خطبة الأسبوع

خطبة الجمعة ” وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا “للشيخ عبد الناصر بليح

تحميل الخطبة

word إضغط هنا

pdf إضغط هنا

” وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ”

الحمد لله رب العالمين .. يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ..ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين ..

وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضياءها محمد صلي الله عليه وسلم جاءته امرأةٌ تسألُه عن صيامٍ نَذَرَتْهُ أُمُّها أو أُخْتُهَا، فلم تَصُمْ حتّى ماتت، فقال  صلّى الله عليه وسلّم : “أرأيتَكِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ! قال: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى”(البخاري). اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وعلي آلك وصحبك الطيبين الطاهرين ..

 

أما بعد فيا جماعة الإسلام :”

* الوفاء بالعهد خلق ملازم لأهل الجنة:

وإننا لنقف اليوم مع خُلُق مِن أخلاق القرآن، مع خُلُق نبويٍّ كريم، مع خصلة كريمة من خِصال الإيمان، وخُلُق عظيم من أخلاق الإسلام، هذا الخُلق ضاع بين المسلمين إلا مَن رَحِمَ ربِّي – عز وجل – إنه خُلق الوفاء بالعهد، وإنك لو نظرت إلى واقع الأمة اليوم، ستجد كم من الناس مَن يتكلَّم، وكم من الناس مَن يَعِد، وكم من عهودٍ مسموعة ومرئيَّة ومنقولة! ولكن أين صدق الوعود؟! وأين الوفاء بالعهود؟! فقد كثرت في زماننا هذا الوعود، وأكثر منها عدم الوفاء بها، فإذا أراد أحدُنا التهرُّب مِن أخيه، وعده بشيءٍ وهو يعلم أنه لن ينفِّذ ما وعد به، وينسى قول الله – تبارك وتعالى -: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا “(الإسراء/ 34).

 

أيها المسلمون:”

لنتصفَّح كتاب الله ولنطف في بحاره التي لا ساحل لها، سنجد أن الله – تعالى – تحدَّث عن هذا الخُلق في قرآنه المجيد، فقال ربُّنا – تبارك وتعالى عند الحديث عن  صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ”(المؤمنون/8). ، و في صفات أهل الجنة المكرمون: ” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ” (المعارج/32). ، وقال في علامات الصادقين المتَّقين :” وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ” (البقرة/ 177).

أخوة الإيمان والإسلام :

*الوفاء بالعهد من صفات الأنبياء والمرسلين:

قال تعالي متحدثاً عن سيدنا إسماعيل – عليه السلام – في سورة مريم:”وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا “(مريم: 54).

وقال – تعالى – في إبراهيم – عليه السلام -:” وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى “(النجم/37 ).

فالوفاء بالعهد من علامات الصادقين المتَّقين، ومن صفات الأنبياء وهو خُلق ملازم لأهل الجنة في حياتهم الدنيا؛ إذ كيف يطمع في الجنة وصحبة الأنبياء والصادقين والمتقين من لم يتخلَّق بهذا الخُلق؟!

كم من المسلمين في دنيا اليوم من يحدِّث وهو كاذب! وكم من المسلمين من يَعِد وهو خائن! وكم أعطى من الوعود والعهود وبعدها غدر بأصحابها! فأين الوفاء بالعهد؟! ألم أقل لكم: لقد ضاع هذا الخُلق بين المسلمين إلا مَن رَحِم الله – جل وعلا.

بل تعال أخي المسلم إلى سيرة مَن علَّم البشريَّة الوفاء بالعهد، إلى سيرة سيِّدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – لنأخذ  بعض المواقفً العظيمة التي جسَّد فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خُلق الوفاء بالعهد.

وفاء الرسول للوطن :

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مكة حبَّا كبيرًا، فهي بلده الذى ولد فيه، وفيها بيت الله الحرام، وعلى أرضها نزل الوحي لأول مرة.  ولما اشتد إيذاء المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته فى مكة، أمره الله -تعالى- بالهجرة إلى المدينة.

فلما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة نظر إليها نظرة المحب الوفى، وأخذ يودِّعها، وهو يقولوالله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أُخرجت منك ما خرجت..

وبعد ثمانى سنوات، كتب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يعود إلى مكة فاتحًا ومنتصرًا، بعد أن اضطر إلى الخروج منها، فدخلها النبى صلى الله عليه وسلم فرحًا مسروراً، وعفا عن أهلها برغم ما فعلوه معه.

وهكذا يكون الوفاء للوطن، والمسلم يكون محبَّا لوطنه، حريصًا على مصلحته، وفيَّا له.

الوفاء حتي مع العدو :

قبل غزوة “بدر” يخبره حذيفة بن اليمان، والحديث في “صحيح مسلم”: أن كفَّار “قريش” قد أخذوه قبل أن يدخل المدينة هو وأبا حُسَيل، فقالوا إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عَهْد الله وميثاقه لننصرفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معك يا رسول الله.

فماذا قال لهما صاحب الوفاء يا تُرى؟ ماذا قال لهما مَن بعثه الله ليتممَ به مكارم الأخلاق؟ ومع أنه كان في أشد الحاجة إلى الرجال ليقاتلوا معه ضد المشركين، المشركين الذين أخرجوه من مكة، الذين سفكوا دماء المسلمين واستحلوا أموالهم، وعذبوهم أشد العذاب، وبالرغم من كلِّ هذا، قال لهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “انصرفَا نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعين الله عليهم”

وفى العام السادس الهجرى، عقد المشركون مع المسلمين صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أنه إذا أسلم أحد من المشركين، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رده إلى قومه.

وبعد عقد الصلح مباشرة، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو- رضى الله عنه-وأعلن إسلامه، فلما رآه أبوه قام إليه وعنفه، ثم طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد أبا جندل؛ تنفيذًا لشروط الصلح فوافق صلى الله عليه وسلم .

فقال أبو جندل- رضى الله عنه-:”يا معشر المسلمين، أأُرد إلى المشركين يفتنونى عن دينى؟ فأخبره صلي الله عليه وسلم بالعهد الذي أخذه علي نفسه, وأنه يجب عليه الوفاء به، فقاليا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، وإننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلْحًا.

إن كان هذا هو وفاء المسلمين للمشركين، بل للمشركين المحاربين وفي الحرب نفسها، فكيف يكون وفاءُ المسلمين للمسلمين؟!

وفاء الرسول لزوجاته :

كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مَضرِب المثل في الوفاء، والآيات شاهدة على ذلك، والمواقف حافلةٌ بذلك، وما حديثنا نحن – ومَن نحن؟! – عن وفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو هو؛ صاحبُ المقام الأعظم، والدرجةِ العليا – إلا تذكيرًا للمؤمنين؛ قال الله عز وجل: ” وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ “(الذاريات/ 55).  وتنبيهًا للغافلين؛ للرجوع إلى هديِ خير المرسلين، وإمام المتقين عليهم جميعًا أفضل صلاةٍ وأتمُّ تسليم.

فمِن وفائه لزوجاته: وفاؤه لخديجةَ رضي الله عنها:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: استأذنت هالةُ بنت خويلدٍ، أختُ خديجةَ، على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فعرَف استئذانَ خديجة، فارتاعَ لذلك، فقال: “اللهمَّ هالة”  قالت: فغِرتُ، فقلتُ: ما تَذكرُ مِن عجوزٍ من عجائزِ قريش، حمراءِ الشِّدقين، هلكَت في الدهر، قد أبدلَك الله خيرًا منها؟!(البخاري ومسلم ). .

وفي رواية أخري عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجةَ، وما رأيتُها، ولكن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرَها، وربما ذبَح الشاةَ ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائقِ خديجةَ، فربما قلتُ له: كأنه لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: (إنَّها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد”(البخاري).

وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكَر خديجة أثنى عليها، فأحسنَ الثناء، قالت: فغِرتُ يومًا، فقلتُ: ما أكثرَ ما تذكرُها، حمراءَ الشِّدق، قد أبدلَك الله عز وجلَّ بها خيرًا منها! قال: ((ما أبدلَني الله عز وجلَّ خيرًا منها؛ قد آمنَت بي إذْ كفَر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرَمني أولادَ النساء”(أحمد).

عن أبي زُرعة، قال: سمعتُ أبا هريرة، قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجةُ قد أتَتك، معها إناءٌ فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السَّلام من ربها عزَّ وجل، ومنِّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصَب، لا صخَب فيه ولا نصَب”(مسلم).

وتقول السيدة صفية -رضي اللَّه عنها-: دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد بلغنى عن عائشة وحفصة قولهما: نحن أكرم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها، نحن أزواجه وبنات عمه، فذكرت له ذلك، فقال : “ألا قُلتِ: وكيف تكونان خيرًا مني؛ وزوجى مُحمد، وأبى هارون وعمى موسى”(الترمذي).

 

وفائه صلي الله عليه وسلم لأبنائه :

إن المتأمل في شريط السيرة النبوية يجدها ملأى بأحداثٍ ووقائع توقظ في النفس شعور الحنين لرؤيته صلى الله عليه وسلم، والإحساس بالغِبْطةِ تجاه الصحابة الذين جالسوه، واغترفوا من علمه، واستضاءوا بنور هديه , ووفائه العظيم تجاههم .

ومن المشاهد التي العظيمة في وفائه صلى الله عليه وسلم: تعدُّدُ المواقف التي سالت فيها دموعه الشريفة.

كما ذرفت عيناه على قبر أمه، وابنته أم كلثوم، وعند رؤيته لقلادة أمِّنا خديجة رضي الله عنها، وغيرها كثير من المحطات التي سالت فيها عَبَرات النبي صلى الله عليه وسلم!

أما المحطة الأساس التي هدتني إلى المحطات السابقة، فهي بكاؤه صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه إبراهيم، وذلك من خلال مدارستي لكتاب “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم” لكاتبه “محمد رضا”، وقد آثرتُ تناولَ هذا المشهد من خلال زاويتين: عاطفية وجدانية، وعقائدية.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظِئْرًا لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم يجودُ بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان! فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”(البخاري).

 

وهذه هي سيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه ولدت قبل البعثة عام تجديد الكعبة وكانت تعرف بأم أبيها ترعرعت فاطمة في بيت نبوي رحيم. يكلؤها بالرعاية، ومما تتمتع به أمها خديجة بنت خويلد من صفات زكية وسجايا حميدة.

قال صلى الله عليه وسلم: “أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم”. وقد ورد أيضا أنه قال: إن ملكا استأذن الله تعالى في زيارتي وبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أمتي..

.. ومن شدة وفائه لها لم يرضي أن يتزوج عليها علي من بنت عدو الله فعن الْمِسْوَر بْنَ مَخْرَمَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ لَهُ : إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحًا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ .

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ :” أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي ، وإِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا ،وَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا .قال فترك علي الخطبة “(البخاري ومسلم).

 

 

ولقد بلغ من حب رسول الله لابنته فاطمة ووفائه لها أنه كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيصلي ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه. تقول عائشة رضي الله عنها: “ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها، فقبلها، ورحب بها، وكذلك كانت هي تصنع به”( مسلم ).

لقد مرت السيدة فاطمة- رضي الله عنها- بأحداث كثيرة ومتشابكة وقاسية للغاية وذلك منذ نعومة أظفارها حيث شهدت وفاة أمها، ومن ثم أختها رقية وتلتها أختها زينب ثم أختها أم كلثوم.واحتملت حياة الفقر وكابدت بل كانت مثال الفتاة الصابرة المرابطة المهاجرة ولما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن سمعت فاطمة بذلك حتى هرعت لتوهما لتطمئن عليه وهو عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فلما رآها هش للقائها قائلا: مرحبا يا بنيتي، ثم قبلها وأجلسها على يمينه أو عن شماله- ثم سارها فبكت بكاء شديدا، فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت. فقلت لها – أي عائشة – خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر نسائه بالسرار، ثم أنت تبكين؟ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره. قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بمالي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله. قالت: أما الآن فنعم. أما حين سارني في المرة الأولى. فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضه الآن مرتين وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك. قالت فبكيت بكائي الذي رأيت: فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟ وأنك أول أهلي لحوقا بي؟ فضحكت. واشتد الوجع على رسول الله واشتد حزن فاطمة فلما دفن عليه السلام قالت يا أنسي كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب. وبكت الزهراء أبيها، وبكى المسلمون جميعا نبيهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وذكروا قول الله (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل”(آل عمران: 144(.

ولم تمض على وفاة رسول الله حوالي ستة أشهر حتى مرضت وانتقلت إلى جوار ربها ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي بنت سبع وعشرين سنة، لقد ضربت لنا الزهراء نموذجا فريدا ومثلا أعلى في حياتها.

 

وفاء الصحابة رضوان الله عليهم :

وقد تعلم الصحابة من رسول الله صلي الله عليه وسلم الوفاء بالعهد  وهذا سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي علَّم الأمة كيف يكون الانقياد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – واسمعوا إلى موقفه الذي ترجم فيه خُلق الوفاء بالعهد.

يرسل إليه أبو عبيدة بن الجرَّاح يستفتيه في فتوى غريبة جدًّا، ويقول له: إنَّ أحد الجنود قد أمَّن قرية من بلاد العراق على دمائهم وأموالهم وهي في طريقنا، فماذا نصنع؟

وتأمَّل معي في هذا الموقف الغريب: جندي – لا يُعرف اسمه – من جيش المسلمين يُعطي الأمان لقرية بأكملها، وربَّما هذه القرية إن لم تفتح فقد تكون ثغرة عظيمة يتضرَّر بها المسلمون كثيرًا إذا انقلبت عليهم.

فبماذا أجابه الفاروق عمر – رضي الله عنه؟ قال بعد حمد الله والثناء عليه: “إن الله – تعالى – قد عظَّم الوفاء، ولا تكونون أوفياء حتى تفوا، فأوفوا لهم بعهدهم واستعينوا الله عليهم”.

ما أبدع هذه العبارة! وما أروعها لمن فَهِم معناها! فالوفاء كباقي الأخلاق ليس شعارًا يرفع في السماء ولا كلمة تطير في الهواء، ولكن الوفاء خُلق لن يتحقق إلا إذا أتيت به وتحمَّلت في سبيل إتيانه كلَّ شيءٍ.

بهذه الأخلاق فتح المسلمون بلاد الفرس وبلاد الروم، وإسبانيا وفرنسا وغيرها،

أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، قال عمر: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، وانظروا إلى سيدنا عمر لم يسأل عن أسرة هذا الرجل، هل هو من قبيلة قويَّة أو ضعيفة؟ هل هو من أسرة معروفة ولها أهميَّة في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر – رضي الله عنه – لأنه لا يجامل أحدًا على حساب شرع الله، ولو كان ‏ابنه ‏القاتل لاقتصَّ منه.

قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد ‏أن تتركني ليلة؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا؛ إنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وهي كفالة ليست على مائة دينار، ولا على عقار، ولا على ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف.

فسكت الناس وعمر مُتأثر؛ لأنه ‏وقع في حيرة، هل يقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول؟ وسكت الناس ونكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍٍ، يُهيِّئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل، وبعد ثلاث ليالٍ لم ينسَ عمر الموعد، وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعة على غير عادتها، وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك.

قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالوا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين..أما بعد فيا جماعة الإسلام .

إن الوفاء بالعهد من علامات الصادقين المتَّقين، ومن صفات الأنبياء، وهو خُلق ملازم لأهل الجنة في حياتهم الدنيا؛ إذ كيف يطمع في الجنة وصحبة الأنبياء والصادقين والمتقين مَن لم يتخلَّق بهذا الخلق؟! فليت المسلمين اليوم يتخلَّقون بهذا؛ كي يفوزوا بخير الدنيا والآخرة.

أخوة الإيمان والإسلام :

ودين الله تعالي أحق بالوفاء :

عباد الله!…لا يزال أهل المُرُوءَةِ مِن النَّاسِ يَهْتَمُّون لأَمْرِ الدَّيْنِ والدُّيُون الّتي تكونُ فيما بينهم وهي من مُقتضى معاملاتهم، ولا يختلفون في أنّ الّذي يُطالب بالدَّين الّذي لهُ على صاحبه ما قال إلَّا حقًّا، كما لا يشكُّون في أنَّ جَحْدَ هذا الحقِّ والتَّنكُّرَ لأهلِهِ وعَدَمَ الوفاء لهم هو فسادٌ كبيرٌ، وأنَّ الصَّلاح في تَوْفِيَةِ الحقِّ لأهله، وقضاءِ الدَّيْنِ الّذي لهم.

عباد الله!… هذا وأعظمُ الحقوق وأعلى الدُّيُونِ دَيْنُ الله.

جاءت امرأةٌ تسألُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عن صيامٍ نَذَرَتْهُ أُمُّها أو أُخْتُهَا، فلم تَصُمْ حتّى ماتت، فقال صلّى الله عليه وسلّم : “أرأيتَكِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ! قال: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى”، “فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ”، “أُقْضُوا اللهَ…” أي:حقَّهُ ودَينَهُ، “…فإنَّ اللهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ”، ” وُفُّوه حقَّه اللَّازمَ عليكم من فرضٍ ودينٍ وغيرهما، “فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاء  لهُ بالإيمانِ والطّاعات والواجبات”(البخاري).

ودَيْنُ اللهِ هو الدِّينُ الّذي أَمَرَ بِهِ …. والدِّينُ هو معاملةُ العبد بينه وبين ربِّه، والدِّين هو الحقُّ الّذي للهِ على عباده، وهو الّذي يُطالبهم به سبحانه؛ أن يُؤدُّوه إليه ويُوفُّوه إيَّاه، وسيأتي يومٌ يطالبهم فيه بالدَّين الّذي أمرهم به. في ذلك اليوم سَيَمْتَازُ من كان قد وفَّى الدَّيْنَ الّذي عليهِ ممّن لم يُوفِّهِ، وسيَمْتَازُ مَن قامَ بما أُمِرَ بهِ ممّن لم يقُم بِهِ! وقد أثنى اللهُ تعالى على عَبْدِهِ وخليلِهِ إبراهيمَ (عليه السّلام) بقولِهِ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾[النّجم: 37]، فالخليلُ وفَّى ما عَلَيْهِ وقامَ بما كُلِّفَ بهِ، فهل نحنُ عبادَ الله! سنجتازُ الامتحانَ؟ وهل نحنُ وفَّينَا ما علينَا وقُمْنَا بتأديةِ حقِّ اللهِ؟

 

عباد الله!…أصلُ الدِّين الّذي أُمرنا به هو إخلاصُ العبادة لله تعالى، إخلاصُ الدِّين لله سبحانه، هو أن يكون الدِّينُ (أي: العبادةُ) لله عزّ وجلّ وحده. وإقامةُ الدِّين على هذا المعنى هو حقُّ الله تبارك وتعالى علينا، فمَن عَبَدَ اللهَ وحده، مَن وَحَّدَ خالقه وتَوجَّهَ إليه بالعبادة وحده، فقد أقامَ الدِّين، ووفَّى الدَّيْنَ الّذي عليه، قال تعالى:”وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”(الذاريات/56).  أي: ليُوحِّدون، فعبادةُ الله وحدَهُ هي التَّوحيدُ الّذي خُلِقْنَا لهُ، «يقولُ اللهُ: إنَّما خَلَقْتُهُم لآمُرَهُمْ بعبادَتِي، لا لاحْتِيَاجِي إليهم»[3]. وقال تعالى: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ”(الإسراء/23).، أي: وَصَّى وأَوْجَبَ وأَلْزَمَ وحَكَمَ، فهو أَمْرٌ وإِلْزَامٌ وإِيصَاءٌ قَاطِعٌ بأَنْ نَقْتَصِرَ على عبادةِ الله، وهو التَّوحيدً وإخلاصُ العبادة.

وقال تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ”[البيّنة: 5]، وقال تعالى: “فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ”(الزّمر/ 2-3).، “فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ”؛ أي: اعْبُدْهُ “مُوَحِّدًا لا تشركُ بهِ شيئًا”  فَـ”الطّاعةُ والعبادةُ لا يَسْتَحِقُّها إلّا الله تعالى” أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ”؛ أي: التَّوحيد الصَّافي من شَوَائِبِ الشِّرْكِ، لأنّه ـ أي: التّوحيدُ ـ هو الّذي أَمَرَ اللهُ بهِ.

وقال: “قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي”)الزّمر/ 11-14(.

أخوة الإسلام :”

الوفاء بالعهد حالة حضارية صحية ، حيث ان نظام المجتمعات متوقف على الوفاء بالالتزام التعاقدي ، فهذا يجعل المجتمعات يسودها الأمن والاستقرار والازدهار والوعي ، وبـ عكسه تعم الفوضى وضياع الإنسان..

فالاحترام التعاقدي يشمل كل الأبعاد الحياتية ، كالبعد الأخلاقي والبعد الحربي والبعد المدني وهكذا كل الأبعاد يدخل فيها الالتزام التعاقدي

إذن الوفاء بالعهد يترتب عليه بناء صرح الدولة وبناء صرح المجتمع وبناء الصرح الأخلاقي عند الإنسان ، وعلى هذا النحو رفع رسول الله صلى الله عليه وآله شعار: “إنّما بُعُثتُ لإُتَمم مكارَم الأخلاق” ، لقد حاول جاهداً بناء مجتمع فاضل يتحمل المسؤولية في التقدم والنمو الحضاري والأخلاقي .

واستطاع (صلّى الله عليه وآله) أن يبني مجتمعاً متماسكاً تسوده المحبّة والأمان، وزرع لدى الإنسان المسلم شخصية فريدة من نوعها بين المجتمعات الأخرى .

 

اللهم اجعلنا من المخلصين للأمانة مؤدين للعهد راعين ..يارب العالمين ..

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى