خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب : وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ
الجمعة الموافقة 10من رجب 1446هـ الموافق 10/1/2025م
خطبة الجمعة للدكتور مسعد الشايب : ((وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ))
الجمعة الموافقة 10من رجب 1446هـ الموافق 10/1/2025م
==================================
لتحميل الخطبة pdf
أولا: العناصر:
1. حسنُ الخلقِ، وبعضُ تعريفاتِ العلماءِ له.
2. ثمانيةٌ من فضائل التحلي بحسن الخلق، وأفضل تطبيق له.
3. الخطبة الثانية: (المواطنة، ومفهومها، أدلتها).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، القائل في بعض كتبه الإلهية: (يَا ابْنَ آدَمَ، خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ، وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلَا تَتْعَبْ فَاطْلُبْنِي تَجِدْنِي؛ فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتك فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===========================================
(1) ((حسنُ الخلقِ، وبعضُ تعريفاتِ العلماءِ له))
===========================================
أيها الأحبة الكرام: الدين الإسلامي هو دين المثل والقيم والأخلاق، وما أرسل نبينا (صلى الله عليه وسلم) إلا ليتمم صالح الأخلاق، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)(رواه أحمد)، وقال علماء الشريعة وفقهاؤها: الدين خلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين، ومن أعظم الأخلاق المجتمعية التي دعت إليها الشريعة الإسلامية ما يعرف بـ (الخلق الحسن)، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك؛ لنرى معنى الخلق الحسن، وكيف رغبت الشريعة الإسلامية في التحلي بها ببيان شيء من فضائله، فأعيروني يا عباد الله القلوب، وأصغوا إلى بالآذان والأسماع، فأقول وبالله التوفيق:
===
حسن الخلق عرفه سلفنا الصالح بتعريفات كثيرة، وكلها تعريفات متداخلة متقاربة، تتلخص في الآتي:
فعن سيدنا الإمام الشعبي(رحمه الله) ت(بعد 100هـ)، قال: (حسن الخلق: البله (ما يعرف بالطيبة، وعدم الإيذاء، والتعرض للأخرين)، والعطية، والبشر الحسن).
===
وعن سيدنا الإمام الحسن البصري (رحمه الله) ت(110هـ)، قال: (حسن الخلق: الكرم، والبذلة (العطاء)، والاحتمال).
===
وعن سيدنا الإمام عبد الله بن المبارك ت(181هـ)، قال: (حسن الخلق: بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى).
===
وعن سيدنا الإمام أحمد (رحمه الله) ت(241هـ)، قال: (حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد، وتحتمل ما يكون من الناس).
===
وعن سيدنا الإمام إسحاق بن راهويه (رحمه الله) ت(237هـ)، قال: (حسن الخلق: هو بسط الوجه، وأن لا تغضب).
===
ولله در سيدنا سلام بن أبي مطيع ت(164هـ أو بعدها) حيث أنشد في حسن الخلق وفي تعريفه شعرًا، فقال:
(تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ….. كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ ….. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ ….. لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ ….. هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ….. فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ)
===
قلت (ابن الشايب): من تعريفات سلفنا الصالح لحسن الخلق؛ يتبين لنا أنه: عبارة عن بشاشة الوجه، وطهارة القلب، وتحمل الأذى من الغير مع القدرة على ردّه، والكرم، والعطاء، والجود.
…هذا، وقد حثتنا شريعتنا الإسلامية الغراء على التخلقِ، والتحليِ، والتجملِ بحسن الخلق، ببيان العديدِ، والعديدِ من فضائله، وفوائده، وثمارهِ، فمن فضائل التحلي بحسن الخلق:
===========================================
(2) ((ثمانيةٌ من فضائل التحلي بحسن الخلق))
===========================================
1ـ أنه أفضل من زخارف الدنيا، وزينتها وبهرجها، فمن أعطاه الله خلقًا حسنً؛ فقد أعطى أفضل من الدنيا، يروي لنا الإمام أحمد في مسنده من حديث سيدنا عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما)، أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ)، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
2ـ إرضاء الناس، وكسب ودّهم، وحبهم، واحترامهم…الخ، فهو يفعل ما لا تستطيع الأموال فعله، يروي لنا الإمام الحاكم في مستدركه، والإمام البزار في مسنده من حديث سيدنا أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ).
حسن الخلق فيه إشاعةٌ لروح المحبة، والتعاون والتكافل بين أفراد المجتمع ككل، وتقوية لأواصر الود والترابط بين الكل مسلمين وغيرهم، ويزيل الأحقاد والعداوة والحسد من القلوب؛ ولذا كان الصحابة يهدون إلى جيرانهم غير المسلمين، وهذا ما أراده النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما نهى عن التباغض، والتحاسد، والتقاطع، والتدابر، فقال (صلى الله عليه وسلم): (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)(اللفظ لمسلم)، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) محذرًا من الأمراض القلبية: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)(رواه الترمذي)، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
3ـ محبة الله (عزّ وجلّ)، وإذا أحب الله العبد؛ نادى على جبريل (عليه السلام)، وأمره بحب هذا العبد، فيحبه جبريل (عليه السلام)، ثم ينادي جبريل (عليه السلام) على أهل السماء، ويأمرهم بحبه، فيحبوه، ثم ينادي جبريل (عليه السلام) على أهل الأرض، ويأمرهم بحبه، فيحبوه، ويوضع له القبول في الأرض، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ)(رواه الترمذي)، فإذا كان الله يبغض الفاحش البذيء؛ فإنه يحب صاحب الخلق الحسن طبقًا لمفهوم المخالفة، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
4ـ شهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخيرية لأصحاب الأخلاق الحسنة، وكفى بها شهادة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا)(متفق عليه)، وعن ابن عمر (رضي الله عنهما)، أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله (عزّ وجلّ)؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ)(رواه الطبراني في الأوسط)، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
5ـ حسن الخلق شرطٌ لقبول الأعمال، والطاعات والعبادات، فقد قال الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي، وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلَى خَلْقِي، وَلَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَتِي، وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِي ذِكْرِي، وَرَحِمَ الْمِسْكِينَ، وَابن السَّبِيلِ، وَالأَرْمَلَةَ، وَرَحِمَ الْمُصَابَ، ذَلِكَ نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْسِ، أكلؤه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له الظُّلْمَةِ نُورًا، وَفِي الْجَهَالَةِ حِلْمًا، وَمَثَلُهُ فِي خَلْقِي كَمَثَلِ الْفِرْدَوْسِ فِي الْجَنَّةِ)(مسند البزار)، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
6ـ الخلق الحسن يكفر الذنوب والخطايا؛ فمن أراد أن يلقى الله طاهرًا مطهرًا؛ فعليه بالتمسك بالخلق الحسن، فعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: (ذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَضَحِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَجْهِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ)(الإخوان لابن أبي الدنيا)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (الْخُلُقُ الْحَسَنُ يُذِيبُ الْخَطَايَا كَمَا يُذِيبُ الْمَاءُ الْجَلِيدَ، وَالْخُلُقُ السُّوءُ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ)(المعجم الكبير للطبراني)، وإذا كان الخلق السيئ يفسد العمل؛ فإن الخلق الحسن شرط قبول الأعمال طبقًا لمفهوم المخالفة، وقد تقدم ذلك من قول نبينا (صلى الله عليه وسلم)، ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
7ـ تثقيل ميزان صاحبه يوم القيامة؛ لكونه مفتاحًا لأبواب خير كثيرة، كمحبةِ الله (عزّ وجلّ)، وتكفيرِ الذنوب والخطايا، وبالتالي فهو يفضي بصاحبه إلى الجنة، يروي لنا الإمام الترمذي في سننه من حديث سيدنا أبي الدرداء (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: (الفَمُ وَالفَرْجُ)(رواه الترمذي), ومن فضائل التحلي بحسن الخلق أيضًا:
==========
8ـ القرب من النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا…)(رواه الترمذي).
===========================================
أيها الأحبة الكرام: إن أفضل تطبيق لبسط الوجه، وحسن الخلق الحسن: هو ما تحياه مصرنا المباركة من تعايشٍ سلمي بين أبنائها ـ حتى صاروا كالنسيج الواحد، بغض النظر عن المعتقد، واللون، والعرق، والتوجه، والثقافة ـ وذلك يتحقق بإعطاء الحرية الدينية لأهل الكتاب الذين يعيشون معنا، وبعدم إكراههم على الإسلام، أو إجبارهم على ترك دينهم، وهذا ما أرشد إليه القرآن الكريم، فقال تعالى سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة:256]، وقالَ مخاطبًا النبيَّ (صلى الله عليه وسلم): {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99].
ويتحقق أيضًا التعايش السلمي في مصرنا الحبيبة بالمعاشرة الحسنة لشركائنا في الوطن، وإخوتنا في الإنسانية، وبالبر بهم، والمعاملة بالحسنى لهم، كالبيع والشراء، وتعزيتهم، وتهنئتهم…إلخ: وهذا ما أرشدت إليه سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)(رواه البخاري)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(رواه أبو داود)، (حجيجُه) أي: خصمُه.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له
===========================================
(الخطبة الثانية)
((المواطنة، مفهومها، أدلتها))
===========================================
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===
أيها الأحبة الكرام: من سماحة الشريعة الإسلامية الغراء، الاعتراف بحقوق الآخرين الذين يعيشون معنا على أرض الوطن، وهو ما يعرف ويسمى بالمواطنة:
==========
والمواطنة: مشتقة من كلمة الوطن، وهو المكان الذي يُقيم ويستقر ويعيش فيه الإنسان سواء وُلد فيه أم لم يولد، والمواطنة تعني تمتع الفرد بالحقوق الأساسية في الوطن الذي يعيش فيه، نظير أداء ما عليه من واجبات، أو هي علاقة متبادلة بين الأفراد والدولة التي ينتمون إليها ويُقدّمون لها الولاء ويقومون بما عليهم من واجبات وحقوق تجاهها؛ ليُحصلوا فيما بعد على مجموعة من الحقوق المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية…الخ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغيره، وبغض النظر عن اللون، والجنس، والعرق، والثقافة، واللسان….الخ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغيره، وبغض النظر عن اللون، والجنس، والعرق، والثقافة، واللسان….الخ.
وقد تضافرت مجموعة من الأدلة الإجمالية من كتاب الله (عزّ وجلّ)، ومن سنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) على الأخذ بعناصر المواطنة، وهذا بعضها:
==========
1ـ الدعوة إلى المعاملة الحسنة، والتعايش السلمي مع أهل الكتاب كما تقدم، فيقول الحق تبارك وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]، ويقول الحق تبارك تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53].
==========
2ـ قرن القرآن الكريم بين المحاربة في الدين، والإخراج من الديار، وجعلهما من أسباب المقاطعة والقتال للغير، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:8].
==========
3ـ ما كان من وثيقة (دستور) المدينة، فقد كتب النبي (صلى الله عليه وسلم): (هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ، فَحَلَّ مَعَهُمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ….وَأَنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ لَهُ الْمَعْرُوفَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرٍ عَلَيْهِمْ… وَأَنَّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ، وَلَا يُعِينُهَا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَأَنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلَّا أَنْ يُرْضِيَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ بِالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلَا يُؤْوِيَهُ، فَمَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَأَنَّكُمْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ، وَمَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يَوْتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَأَنَّ لِيَهُودِ الْأَوْسِ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ، فَإِنَّهُ لَا يَوْتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتُهُمْ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُمْ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ بَيْنَكُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالنَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ جَوْفُهَا حَرَمٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوُا الْيَهُودَ إِلَى صُلْحِ حَلِيفٍ لَهُمْ بِالْأُسْوَةِ فَأَنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَإنْ دَعَوْنَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ الدِّينَ….مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَنَّ بَنِي الشُّطْبَةِ بَطْنٌ مِنْ جَفْنَةَ، وَأَنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَلَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، لَا يُحَوَّلُ الْكِتَابُ عَنْ ظَالِمٍ وَلَا آثِمٍ، وَأَنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ بِالْمَدِينَةِ أُمِّنَ أَبَرَّ الْأَمْنِ، إِلَّا ظَالِمًا وَآثِمًا، وَأَنَّ أَوْلَاهُمُ بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْبَرُّ الْمُحْسِنُ)(الأموال لابن زنجويه، والأموال لأبي عبيد).
===========================================
فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به خاشعين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم،
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب