خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل

خطبة الجمعة للشيخ مراد سلامة وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة

قوة النبي صلى الله عليه وسلم أنموذجًا لبناء قوة الأمم الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
أما بعد إخوة الإيمان:
فحديثنا إليكم في ذلك اليوم الطيب الميمون الأغر عن “قوة النبي صلى الله عليه وسلم أنموذجًا لبناء قوة الأمم والأوطان”، إننا – أيها الكرام – بحاجة ماسَّة إلى أن نركن إلى ركن شديد في زمان الضعف والهوان، وفي زمان الانبطاح؛ حيث أصبحت الأمة كالأيتام على موائد اللئام.
إننا بحاجة إلى القوة التي تدفع وترفع.
بحاجة إلى القوة التي تبني ولا تهدم.
بحاجة إلى القوة التي تردع وتصُدُّ هجمات المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
بحاجة إلى القوة التي تأخذ للمظلوم حقَّه من ظالمه.
بحاجة إلى القدوة التي نستلهم منها معالمَ وأسس القوة.
إننا بحاجة إلى القدوة التي أرْسَتْ معالم القوة وطبَّقتها تطبيقًا قوليًّا وعمليًّا.
إننا اليوم نعيش مع القويِّ الأمين صلى الله عليه وسلم.
نعيش مع القوي الذي ما ضعُف وما وهن صلى الله عليه وسلم.
نعيش مع قدوتنا ومُلْهِمنا ومعلِّمنا نستمد من سيرته صلى الله عليه وسلم معالم القوة لنربِّيَ عليها أنفسنا وأُمَّتَنا.
أولًا: الإسلام دين القوة، وهل في ذلك شكٌّ؟
شارعه هو الجبار ذو القوة المتين، ومُبلِّغه هو محمد الصَّبَّار ذو العزيمة الأمين، وكتابه هو القرآن الذي تحدَّى كل إنسان وأعجز، ولسانه هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان، وقوَّاده الخالديون هم الذين أخضعوا لسيوفهم رقاب كسرى وقيصر، وخلفاؤه العُمَرِيُّون هم الذي رفعوا عروشهم على نواصي الشرق والغرب، فمن لم يكن قويَّ البأس، قوي النفس، قوي الإرادة، قوي العزيمة، قوي العقيدة، قوي الإنسانية، قوي الأمل، قوي العُدَّة، كان مسلمًا من غير إسلام، وعربيًّا من غير عروبة!
الإسلام قوة في الرأس، وقوة في اللسان، وقوة في اليد، وقوة في الروح.
هو القوة في الرأس؛ لأنه يفرض على العقل توحيد الله بالحُجَّة، وتصحيح الشرع بالدليل، وتوسيع النص بالرأي، وتعميق الإيمان بالتفكُّر.
وهو قوة في اللسان؛ لأن البلاغة هي معجزته وأداته، والبلاغة قوة في الفكر، وقوة في العاطفة، وقوة في العبارة.
وهو قوة في اليد؛ لأن موحيه – وهو الحكيم الخبير – قد علِم أن العقل بسلطانه، واللسان ببيانه لا يغنيان عن الحق شيئًا، إذا ما أظْلَمَ الحِسُّ، وتحكَّمت النفس، وعَمِيت البصيرة؛ فجعل من قوة العضل ذائدًا عن كلمته، وداعيًا إلى حقِّه، ومنفِّذًا لحكمه، ومؤيدًا لشرعه، كتب على المسلمين القتال في سبيل دينهم ودينه، وفرض عليهم إعداد القوة والخيل؛ إرهابًا لعدوهم وعدوه، وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله، ولكن القوة التي يأمر بها الإسلام هي قوة الحكمة والرحمة والعدل، لا قوة السَّفَهِ والقسوة والجَور؛ فهي قوة مزدوجة، أو قوة فيها قوتان؛ قوة تهاجم البغي والعدوان في الناس، وقوة تدافع الأَثَرَة والطغيان في النفس.
والإسلام بعد ذلك قوة في الروح؛ لأنه يمحِّص جوهرها بالصيام والقيام والاعتكاف، والارتياض والتأمل[1].
يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بالأخذ بأسباب القوة: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
ثانيًا: الله هو القويُّ؛ يقول تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58]، وهذه المصاحبة تؤدي معنى ثبات هذه القوة ودوامها، فهو يؤثِّر ولا يتأثر، يُغيِّر ولا يتغير، مع الرفعة والتنزُّه، وقد ورد مصاحبًا لاسمه تعالى العزيز في عدة مواضع؛ يقول تعالى: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ [الشورى: 19]، ويقول تعالى: ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 74]، ويقول تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
ونعيش في هذا اللقاء مع قوة النبي صلى الله عليه وسلم أنموذجًا لبناء قوة الأمم والأوطان، فأعيروني القلوب والأسماع.
ثالثًا: قوة النبي صلى الله عليه وسلم في الجسم:
إخوة الإيمان: إن الناظر إلى العطايا الربانية للنبيِّ يجد أن الله تعالى منحَهُ قوة البدن، وتلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن إسحاق: “وحدثني أبي إسحاقُ بن يسار قال: كان رُكانة بن عبديزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبدمناف أشدَّ قريش، فخلا يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شِعاب مكة – قبل الهجرة – فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة، ألَا تتَّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حقًّا لاتبعتُك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتُك، أتعلم أن ما أقول حقٌّ؟ قال: نعم، قال: فَقُمْ، حتى أصارعك، قال: فقام إليه ركانة يصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضْجَعَهُ، وهو لا يملك من نفسه شيئًا، ثم قال: عُد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد، والله إن هذا لَلعجبُ، أتصرعني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئتَ أن أُرِيَكَهُ، إن اتقيت الله واتبعت أمري، قال: ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: ألَا أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني؟ قال: ادْعُها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لها: ارجعي إلى مكانك، قال: فرجعت إلى مكانها، قال: فذهب ركانة إلى قومه، فقال: يا بني عبدمناف، ساحِرُوا بصاحبكم أهلَ الأرض، فوالله ما رأيت أسحرَ منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع”[2].
وها هم المسلمون يحفِرون الخندق في غداة باردة، وتَعرِض لهم كُدْيَةٌ شديدة، عجزت سواعدهم ومعاولهم عن النَّيل منها، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرِضون عليه الأمر؛ عن أيمن المكي، قال: ((أتيت جابرًا، فقال: إنَّا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْيَةٌ شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عَرَضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجرٍ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَوَاقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الْمِعْوَلَ، فضرب، فعاد كثيبًا أهْيَلَ، أو أهْيَمَ))[3].
ومَنَحَهُ الله قوة في الجماع؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يجامع زوجاته كلهن في ليلة واحدة؛ عن أنس بن مالك قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال قتادة – أحد الرواة – قلت لأنس: أو كان يُطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أُعطِيَ قوة ثلاثين، وقال سعيد عن قتادة: إن أنسًا حدَّثهم تسع نسوة))؛ [رواه البخاري][4].
رابعًا: قوته صلى الله عليه وسلم في العبادة:
إخوة الإيمان: ومن أروع صور القوة في حياته صلى الله عليه وسلم القوةُ في عبادة ربه جل جلاله، والوقوف بين يدي الملك الجليل؛ ونذكر منها:
قوته صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
فمن أمثلة قوته صلى الله عليه وسلم في الصلاة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطَّرَ قدماه، فقلت: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟))؛ [متفق عليه][5].
وعن المغيرة بن شعبة ((أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟))[6].
قوته صلى الله عليه وسلم في الصيام:
ومن مشاهد قوته صلى الله عليه وسلم في العبادة مواصلةُ الصوم، وكان يُكثِر من الصيام؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئل عن صوم النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان يصوم من الشهر حتى نرى أنه لا يريد أن يُفطر منه، ويُفطر حتى نرى أنه لا يريد أن يصوم منه شيئًا))؛ [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح][7].
ولقد أُعطِيَ صلى الله عليه وسلم من القوة التي تمنحه مواصلة الأيام؛ فعن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قال: فقيل له: إنك تواصل، قال: إني أبِيتُ يطعمني ويسقيني))[8].
قوته صلى الله عليه وسلم في الذكر:
ولقد كان قويًّا في الذكر والاستغفار، فكان لا يفتُر لسانه صلى الله عليه وسلم عن ذكر ربه جل جلاله؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله ‌على ‌كل ‌أحيانه))؛ [رواه مسلم][9].
ومن أمثلة قوته في الاستغفار: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إنْ كنَّا لَنَعُدَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‌في ‌المجلس ‌الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليَّ؛ إنك أنت التواب الرحيم))؛ [رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وابن حبان][10].
قوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
معاشر الموحدين: لما كان مدار الصمود والبقاء على القوة في الدين، أمر الله عز وجل بها أنبياءه وأقوامهم؛ فقال تعالى لموسى عليه: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ [الأعراف: 145]، وقال لبني إسرائيل: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [البقرة: 63]، وكذلك أمر الله تعالى يحيى بن زكريا عليهما السلام أن يأخذ التوراة بقوة؛ فقال سبحانه: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12].
وأثنى الله تعالى على داود عليه السلام؛ لقوته في العبادة: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17].
قال قتادة: “أُعْطِيَ داود عليه السلام قوةً في العبادة، وفقهًا في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه عليه السلام كان يقوم ثلث الليل، ‌ويصوم ‌نصف ‌الدهر”، وقوة داود في العبادة ثابتة في السُّنَّة الصحيحة؛ كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله ‌صيام ‌داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسه، ويصوم يومًا ويُفطر يومًا))؛ [رواه الشيخان].
قوة السلف في العبادة:
أحبتي الكرام: للسلف الصالح أحوال كثيرة في القوة على العبادة، والاستمرار عليها؛ نذكر من ذلك:
سعيد بن المسيب رحمة الله عليه:
فقد قال سعيد بن المسيب رحمة الله عليه: “ما دخل عليَّ وقتُ صلاةٍ إلا وقد أخذت أُهْبَتَها، ولا دخل عليَّ قضاءُ فرضٍ إلا وأنا إليه مشتاق”.
• وقال أيضًا: “ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة”.
الأعمش رحمه الله:
• وقال وكيع بن الجراح رحمة الله عليه: “كان الأعمش قريبًا من سبعين سنةً لم تَفُتْهُ التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريبًا من ستين فما رأيته يقضي ركعةً”[11].
• وقال محمد بن سماعة القاضي رحمة الله عليه: “مكثت أربعين سنةً لم تَفُتْني التكبيرة الأولى إلا يومًا واحدًا ماتت فيه أمي، ففاتتني صلاة واحدة في جماعة”[12].
• وقال يحيى بن معين رحمة الله عليه: “أقام يحيى بن سعيد القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يَفُتْهُ الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رُؤِيَ يطلب جماعة قط”[13].
قرأت هذه الأقوال ووقفت عند «خمسين سنة»، و«أربعين سنة»، و«عشرين سنة»، متعجبًا من هذه الهمة والقوة في تربية النفس على الإيمان وأسبابه في ضوء هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ثم تأملت في حالي وحال كثيرٍ من أبناء هذا الزمان في هذه المسائل الإيمانية العظيمة، فدهشت من النتيجة؛ إذ لا يخلو يومٌ – فضلًا عن أسبوع دعك من الشهر والسنة – من نظر في قفا المصلين أو وجوههم.
خامسًا: قوة النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الأزمات:
أيها الآباء، أيها الإخوة الأعزاء: لقد رمى العربُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن قوس واحدة، فشنُّوا عليه حربًا عالمية، اجتمع فيها جحافل الكفار والمنافقين واليهود، ولكن الحقيقة أننا لا ننتصر على عدونا بكثرتنا، ولا بأسلحتنا، وإنما ننتصر عليهم بإيماننا وهِمَمِنا التي تثبُت كالجبال الراسيات أمام الفتن والمدلهمَّات.
عقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسًا عسكريًّا لحل تلك الأزمة الراهنة، واستشار أصحابه في كيفية صد ذلك العدوان الغاشم، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وقد كان الخندق يمتد من أم الشيخين طرف بني حارثة شرقًا حتى المداد غربًا، وكان طوله خمسَ آلافِ ذراعٍ، وعرضه تسع أذرع، وعمقه من سبع أذرع إلى عشر، وكان على كل عشرة من المسلمين حَفْرُ أربعين ذراعًا[14].
وقد تمَّ الحفر في ظروف شديدة الصعوبة؛ فقد كان الجوُّ شديد البرودة، عاصف الرياح، والمدينة قد أصابتها مجاعة[15]، وكان الجيش يلبث ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، ورغم كل الظروف الصعبة تمكَّن المسلمون من إنجاز الخندق في ستة أيام فقط[16].
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عَيشَ إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار))[17].
وعن أنس قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النَّصَب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخره = فاغفر للأنصار والمهاجرهْ، فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا = على الجهاد ما بَقِينا أبدا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقُل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبرَّ بطنه))[18].
سادسًا: قوته صلى الله عليه وسلم في الدفاع والجهاد:
ومن ملامح القوة في حياته صلى الله عليه وسلم قوته في الدفاع عن الذِّمار والدِّيار، والجهاد في سبيل الواحد القهَّار؛ عن البراء بن عازب قال: “وكان إذا احمرَّ البأس يُتَّقى به”؛ أي: كان إذا احمرَّ البأس، وحَمِيَ الوطيس، واشتدت الحرب، احتمَوا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: “وإن الشجاع الذي يُحاذي به”.
فالبراء بن عازب هنا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شجاع، بدليل أنه كان إذا حَمِيَ الوطيس، احتموا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُحتمى إلا بالشجاع.
وهذا قد ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: “لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلوذ – أي: نلجأ ونحتمي – برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أقربنا إلى العدو”؛ أي: أنه لا يرجع إلى الخلف ولا يهرب.
ومعنى هذا: أنه كان أشجع الناس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمِع نفيرًا، أو صوتًا غير عاديٍّ في الليل، انطلق تُجاهه، وذات مرة تبِعه الصحابة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من جهة الصوت يقول: ((لا عليكم، لا عليكم)).
عن أبي إسحاق، قال: قال رجل للبراء: هل كنتم ولَّيتم يوم حنينٍ يا أبا عمارة؟ فقال: ((أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ولَّى، ولكنه انطلق أخفَّاء من الناس وحُسَّرٌ إلى هذا الحي من هوازن، وهم قومٌ رُماة، فرمَوهم برِشقٍ من نَبلٍ، كأنها رِجل من جراد، قال: فانكشفوا، فأقبل القوم هنالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنصر وهو يقول: أنا النبيُّ لا كذب = أنا ابن عبدالمطلب، اللهم نصرك، قال: كنا – واللهِ – إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع الذي يُحاذي به))[19].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، وأكثرهم عطاءً لما يقدر عليه، وأكثرهم إقدامًا على العدو في الجهاد مع عدم الفرار))، واقتصار أنس رضي الله عنه على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم؛ لأنها أمهات الأخلاق، ويحكي أنس رضي الله عنه موقفًا يدل على شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد فزع أهل المدينة ليلةً لما سمعوا صوتًا قويًّا، فخرجوا متوجهين ناحية هذا الصوت، فتلقَّاهم صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد استكشف الخبر وعرف حقيقته، وكان راكبًا على فرسٍ لأبي طلحة بغيرِ سرجٍ، وكان صلى الله عليه وسلم مُتقلِّدًا سيفه، ومعلِّقه في عنقه، فقال مهدِّئًا من رَوعهم وخوفهم: ((لم تراعوا، لم تراعوا))، فلا تخافوا خوفًا مستقرًّا، أو خوفًا يضركم، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن الفرس: ((وجدته بحرًا))[20]، فشبَّه الفَرَس بالبحر؛ لسعة جَرْيِهِ مع انسيابه وخفته مثل البحر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
سابعًا: قوته صلى الله عليه وسلم في إقامة العدل وإنصاف المظلومين:
إخوة الإيمان: لقد كان قويًّا في إقامة العدل، وإرساء معالمه حتى مع أقرب الناس إليه، عدل من أقسم أن يطبق العدل مع أبنائه إن هم فرطوا في حق الله؛ فعن عائشة رضي الله عنها ((أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؛ حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهْلَكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت، لقطعتُ يدها))[21].
لما ارتفع السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب الناس منه أن يحدد الأسعار، خاف أن يقع ظلم على التجار، فيبخسهم أموالهم؛ فعن أنس بن مالك قال: ((غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، لو سعَّرت، فقال: إن الله هو الخالق القابض، الباسط الرازق، المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال))[22].
ومن روائع عدله صلى الله عليه وسلم أنه نفح أحدُ الناس في غزوة حنين بسَوطٍ في يده، فأعطاه النبي ثمانين نعجة بهذه الضربة؛ فعن عبدالله بن أبي بكر عن رجل من العرب، قال: ((زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حنينٍ، وفى رجلي نعل كثيفة، فوطِئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفحني نفحةً بسوط في يده، وقال: بسم الله، أوجعتني، قال: فبِتُّ لنفسي لائمًا، أقول: أوجعتُ رسول الله، قال: فبِتُّ بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: أين فلان؟ قال: قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس، قال: فانطلقت وأنا متخوِّف، فقال لي رسول الله: إنك وَطِئتَ بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني، فنفحتك نفحةً بالسوط، فهذه ثمانون نعجةً فخذها بها))[23].
ثامنًا: حاجتنا إلى القوة:
أمة الإسلام، إن الأمة بحاجة إلى المؤمن القوي في عقيدته، القوي في عبادته، القوي في تعلُّمه، القوي في دعوته، القوي في دفاعه، القوي في صدعه بالحق ووقوفه أمام سيل الشبهات والشهوات، والفتن والمغريات، إذا تكلم كان قويًّا واثقًا، وإن ناقش كان قويًّا واضحًا، وإذا عمل كان قويًّا ثابتًا، يأخذ تعاليم دينه بقوة، وينقلها إلى غيره بقوة، ويتحرك ويدعو في مجتمعه بقوة، بلا وهن ولا تمييع، ولا ضعف ولا تصنع؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز))[24].
وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالًا: هل نحن ممن يصلح أن يكون من هذه الطائفة القوية التي تنصر دينها، وتصبر على ما تُبتلى به؟ إذا كنا نغشى بعض المخالفات الشرعية، ولا نستطيع قيام الليل أو الوِتر على الأقل، وكلما هبت ريحُ شبهةٍ أمالَتْنا، أو شهوة أناختنا، فإن إحياء معاني القوة في أنفسنا قبل الآخرين ظاهر العسر والصعوبة.
عبدَالله: لا تَخْشَ على هذا الدين، فإن الأقوياء في حَمْلِهِ والأخذ به، والدفاع عنه، لا بد من وجودهم في كل زمن، وهذه الأمة أمَّةٌ ولود، فما يضعُف قويٌّ إلا ويقوى ضعيف، وما يزِلُّ عالم إلا ويرسخ آخر، وما يتساهل داعية إلا ويثبُت غيره، فإما أن تتحقق فينا معاني القوة في الدين أخذًا ومدافعة، وإما أن تجري علينا سنة الاستبدال في قيادة هذا الدين والتأثير في الناس.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن القوة في الدين لا تتطلب عبوسًا في الوجه، وضيقًا في الصدر، وغلظةً في التعامل، فإن هذا مما يخالف قوة الأخلاق عند الطائفة المنصورة، ولنا في سِيَرِ الأقوياء الأتقياء أسوة حسنة.
رزقنا الله وإياكم القوة في دينه، وثبتنا على شرعه وهَدْيِ نبيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] مجلة الرسالة (809/ 1، بترقيم الشاملة آليًّا).
[2] ابن عبدالبر: الاستيعاب (2770). ابن الأثير: أسد الغابة (5544). ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، (9279)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1503).
[3] أخرجه البخاري برقم (4101).
[4] رواه البخاري (268)، والنسائي في عشرة النساء من الكبرى كما في تحفة الأشراف (1/ 352)، وابن خزيمة (231).
[5] صحيح البخاري: ج4، ص1830، ح4557.
[6] مسلم (4/ 2171 رقم: 2819)، البخاري (3/ 14 رقم: 1130)، وانظر: (4836، 6471).
[7] وأخرجه الترمذي (769) في الصوم: باب ما جاء في سرد الصوم، وفي “الشمائل” (292).
[8] أخرجه عبدالرزاق في “مصنفه” (7535)، وأحمد (18836)، والبيهقي في “الكبرى” 4/ 263 – 264.
[9] أخرجه مسلم (373)، والترمذي (3681)، وابن ماجه (302).
[10] رواه الترمذي (5/ 3434)، وغيره [السلسة الصحيحة: 556].
[11] حلية الأولياء (5/49).
[12] تاريخ بغداد، 5/341.
[13] تاريخ بغداد، 14/141.
[14] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 421).
[15] البخاري (3792).
[16] وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، علي بن عبدالله السمهودي (4/ 1208)، دار الآداب والمؤيد – مصر.
[17] البخاري، برقم: (3789).
[18] البخاري، برقم: (3795).
[19] مصنف ابن أبي شيبة: ج7، ص416، ح36983.
[20] أخرجه البخاري في: 56، كتاب الجهاد: 82، باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق.
[21] صحيح البخاري، الجزء: 4، حديث رقم: 3475.
[22] صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، الجزء: 1، حديث رقم: 1846.
[23] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، في الجزء: 7، حديث رقم: 3043.
[24] رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في: “الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وترك المقادير لله” (ح4816).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى