خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب : إذا استنار العقل بالعلم؛ أنار الدنيا

خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب : إذا استنار العقل بالعلم؛ أنار الدنيا – بتاريخ 19 من شوال 1446هـ الموافق 18من إبريل 2025م
أولا: العناصر:
- الدعوة لإنارة العقول بتعلم العلوم والمعارف المختلفة.
- التفوق العلمي، وبعض آثاره الحسنة التي تنير الدنيا.
- الخطبة الثانية: (الجمود العلمي الفكري، وستة من مخاطره).
خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب WORD : إذا استنار العقل بالعلم؛ أنار الدنيا
خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب PDF : إذا استنار العقل بالعلم؛ أنار الدنيا
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله ربّ العالمين، هدانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، قال، وقوله الحق: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحانه سبحانه أعلى شأن العلم والعلماء، ورفعهم فوق الخلق والفضلاء، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي الأميّ الكريم، الذي علًم جميع العلماء والمتعلمين، فاللهم صلْ وسلمْ وباركْ عليه، وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأزواجه، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين، وبعد:
- ((الدعوة لإنارة العقول بتعلم العلوم، والمعارف المختلفة))
أيها الأحبة الكرام: فقد أعلت شريعتنا الإسلامية الغراء شأن كلِّ علم نافع فيه خيرٌ، ونفعٌ، وصلاحٌ للبشرية، ودعت إلى إنارة العقول بتعلم العلوم الكونية؛ كما دعت إلى إنارتها بتعلم العلوم الدينية الشرعية، والأدلة على ذلك كثيرة ومتعددة، بعضها واضحٌ وصريحٌ، وأغلبها يحتاج إلى إعمال عقل وفكر، من هذه الدعوات:
1ـ الأمر بأخذ الحظ والنصيب من الحياة الدنيا، في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، فالإسلام هو دين الوسطية، ومن وسطيته العمل للدنيا كما نحن مطالبون بالعمل للأخرة، والآية واضحة في أن العمل في الدنيا هو سبيل للدار الاخرة ونعيمها ومتعها بشرط حسنه وصلاحه، وبُعْدِهِ عن الفساد، ومن العمل للدنيا تعلم العلوم الكونية التي فيها نفعٌ، وخيرٌ، وصلاحٌ للبشرية، كالطب، والهندسة، والزراعة، والاقتصاد، والعمارة، والسياسة…وهكذا، ومن هذه الدعوات أيضًا:
2ـ الدعوة إلى عمارة الأرض، في قول الله تعالي على لسان نبيه صالح (عليه السلام): {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، أي: طلب منا عمارتها، واستخراج كنوزها وخيراتها، وإحياء مواتها، وهذا لن يتحقق بالعلم الديني فقط، ولن تتأتى لنا عمارة الأرض إلا بتعلم العلوم الكونية موجهة بالعلم الديني، والواقع يصدق ذلك، فبمقارنة بسيطة بين دنيا الناس اليوم، والعالم منذ مائتي عام مثلًا نجد فرقًا شاسعًا في عمارة الأرض أحدثته العلوم الكونية اليوم، وكلما زدنا فيها ومنها تعلمًا وعلمًا كلما زادت العمارة للأرض، وزاد النفع للبشرية جمعاء، ومن هذه الدعوات
3ـ الدعوة إلى حفظ الأبدان، في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وقوله تعالي: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) (رواه ابن ماجه)، وحفظ الأبدان مقدمٌ على حفظ الأديان كما هو معلومٌ من أمر الكليات الخمس، وحفظ الأبدان كما يتأتى بالعلم الديني، فهو لا يكمل إلا بالعلوم الكونية، فالأبدان تحتاج إلى علم يتابع صحتها، ويحفظ عليها قوتها، وفي حاجة لعلم يوفر لها غذائها وخصوصًا عند النوازل والمجاعات، وفي حاجة من يشيد لها مسكنها…الخ، وكل ذلك مرده إلى العلوم الكونية، ومن هذه الدعوات أيضًا:
4ـ ما تحدث عنه القرآن الكريم من الأعمال الكونية، والتي تستلزم تعلم العلوم الكونية، منها على سبيل المثال نموذج ذي القرنين الرجلِ الصالحِ الذي وجد قومًا بين سدين، فقالوا له: {يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94]، فردّ عليهم ذو القرنين مستعينًا بالله، وداعيًا لهم إلى الإيجابية والعمل معه والتفاعل مع مشكلاتهم، فقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95]، ثم قال لهم راسمًا خطة العمل مبينًا إتقانها وإحكامها: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96]، فقد أمرهم بوضع قطع (زُبَرَ) الحديد والحطب والفحم بعضَها على بعضٍ حتى ساوى بين طرفي (الصدفين) الجبلين، ثم أمرهم بإشعال الحطب والفحم حتى صار الحديد نارًا، ثم أمرهم بإحضار النحاس المذاب (قِطْرًا) فقام بإفراغه وصبّه على الحديد المشتعل نارًا، فصار النحاس مكان الفحم والحطب بعد أن أكلتهما النار، ولزم النحاس الحديد كأنهما شيء واحد، ولذا يقول القرآن: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يتسلقوه من فوقه لطوله وملاسته، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله لشدته ولصلابته، وذلك لإتقانه وإحكام صنعه، فقد كان ارتفاعه مائتي ذراع (100م تقريبًا عمارة مكونة من 30 دور تقريبًا)، وعرضه خمسون ذراعًا، والسير بحذائه فرسخ (5400 متر تقريبًا)، فهذا نموذج لفن العمارة والهندسة أحد العلوم الكونية.
وانظروا إلى تخطيط يوسف (عليه السلام) وإلى اقتصاده، وخطته السبعية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ*يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ*قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:45ـ49]، فيوسف (عليه السلام) قدم الحلول لتلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ستضرب مصر، معلمًا الجهاز الإداري والحكومات في العالم أجمع التخطيط للمستقبل، والاستعداد للكوارث والنوازل قبل وقوعها، وهذا نموذج للاقتصاد والسياسة أحد العلوم الكونية، ومن هذه الدعوات أيضًا:
5ـ ما تضمنه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من الإشارات العلمية للعلوم الكونية، وكشف عنها العلم الحديث فيما بعد، كأطوار خلق الإنسان، والعلاج بالحبة السوداء، والعلاج بالحجامة، والأمر بتغطية الآنية…الخ، وكالإشارة إلى أن مراكز الإحساس البشري في جلد الإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، وكالإشارة إلى قلة (الأكسجين) كلما علونا في طبقات السماء في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]، وكالإشارة إلى الآليات الستة عشر لخروج الماء من جسد الإنسان، وعدم الاحتفاظ به مطلقًا، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22]، وكالإشارة إلى ظلام قاع المحيطات في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، وهكذا، ومن هذه الدعوات أيضًا:
6ـ حث النبي (صلى الله عليه وسلم) وتشجيعه على تعلم بعض العلوم الكونية، فعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه)، أمرني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي). فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له، إذا كتب إليه. (رواه أبو داود)، وعن طلق بن علي (رضي الله عنه) قال: جئت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم فأخذت المسحاة (الفأس) فخلطت الطين، فكأنه أعجبه عملي فقال: (دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ) (رواه أحمد)، وفي رواية: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: (لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ) (سنن الدارقطني)، ومن هذه الدعوات أيضًا:
7ـ إخباره (صلى الله عليه وسلم) أن المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ…) (رواه مسلم)، ولا شك أن الأمة المتسلحة بالعلوم الكونية بجانب العلوم الدينية خيرٌ وأحبُّ إلى الله ممن اقتصرت على العلوم الدينية فقط، ولا شك أن تعلم العلوم الكونية داخلٌ في قوله (صلى الله عليه وسلم): (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ،)، ولاشك أن قوله (صلى الله عليه وسلم): (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ) دعوة للتفوق في العلوم الكونية، والتنافس مع الأمم الأخرى في تعلمها.
- ((التفوق العلمي، وبعض آثار الحسنة التي تنير الدنيا))
أيها الأحبة الكرام: رأينا كيف دعا الإسلام إلى تعلم العلوم الكونية، ورأينا دعوته إلى التفوق فيها، ومما يدفعنا إلى هذا التفوق العلمي ما نلمسه من آثاره الحسنة على الأمم، بل والعالم أجمع، كالآتي:
1ـ التفوق العلمي سببٌ من أسباب القضاء على المشكلات التي تواجه البشرية، وبالتالي زيادة الراحة والرفاهية، ولنأخذ علمًا واحدًا من العلوم الكونية ولنرى أثره على البشرية قديمًا وحديثًا ألا وهو علم الطب، فكلما زاد تطوره واكتشافاته كلما كان ذلك فيه راحةٌ وإسعادٌ للبشرية، وقد كانت البشرية قديمًا تحار في علاج الإنفلونزا، والجدري وبعض الأمراض البسيطة اليوم، وها قد أضحت البشرية بسبب علم الطب اليوم تستبدل الكبد المصاب بكبدٍ أخر، وتجري عمليات القلب المفتوح، وتقوم بزراعة الكلى، وتتجنب الأمراض المستقبلية بسبب علم الجينات والوراثة…الخ.
ولنضرب مثالًا على وطننا الحبيب مصر، فمن المعروف أن مصر تواجه نقصًا حادًا في المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، والزراعي، وبفضل التفوق العلمي استطاعت تحلية مياه البحر، واستطاعت تدوير المياه الغير صالحة للاستخدام الآدمي حوالي أربع مرات، تنشئ بها نهرًا صناعيًا جديدًا، واستطاعت استنباط محاصيل زراعية لا تحتاج لمياه كثيرة، واستطاعت استخدام الأساليب الحديثة للري…الخ، أيضًا من الآثار الحسنة للتفوق العلمي:
2ـ أن التفوق العلمي من أسباب حسن استغلال الموارد والثروات للبلدان والأوطان، وحسن إدارتها، بالإضافة إلى زيادة الإنتاج، والناتج المحلي…الخ، ولنضرب مثالًا على ذلك بالدول الإفريقية المتعددة، فالكثير منها يملك ثروات طبيعية وموارد لا حصر لها، ومع ذلك يعيش أتباعها ورعاياها تحت خط الفقر والعوز والحاجة، وما ذلك إلا بسبب التأخر العلمي فضلًا عن تفشي الجهل، وانعدام التعليم من أساسه، أيضًا من الآثار الحسنة للتفوق العلمي:
3ـ أن التفوق العلمي والاهتمام بالعلم والعلماء، هو أهم أسباب تقدم الدول والأوطان، لما فيه من زيادة الإنتاج، والقضاء على المشكلات، وحسن استغلال وإدارة الموارد والثروات كما تقدم، فلولا التفوق العلمي للولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والدول الأوربية…الخ، واهتمامها بالعلم والعلماء، ما أصبحت هذه الدول في مصاف الدول المتقدمة بل لها المكانة الأولى بينها، أيضًا من الآثار الحسنة للتفوق العلمي:
4ـ أن التفوق العلمي يساهم في البناء الحضاري، الإنساني، العالمي، وهو سببٌ من أسباب الانبهار والاحترام، سواء أكان على مستوى الدول والمجتمعات، أم على مستوى الأفراد والأشخاص، ولذا رأينا الدول المتقدمة المهتمة بالعلم والعلماء تسارع إلى اختطاف كل نابغة من نوابغ العلوم الكونية، وتحاول السيطرة عليه، وإغرائه بكل السبل ليكون من رعاياها، والانتفاع بخدماته على تراب أرضها، أيضًا من الآثار الحسنة للتفوق العلمي:
5ـ أن التفوق العلمي وما يترتب عليه من تقدم، وقضاء على المشاكل الاجتماعية، وحسن استغلال وإدارة الموارد…الخ من أسباب ملك الكلمة والحرية، ويقطع الهيمنة والتسلط واستغلال الثروات والموارد من جانب بعض الدول على الدول الضعيفة علميًا، والأمثلة كثيرة لا حصر لها، والواقع يصدق ذلك، ونظرة بسيطة لقارتنا الإفريقية وللعديد من دولها، بل ولبعض الدول الأسيوية، واللاتينية ندرك تلك الحقيقة.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.
(الخطبة الثانية)
((الجمود العلمي الفكري، وستةٌ من مخاطره))
الحمد لله ربّ العالمين، أعد لمن أطاعه جنات النعيم، وسعر لمن عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: فقد عشنا مع الدعوات القرآنية والنبوية التي حثت على تعلم العلم بنوعيه الكوني والدينية، ورأينا شيئًا من آثاره الحسنة التي تنير لنا الدنيا، وبقي لنا في تلك الخطبة المباركة أن نحذر من الجمود العلمي الفكري، وبيان شيء من خطورته، وآثاره السيئة، فأقول:
الجمود العلمي الفكري: يعني عدم سيلان العقل تجاه العلوم المختلفة، وعدم البحث في أغوارها، وعدم فهمها، والتعمق فيها، وهذا له أخطار وأضرار متعددة، منها:
1ـ المنافاة لحتمية التجديد، الذي أشار إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) (رواه أبو داود)، ومعلومٌ أن التجديد كما أنه يدخل في العلوم الشرعية الدينية، فإنه يكون أيضًا بالتقدم العلمي الفكري، والإحاطة بالعلوم الكونية، والوقوف على أحدث ما وصلت إليه، وأضافته للبناء الحضاري، الإنساني، العالمي، ومن أضرار وأخطار الجمود العلمي الفكري:
2ـ تأخر الأمة عن ركب الحضارة، فوتيرة الحياة تتسارع في كافة المجالات العلمية، والفكرية، والتكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والعالم تحيط به تكتلات ومتغيرات حضارية كثيرة، وهذا مما يحتم على العلماء إعمال العقل، وإنعام النظر في كل هذه العلوم؛ لمواكبة تلك التكتلات والمتغيرات الحضارية، ومسايرة ركب التقدم الحضاري، ومن أضرار وأخطار الجمود العلمي الفكري:
3ـ المنافاة لعالمية الإسلامية، واستدامته، فقد قدر الله (عزّ وجلّ) للرسالة المحمدية أن تكون عالمية لكل الناس، وقدّر لها أن تكون خاتمة الرسالات، وأن تستمر إلى يوم الدين، وبدون تجديد فكري، وتقدم علمي لن تصلح الرسالة الإسلامية لذلك؛ لأن الحوادث والمستجدات كثيرة، والنصوص في شريعتنا الإسلامية محدودة، وهى مجرد قواعد كلية، وليست تفصيلية، فتحتاج تلك الحوادث والمستجدات إلى تكييف فقهي، وبيانٍ لحكمها الشرعي، وهذا لن يتأتى إلا بإعمال العقل في النصوص الشرعية، واستنباط أحكامها منها بالأدلة والأدوات التشريعية، كما أنه يتأتى بالتقدم العلمي الفكري، ومن أضرار وأخطار الجمود العلمي الفكري:
4ـ المنافاة لما فتحه النبي (صلى الله عليه وسلم) من باب الاجتهاد، حيث قال لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) حينما بعثه واليًا وقاضيًا إلى اليمن: (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟). قال: أقضي بكتاب الله. قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟). قال: فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟). قال: أجتهد رأيي، ولا آلو (ولا أقصر). فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدره، وقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ، رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ) (رواه أبو داود)، ومعلومٌ أن الاجتهاد إعمال عقلٍ في المقام الأول، ومن أضرار وأخطار الجمود العلمي الفكري:
5ـ التعسير على الناس في أمر دينهم، وإدخال المشقة عليهم، وإيقاعهم في الحرج، فالحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبر بذلك فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) (رواه أبو داود)، وقد رأينا في هذا العصر من يتمسك بإخراج زكاة الفطر قوتًا وحبّا، ويلزم الناس شرائهما، ويمنعهم من إخراجها نقودًا، والأمثلة والنماذج كثيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العي العظيم، ومن أضرار وأخطار الجمود العلمي الفكري:
6ـ المخالفة الصريحة لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، الداعية إلى إعمال العقل والتدبر، والتفهم، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53]، وكقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، وكقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذّاريات:21،20]، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ) (المعجم الأوسط)، وهو من الضلال في دين الله كما تبين في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الخوارج، وهو جهل بالمقاصد العامة للتشريع الإسلامي، قال الإمام القرافي (رحمه الله): (وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِد عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ) (الفروق).
فاللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب