالغاً فيه مبالغ العرب»
ومن فقههم ورؤيتهم لمنزلة اللغة العربية وفضلها أن جعلوا كل العلوم مفتقراً إليها، قال ياقوت الحموي: «وحسبك من شرف هذا العلم أن كل علم على الإطلاق مفتقر إلى معرفته، محتاج إلى استعماله في محاورته، وصاحبه فغير مفتقر إلى غيره، وغير محتاج إلى الاعتضاد والاعتماد على سواه، فإن العلم إنما هو باللسان، فإذا كان اللسان معوجّاً متى يستقيم ما هو به؟
كما كان السلف – رضوان الله عليهم – يرون في اللغة العربية سبيلاً لرفعة الشأن وعلو المنزلة، وأن الجهل بها يحط من قدر الإنسان، قال ابن شبرمة: «إذا سرك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيراً، أو يصغر في عينك من كان فيها كبيراً، فتعلم العربية فإنها تجـرئك على المنطق وتدنيك من السلطان قال الشاعر:
اللحن يُصلح من لسان الألكن
والمرء تعظِّمه إذا لم يلحن
ولحن الشريف محطة من قدره
فتراه يسقط من لحان الأعين
وترى الدني إذا تكلم معرباً
حاز النهاية باللسان المعلن
وإذا طلبت من العلوم أجلَّها
فأجلُّها منها مقيم الألسن
أما كيف أثَّرت اللغة العربية في حياة السلف، فيقول الرافعي: «إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة؛ فهي منهم بحر الحياة الذي انصبت فيه جميع العناصر… وكأنها هي التي كانت تهذب نفوسهم وتزنها، وتعدلها وتخلصها برقة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضـاع الكمـال في لغته؛ لأنه يتلقنها اعتياداً من أبوية وقومه، ولهيَ أقوم على تثقيفهم من المؤدب بأدبه، والمعلم بعلمه وكتبه؛ لأنها حركات نفسية على مدارها انجذاب الطبع فيهم».
وأجمل ما نختم به ما ذكره الرافعي: «إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فَلكاً دائِراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين (كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ومِن ثَمَّ كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحرة
العنصر الرابع :
أهداف وثمرات اللغة العربية
ومن أهداف وثمرات اللغة
: فهم الكتاب والسنة ومعرفة مدلولاتهما ومعانيهما.
: فهم كلام السلف الصالح.
: تعديل اللسان وتقويمه.
: تعليم النطق السليم
: الاعتزاز باللغة وأسرارها وميزتها على غيرها.
: أنها من الدين والإسلام المبين
: مواجهة ما يُحاك ضدها كاتهامها بالصعوبة والجمود، والمناداة بترك الإعراب، والتوجه إلى العامية ومزاحمتها باللغات الأخرى يُرَاد من ذلك هدم الدين أو التشكيك فيه، أو إضعاف أثره أو عدم فهمه والعمل به
.: أنها تخدم العلوم الأخرى، ففقهها له علاقة بالعلوم الشرعية، بدءًا بالتوحيد والعقيدة.
: ومن ثمار تعلم اللغة تتجلى به بلاغة القرآن وإعجازه.
: استقامة اللسان في الدعاء فهو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمه يختل أو يفسد، وربما انقلب الدعاء باللحن رأسًا على عقب
: استقامة اللسان في الحلال والحرام؛ لأن من اللحن ما يحيل الأحكام ويقلب الحلال والحرام.
يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: “لتعلم إعراب القرآن أحب إليَّ من تعلم حروفه”، وقال عمر -رضي الله عنه-: “تفقهوا في السنة، وتفقهوا في اللغة العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي”.
وقال “تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة”، قال شيخ الإسلام: “وهذا الذي أمر به عمر -رضي الله عنه- من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، والسنة هو الطريق إلى فقه أعماله” ا هـ.
أين نحن من تلك التوجيهات البكرية والعمرية؟! أين أبناء المسلمين اليوم الذين زهدوا في لغتهم لغة القرآن وتفاخروا بلغة الغرب واليونان؟!
ما بال الانهزامية عند الناس؟! لغتنا هي عزنا وشرفنا وديننا، وبعض الناس يتعذر بصعوبة التعليم، ويا سبحان الله أيهما أشد تعلمًا وتفهمًا؟!
وآخرون لا يرعون لها معنى، وآخرون يلقّنون أنفسهم ويلوون ألسنتهم باللغة الأجنبية.
إن الأعداء -أيها الأوفياء- بثوا ونشروا لغتهم الأجنبية وألسنتهم الغربية في كثير من أمورنا الحياتية، فلا تكاد تجد مصنوعًا أو عملاً وملبوسًا ليصلوا إلى مطلوبهم، وينالوا أهدافهم، فلهذا قل عمل أو بضاعة أو تواصلات اجتماعية إلا وللغات الأجنبية نصيب بل ربما ليس لها بديل، وهذا الصنيع لإبعاد الشعوب المسلمة عن لغة القرآن والسنة، وبالتالي عدم فهم الكتاب والسنة، وينتج عندها عدم العمل بالكتاب والسنة.
فلغتكم -يا مسلمون، بحمد الله- محفوظة، وتعليمها في أرضنا موسومة، فهي جزء من ديننا، بل لا يقوم الإسلام إلا بها، فما أجملها وأحسنها وأرتبها وأشوقها! فينبغي أن نُعْنَى بها علمًا وتعلمًا وتفهيمًا وتدريسًا، ولهذا علماؤنا نالوا قصب السبق، فدوّنوا وعلّموا وحفظوا وألّفوا ونذروا ونظموا وحثّوا ورغّبوا في تعلم لغة القرآن والفصاحة والبيان، بل عاتبوا وعابوا من رأوه يلحن، وأدبوا، فاسمع إليهم في الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة وفقكم الباري، ومنحكم الخير وأصلحكم، وأستغفر الله لي ولكم.
عُنِيَ سلف الصالح بلغتنا حثًّا وتعليمًا وترغيبًا وتدريسًا، فسبق قول الخليفتين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وقال شعبة: “تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل”، وقال عبدالملك بن مروان: “أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان”.
وقال الشعبي: “النحو في العلم كالملح في الطعام لا يُستغنى عنه”.
وقال أيوب السختياني: “تعلَّموا النَّحو فإنَّه جمالٌ للوضيع، وتركه هُجنةٌ للشَّريف”.
وقال النووي: “وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف”.
النحو يبسط من لسان الألكن *** والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها *** فأجلّها منها مُقيم الألسن
والنحو مثل الملح إن ألقيته *** في كل ضد من طعامك يحسن
بل كان لأولادهم يؤدبون، وعلى اللغة يقومون، ولألسنتهم يصححون، كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يضرب أولاده على اللحن، ولا يضربهم على الخطأ، وكذا كان يصنع ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وكان علي -رضي الله عنه- يضرب الحسن والحسين على اللحن في اللغة. ورأى عمر رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطوافِ، فعلاهما بالدِّرَّةِ وقال: “لا أم لكما، ابتغيا إلى العربية سبيلا”.
فعوّدوا أولادكم لغتكم، وقوّموا ألسنتهم بعزكم وشرفكم، البعض يسعى في تعليم أبنائه لغات أخرى، ويبذل المال ليدخلوا دورات، بيد أنه لا يلقي للغة العربية بالاً، ولا يرعى لها معنًى فلا حرص ولا تعليم ولا مخاطبة، ولا تفهيم، لا نقول اجعل خطابك معربًا وللناس في أحوالهم وشؤونهم مخاطبًا، لكن تعلم وخاطب ما تقوم به لسانك ولسان أبنائك، وتفهم به كلام ربك وسنة نبيك.
يا طالبا فتح رتاج العلم *** وقاصدا سهل طريق الفهم
اجنح إلى النحو تجده علما *** تجلو به المعنى الغويص المبهم
وقالوا:
النحو زين وجمال ملتمس *** فالتمس النحو ونعم الملتمس
فعلينا أن نعنى بها ونهتم بها ونخرج عن ألفاظ العامية بقدر الإمكان، وأن نحرص على الكلام بها لاسيما في الأمور الشرعية، ولغة العلم والكتابات والمخاطبات ومزاحمة اللغة بالرطانة في الإعلام، والدعايات والاحتفالات، والأزياء والبيوعات مما يقلل من شأنها واعتقاد عسرها، فعلينا أن نثبُت على لغتنا بقدر الإمكان واعتزازنا بهويتنا.
وإن مما يؤسف له أن اللغات الأجنبية قد طغت على كثير من المؤسسات والشركات والمحلات والوظائف والتجارات، ورغم ذلك فاللغة باقية، فما علينا إلا أن نهتم بها ونتعلمها، وينبغي أن تكون الأصل وغيرها -إن وُجد- الفرع.
ومن مميزات لغتنا: أنها لغة القرآن ولغة ولد عدنان، وأثنى الله عليها، وامتازت بالاشتقاق والإعراب، واستوعبت القدرات والمبتكرات، وسلمت في بنائها ودلالاتها مما يجعل الغرب والشرق يتعجب منها ورقتها ويشيد بها، ويقدمها بل ويتعلمها.
واللغة تُعد هوية كل مجتمع، فمن قدَّم لغة غير قومه، واستأثر بها فكأنه يعلن انتماءه إلى غير قومه، فاللغة العربية من أجمل اللغات وأبلغها وأدقها، وأوسعها وأرقها، وأجمعها بيسر وسهولة وجمال وفتوةإنّ الّذي ملأ اللغات محاسنًا *** جعلَ الجمالَ وسرّه في الضّاد
لو لم تكُنْ أمّ اللغـاتِ هيَ المُنى *** لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مِدادي
لغةٌ إذا وقعتْ عـلى أسماعِنا *** كانتْ لنا برداً على الأكبادِ
ستظلُّ رابطةً تؤلّـفُ بيننا *** فهيَ الرجاءُ لناطـقٍ بالضّادِ
العنصر الخامس _وجوب المحافظة على هوية اللغة العربية
قد كرَّم الله تعالى هذه اللغة العربية؛ إذ أنزل كتابه الكريم بها على رجلٍ مِن أهلها صلَّى الله عليه وسلَّم، وكرَّمها إذ حَفظها بحفظِ ذلك الكتاب العظيم، وهذا التكريم قطعيُّ الدلالة على أنَّها خيرُ اللغات، وما انحِسار ظِلِّها في هذا الزمن وضيق انتشارها، إلا دليلٌ على ضعف أهلها في تعلُّمها وتعليمها، وتلك حقيقةٌ لا سبيل إلى جحْدها أو المُمارَاة فيها، وإلا فإنَّ الإسلام الذي حكَم العالمَ قرونًا مَدِيدةً قد نُحِّيَ هو الآخَر في هذا العَصْر عن موقع القيادة والسلطان، أَفَيَحْمِلُ الإسلامُ – وهو دينُ الله الخاتم، وكلمته العليا – وِزْر انتكاسِنا وارتكاسنا؟!
اللغة العربية والعقيدة:
لا يكون الإنسان مسلمًا إلا إذا نطَق الشهادتين بلغةٍ عربية إنِ استَطاع، وإلا كُتِبت له كلمة التوحيد (الشهادتان) بحروف لغته الأصليَّة، ثم ينطق بها.
اللغة العربية وشرائع الإسلام:
الإسلام عقيدةٌ تنبَثِق عن هذه العقيدة شريعةٌ، ومن هذه الشريعة:
الصلاة:
مِن شُرُوط صحَّة الصلاة قراءة الفاتحة قراءة صحيحة – فالفاتحة ركنٌ مِن أركان الصلاة – والأذكار بلغةٍ عربية صحيحة، خلافًا للأحناف الذين أجازوا قراءة القرآن في الصلاة بغير العربية لغير القادر على النطق بها، أمَّا قول جمهور العُلَماء فهو وجوب تعلُّم الأعجمي ما يُقِيم به صلاته، ولا تصحُّ الصلاة بغير ذلك.
الحج:
هو رُكن الإسلام الأعظم، وفيه مِن التلْبية والشعائر القوليَّة المطلوب أداؤها – طلب وجوبٍ أو استِحباب – باللغة العربيَّة على كلِّ المسلمين ومِن كلِّ اللغات.
وغير ذلك مِن الشعائر؛ مثل: قراءة القرآن، وذِكْر الله جلَّ وعلا، كلُّ هذا يحتاج فيه إلى تعلُّم شيءٍ من العربية؛ ليصحَّ إسلام العبد، وتصحَّ عباداته.
العربيَّة والعلم:
وضَع العلماء شروطًا مَن حقَّقها وحاز عليها، نال رُتبةَ الاجتهاد في الدِّين، واختَلفوا في بعض هذه الشروط؛ لكنَّهم اتَّفقوا جميعًا على شرط إتقان اللغة العربية كشرطٍ أساسٍ في المجتَهِد، لا يصحُّ له الاجتِهاد إلا بإتقان لغة العرب التي بها نزَل القرآن، وبها تحدَّث سيِّد ولد عدنان صلَّى الله عليه وسلَّم، فالقرآن والسُّنَّة هما مصدر التشريع الإسلامي، فوجَب على مَن أراد بلوغ رتبة الاجتهاد أن يَحُوز هذه اللغة؛ ليفهَم مراد الله جلَّ وعلا، ويَفهَم كلام المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال أبو إسحاق الشيرازي في “صفة المفتي”: (ويَعرِف مِن اللغة والنحو ما يَعرِف به مراد الله ومرادَ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في خطابهما)، “اللُّمع في أصول الفقه” ص 127.
اللغة العربية واجبة على كلِّ مسلم:
العربية واجبةٌ على كلِّ مسلم بحسبه، فالقَدْر الذي لا يجوز لمسلمٍ أن ينقص عنه هو القدر الذي يُمَكِّنه من إقامة الفرائض، وفهْم كلام الله ورسوله، ففيهما نجاتُه في الدنيا والآخرة، قال الماوردي: (ومعرفة لسان العرب فرضٌ على كلِّ مسلمٍ من مجتهد وغيره)؛ “إرشاد الفحول”؛ للشوكاني، ص 252.
قال ابن تيميَّة رحمه الله: (معلومٌ أنَّ تعلُّمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدِّبون أولادَهم على اللحن، فنحن مأمورون – أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ – أن نحفَظ القانون العربي، ونُصلِح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهْم الكتاب والسُّنَّة، والاقتِداء بالعرب في خِطابها، فلو تُرِك الناس على لحنهم كان نقصًا وعيبًا)؛ “الفتاوى” 32/ 252.
وقال الشافعي: (يجب على كلِّ مسلم أن يتعلَّم مِن لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه).
وذلك لأنَّ معرفة الدِّين فرض واجب، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، والإسلام لا يُفهم إلا بفهْم العربية.
اللغة العربيةشعار الإسلام والمسلمين:
اللغة هي تعبيرٌ عن كيان وروح، والعربية هي تعبيرٌ عن كيان وروح ودين؛ لذلك كَرِهَ العلماء الرطانة بغير العربية دون حاجة؛ بل قال مالك: (مَن تكلَّم في مسجدنا بغير العربيَّة فأَخرِجوه منه).
وقال ابن تيميَّة رحمه الله: (فإنَّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميَّزون)؛ “اقتضاء الصراط المستقيم” ص 203.
وقال أيضًا: (وما زال السلف يكرَهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات، وهو التكلُّم بغير العربية إلَّا لحاجة، كما نصَّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد؛ بل قال مالك: مَنْ تكلَّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه، مع أنَّ سائرَ الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوَّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام)؛ “الفتاوى” 32/ 255.
واللغة العربيَّة من الإسلام؛ لذا وجَب التمسُّك بها، والحذر من البُعد عنها؛ لأنَّ هذا من البُعد عن سبيل المؤمنين، وقد حذَّر الله تعالى من هذا المسلك؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
اللغة العربية مظهرُ عِزٍّ وفخار للمتمسِّك بها:
وهكذا كلُّ قومٍ يعتزُّون بلُغتهم، ولا يقبَلون عنها بديلًا؛ لذا نجد قادَةَ الدُّوَل الكبرى لا يتحدَّثون بغير لغاتهم في أيِّ مكانٍ كانوا، أمَّا قادتنا فهم لا يتحدَّثون بعربيَّتهم وإن كانوا في بلادهم، وهذا مِنْ إهانة اللغة وتحقير شأنها.
قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: (ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلَّا ذلَّ، ولا انحطَّت إلَّا كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيُّ المستعمِر لغتَه فرضًا على الأمَّة المستعمَرَة، ويركبهم بها، ويُشعِرهم عظمته فيها، ويستَلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمَّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأمَّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونِسيانًا، وأمَّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم مِن بعدها لأمْره تَبَعٌ)؛ “وحي القلم” 3/ 33 – 34.
اللغة العربية هي صورةٌ لشخصيَّة الأمة الإسلامية:
(إنَّ لغة الأمَّة دليلُ نفسيَّتها وصور عقليَّتها؛ بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعي الحاضر، وفي تطوُّرها التاريخي الغابر؛ لأنَّ وراء كلِّ لفظةٍ في المعجم معنى شعرتْ به الأمَّة شعورًا عامًّا، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظٍ خاصٍّ، فوَقَع ذلك اللفظ في نفوس جمهورها موقع الرِّضا، وكان بذلك مِن أهل الحياة، وما معجم اللغة إلا مجموعة مِن المعاني التي احتاجت الأمَّة إلى التعبير عنها، فاختارت لكلِّ معنًى لفظًا يدلُّ على الجهة التي نَظرَت الأمَّة منها إلى ذلك المعنى عندما سمَّتْه باللفظ الذي اصطَلَحت عليه، فلغة الأمَّة تتضمَّن تاريخ أساليب التفكير عندها مِن أبسَط حالاته إلى أرقاها، يعلَم ذلك البصير بِأَبْنِية اللغة وتلازُمها، ومَن له ذوقٌ دقيق في ترتيب تسَلْسُلها الاشتقاقي)؛ “مجلة الزهراء” مجلد 1 سنة 1343 هـ، ص 66.
و(اعتِياد اللغة يُؤثِّر في العقلِ والخُلقِ والدِّينِ تأثيرًا قويًّا بيِّنًا، ويُؤثِّر أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمَّة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تَزِيد العقلَ والدِّينَ والخُلقَ، وأيضًا فإنَّ نفس اللغة العربيَّة مِن الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنَّ فهْم الكتاب والسُّنَّة فرضٌ، ولا يُفهَم إلَّا بفهْم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب)؛ “اقتضاء الصراط المستقيم” ص 207.
ويرى علماء الاجتماع أنَّ اللغة تجعل من الأمَّة الناطقة بها كُلًّا مُتراصًّا يخضَع لقانونٍ واحد، وأنها الرابطة الحقيقية الوحيدة بين عالم الأذهان وعالم الأبدان، وهي نظريَّة تصدُقُ على لغتنا العربية – كما يقول الدكتور عثمان أمين – أكثر ممَّا تصْدُق على أيَّة لغة أخرى؛ فاللغة العربية عظيمة الأثر في تكوين عقليَّتنا، وهداية سلوكنا، وتصريف أفعالنا؛ ذلك أنها تمتاز عن اللغات الأخرى (بمثالية) عميقة صريحة، تحسب حساب الفكرة والمثال، وتضعهما مكانَ الصَّدارة والاعتِبار؛ أي: إنَّ لغتنا العربية تفترض دائمًا أنَّ شهادة الفكر أصدق من شهادة الحسِّ، ويَكفِي في التعبير بها إنشاء علاقة ذهنيَّة بين المسند والمسند إليه، دون حاجة إلى فعل الكينونة الذي هو لازمة ضرورية في اللغات (الهندو – أوربية)، ودون الحاجة إلى التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب؛ لأن الذات مُتَّصِلة دائمًا بالفعل في نفس تركيبه الأصلي.
اللغة العربية
إنّ الحكمة الكاملة من نزول القرآن الكريم باللغة العربية لا يعلمها إلا الله، ولكن من المعلوم والواضح أنّ اللغة العربيّة ثرية جدًّا، بل هي أثرى لغة عُرفت في الأرض، الشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة: فالعسل له ثمانون اسمًا، والثعلب له مائتا اسمٍ، والأسد له خمسمائة اسمٍ، والسيف له ألف اسمٍ. وإذا أردت أن تصف أحدًا بأنه داهية فلديك عدة أسماء يمكنك أن تسميه به. كما أن الكلمة الواحدة وبنفس ضبطها، قد يكون لها معانٍ كثيرة لا تحصى. كل هذا أعطى اللغة العربيّة إمكانات هائلة، فتنزل الآية بكلمات قليلة محدودةً، ومع ذلك فإنها تحمل من المعاني ما لا يتخيل حصره، وكلما نظر مفسِّر في الآية استخرج منها معاني معينة، وقد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، فيخرج منها كل مرة بمعنى جديد إضافي، وتمّر الأزمان والأزمان ويأتي مفسرون يستخرجون معاني جديدة، وصدق عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عندما وصف القرآن بأنه: “لا يَخْلق (أي: لا يبلى) من كثرة الرَّدِّ”، أي: من كثرة الترديد والقراءة. وكانت كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا باللغة العربيّة، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، فكان يقول الحديث من الكلمات القليلة جدًّا، فإذا به يحوي أحكامًا لا تنتهي، فهي لغة عجيبة جدًّا. وما دام الله قد اختار أن ينزل القرآن باللغة العربيّة، فلا بد أن ينزله إلى قوم يتحدثون العربيّة، بل وصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، فصار لديهم إتقان عجيب للغة، والتصرف فيها كما يشاءون. اللغة في ألسنتهم سهلة لينة طيعة، والشعر عندهم أمره عجيب، فالمعلقات الهائلة كانت تعلق في الكعبة، وهم يقولون الشعر في كل الظروف؛ في الفرح والحزن، في الحرب والسلم، حتى قبل الموت والسيوف على الرقاب يقولون الشعر، والمعارضة بالشعر فنٌّ أصيل لديهم، يقول الواحد منهم بيتًا، فيرد عليه آخر فورًا ببيت على نفس الوزن ونفس القافية، وفي نفس المعنى. الإعجاز القرآني الفريد ونحن قد رأينا نجاح التجربة الإسلاميّة في الجزيرة العربيّة
، ولا بد أنّ من عوامل نجاحها إتقان أهل هذه البقاع للغة العربيّة، وذلك لأنه
أولاً: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل، وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل سورة وفي كل آية، قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198-199]،
العرب المتقنون للغة أدركوا من اليوم الأول، ومن اللحظة الأولى أن هذا كلام معجز. لم ينقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبدًا، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدةً مع تحدي القرآن لهم بتأليف قرآن مثله أو عشر سور أو حتى سورة واحدة، فلم يستطيعوا وما حاولوا، إنهم في حالهم هذه كرجل قويٍّ طلبت منه حمل عمارة سكنيّة، إنه قويُّ فعلاً، ولكنّ حمل العمارة بالنسبة له حلم كالمعجزات،
إذن معرفة العربيّة أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله. وليس هذا مقصورًا فقط على الإعجاز اللغوي، بل أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن يحتاج فهمًا دقيقًا للغة، وإتقانًا بارعًا لها، حتى الإعجاز العلمي الذي نتكلم فيه في عصرنا هذا، كيف لنا أن نستخرج الإعجاز العلمي الذي
نتكلم فيه في عصرنا هذا من القرآن دون فقه اللغة ومعرفة معنى الكلمات والآيات، والمقصود من ورائها. والذي يقرأ تراجم معاني القرآن بأي لغة يدرك تمامًا أن كثيرًا من الإعجاز يختفي عند ترجمة المعاني للغة الأخرى، ويدرك بوضوح قصور أي لغة عن الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربيّة، ويدرك كذلك أنّ الذي يحمل هذه الأمانة أمانة إقامة أمة إسلاميّة قوية لا بد أن يكون متقنًا للغة العربيّة، معظمًا لها، مربيًا أولاده ومجتمعه على احترامها وتقديرها ودراستها دراسة متعمقة تقرب إليه معاني القرآن الكريم، ومعاني الحديث الشريف، فيستطيع أن يفهم مصادر التشريع، ثم يستطيع بعد ذلك أن يتحرك بهذه الرسالة.
أخبرني كيف يمكنك أن تترجم قول الله عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44].
إن تسعين بالمائة أو أكثر من جمال الآية وإعجازها يضيع إذا ترجمت إلى لغة أخرى، ويمكنكم أن تراجعوا ترجمات معاني القرآن الموجودة بأي لغة لتتأكدوا مما أقول. وكذلك الحديث الشريف لا يمكن لأحدٍ أن يستمتع به ويفهمه وينقله لغيره لو ترجم لغير اللغة العربيّة. إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي في كثير من الأوقات بقراءة القرآن على الناس فيؤمنوا به، أوعلى الأقل يقتنعون أنه الحق، لأنهم يعلمون أنَّ هذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام البشر. أمّا الآن فإن اللغة العربيّة بالنسبة لكثير من أبناء هذا الجيل أصبحت طلاسم، وقد صارت طوائف كثيرة من المسلمين كالأعجمين الذي قال الله عز وجل في حقهم كما ذكرنا منذ قليل:
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198-199]، نريد أن نتأثر بالقرآن مثلما كان الأولون يتأثرون به، ولن يكون هذا بغير لغة. سيمر علينا في السيرة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد كان بسماع بضع آيات من صدر سورة طه، كذلك آمن الطفيل بن عمرو الدوسي لسماع آيات الله تتلى، وهكذا آمن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهم جميعًا.
كما روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: “سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور”، وكان جبير في ذلك الوقت مشركًا يزور المدينة، يقول جبير: “فلما بلغ الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ . أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطُّور:35- 37]”، قال: “كاد قلبي أن يطير”، ثم مال جبير إلى الإسلام وأسلم. بل كان هذا الأثر يحدث عندما يتلى القرآن على الكفار، وانظر إلى موقف عتبة بن ربيعة ، وموقف الوليد بن المغيرة، وموقف زعماء بني شيبان، وموقف زعماء بني عامر، كلهم كان يتأثر بالقرآن لمعرفتهم الكاملة باللغة العربيّة، وإن كانوا لا يتبعونه لأسباب أخرى، هي مصالح دنيوية صدتهم عن الحق. جهود أعداء الأمة في مقاومة اللغة العربيّة إذن من أهم عوامل نجاح الرسالة الإسلاميّة في هذا المكان الذي نزلت فيه هو إتقان الدعاة للغة، وكذلك إتقان المدعوِّين لها، ولذلك كان من همِّ المحاربين للإسلام الذين فقهوا هذه النقطة جيدًا أن يضربوا اللغة العربيّة في أعماقها، وهم يدركون أنه لو وقعت اللغة العربيّة سيقع ما بعدها من الشرع.
لذا فإن من أول أعمال أتاتورك عندما بدأ في علمنة تركيا هو إلغاء اللغة العربيّة. – اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إبَّان احتلال بريطانيا لمصر أراد أن يضرب الأزهر والمدارس الدينية، فماذا فعل؟ لم يغلقها حتى لا يثير الناس،
ولكنه أنشأ مدارس علمانية بجوار الأزهر تكون الإنجليزية هي لغتها الأساسية، ثمَّ فتح لخريجي هذه المدارس فرص عمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، ومن ثَمَّ توجه الناس لإدخال أبنائهم مدارس اللغات بحثًا عن فرص عمل أفضل، وزهد الناس في الأزهر، وزهدوا في اللغة، ثمَّ زهدوا بعد ذلك في الشرع. إنَّ اليهود عندما أرادوا أن ينشئوا دولتهم على أرض فلسطين، وجمعوا شتاتهم من بقاع الأرض، ماذا فعلوا؟ لقد علموا أبناءهم اللغة العِبرِية إلى درجة الإتقان قبل أن يأتوا بهم إلى أرض فلسطين، ثمَّ أنشئوا الجامعة العبرية أول نزولهم الأرض فلسطين، ودَرَّسوا مناهجهم باللغة العبرية كلغة أولى وليست ثانية، وهم بذلك حققوا أكثر من هدف:
1. زرعوا العز في قلوب اليهود للغتهم ومن ثَمَّ لدينهم.
2. حدث التواصل بين اليهود الذين جاءوا من بلاد شتَّى. أضرار فقدان اللغة المشتركة بين المسلمين مأساة ضخمة أن يفقد المسلمون التواصل بينهم لعدم وجود لغة مشتركة، فالأمة الإسلاميّة تتحدث عشرات اللغات، أليس عيبًا أن يضطر المصري أن يتكلم مع الباكستاني – مثلاً – باللغة الإنجليزية ليفهم أحدهما الآخر رغم كون الاثنين مسلميْن؟! فوق ذلك فداخل البلاد التي تتكلم العربيّة عشرات اللغات العامية، وأقول اللغات وليس اللهجات، فكل كلمة أصبح لها بدائل لا تمتُّ للغة العربيّة بصلة، وأصبح من الصعب جدًّا على مسلمي قطر عربي أن يفهموا مسلمي قطر عربيٍّ آخر، وهذا من العجب. والطامة الكبرى أن يظهر جيل يفتخر بأنه لا يحسن العربيّة، ويفتخر الأب، وتفتخر الأم أن الابن يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ولا يفقه شيئًا من العربيّة. تعلم اللغات الأجنبية ومن الجدير بالذكر أن أشير هنا إلى أنني لست ضد تعلم اللغات الأجنبية، أبدًا بل أحبِّذ ذلك وبشدة، ولكن ليس على حساب اللغة العربيّة. إننا يجب أن نصل باللغة العربيّة إلى جميع آفاق الأرض لنعلم الناس القرآن، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنا لا نستطيع ذلك الآن، فليس أقل من أن نحافظ على اللغة العربيّة في ديارنا. وليعلم المسلمون أنّ من أهم وسائل إعادة بناء الأمة الإسلاميّة: الاهتمام باللغة العربيّة، وتعليمها لغيرنا، وتجميلها في عيون أبنائنا. إذ هنا قاعدة مهمة نخرج بها من هذه النقطة، وهي الجيل الذي يُرجَى على يده إصلاح شأن الأمة جيل يتقن العربيّة ويعظمها، وليس هذا من منطلقٍ قوميٍّ، أبدًا، فلا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلا بالتقوى، ولكن من منطلق أنّ من تكلم العربيّة فهو عربي، ولو كان من عرق مختلف، فالباكستاني الذي يجيد العربيّة عربيّ، والإندونيسي الذي يتقنها عربيُّ، والأمريكي الذي يحسنها عربي، إنما العربيّة اللسان