الخطبة المسموعةخطبة الأسبوععاجلمصــر
خطبة بعنــــوان: “فما ظنكم برب العالمين (صناعة الأمل)” للدكتور/ محمـد حسن داود
خطبة بعنــــوان: “فما ظنكم برب العالمين (صناعة الأمل)” للدكتور/ محمـد حسن داود
الشيخ محمد حسن داود
(3 رجب 1446هـ – 3 يناير 2025م)
العناصـــــر :
الأمل ومكانته، ودعوة القرآن والسنة إليه.
الأمل في حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام).
المؤمن أوسع الناس أملا وأكثرهم تفاؤلا واستبشارا.
الأمل والاجتهاد في العمل قرينان (مع عام جديد، وشهر من الأشهر الحرم)
دعوة إلى الأمل والتفاؤل .
الموضــــــوع: الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن الحياة الدنيا متقلبة الأحوال، لا تستقيم على حال، فكما فيها الخير فيها الضر، وكما فيها السرور فيها الحزن، لكن يبقى الأمل شعاعا يضيء دياجير الظلام، يحطم جدران الحزن والألم؛ فما أغرى التاجر أن يغامر بماله إلا أمله في الأرباح، وما جعل الإنسان يسعى ويعمل إلا أمله في الرزق، وما دفع الزارع أن يلقى البذور في الطين إلا أمله في حصاد الثمار، وما بعث في الطالب الجد والاجتهاد إلا أمله في النجاح، وما حبب الدواء المر إلى المريض إلا أمله في الشفاء، وما كان العبد في مخالفة لهواه وطاعة لمولاه إلا أمله في الفوز بجنة الله ورضاه، وما أكثر المذنب من الندم والرجاء إلا أمله في العفو والغفران، ولله در من قال:
اعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها *** ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
فالأمل قوة عظيمة تشرح الصدر للعمل، وتبعث النشاط في الروح والبدن، تدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة، هو للإنسان شعاع يضيء الظلمات، وينير المعالم، ويوضح السبل، تنمو به شجرة الحياة، يرتفع به صرح العمران، يذوق به المرء طعم السعادة، يستشعر به بهجة الحياة، وكفى أنه يبعث في القلوب حسن الظن بالله (عز وجل)، ولقد جاء في الحديث القدسي: “أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فله” (رواه ابن حبان). وعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال:” وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) ظَنُّهُ ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ” .
والناظر في القرآن الكريم يرى دعوته إلى الأمل ونبذ اليأس والإحباط جلية في أسمي وأرقي المعاني، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال سبحانه: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 87)، كما كان النبي (صَلى الله عليه وسلم) حريصا على أن يبث روح الأمل في قلوب أصحابه مما يدعونا إلى التحلي بهذه القيمة العظيمة؛ إذ يقول صَلى الله عليه وسلم: “يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا” (متفق عليه).
ولقد ضرب لنا الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أروع الأمثلة في التحلي بالأمل؛ أمرا يدعونا إلى أن نمتثل هذه القيمة النبيلة،
فهذا سيدنا أيوب (عليه السلام)، رغم ما كان به من داء إلا أنه لم يفقد الأمل في الشفاء، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83 -84).
وهذا سيدنا يونس (عليه السلام)، وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت، لم يكن ليفقد الأمل وهو على يقين تام بأن الله (جل وعلا) يسمعه ويراه ويعلم ما به؛ قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء: 87- 88).
وهذا نبي الله يعقوب (عليه السلام)، يفقد ابنه يوسف (عليه السلام)، ثم أخاه، فيصبر على محنته وبلواه، إذ لم يترك لليأس مجالا فيثبطه، بل تفاءل ورجا أن يجد لمحنته مخرجا، فقال بقلب مملوء باليقين، وإحساس الصابرين المتفائلين (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) (يوسف: 83)، وما أجمله من تفاؤل وأمل، تعززه الثقة بالله حيث قال تعالى حكاية عنه: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) (يوسف:86- 87) ثم تأتى البشارة، قال الله (جل وعلا): (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (يوسف:94-96).
وهذا نبي الله زكريا (عليه السلام)، مع أنه بلغ من الكبر عتيا إلا أنه لم يفقد الأمل في الإنجاب، فتوجه إلى الله داعيا أن يتحقق الأمل (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) (مريم: 4-5)، فكانت الاستجابة: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (مريم: 7).
كما ملأ الأمل حياة النبي (صلى الله عليه وسلمَ)، حتى رسّخه مبدأً ساميًا، وقيمة نبيلة، حرى بنا أن نعلى من مكانتها في قلوبنا، بل في جميع مناحي حياتنا، فعن ابنِ عَبَّاسٍ (رضي اللهُ عنهما) قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَيُعْجِبُهُ الاسْمُ الْحَسَنُ” (رواه أحمد) وعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ (رضي اللهُ عنه): أَنَّ النَّبِيَّ (صلى اللهُ عليه وسلم): قَالَ: “يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ” (رواه البخاري ومسلم)، وما كان في الغار ساعة الهجرة يقول عنه سيدنا أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق (رضي الله عنه): كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: “مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا” (رواه البخاري).
إن الأمل والإيمان بينهما علاقة وطيدة ورباط وثيق؛ فالمؤمن أوسع الناس أملا وأكثرهم تفاؤلا واستبشارا،
فإذا أَعْسَرَ أو ضاق به أمر، لم ينقطع أمله في اليُسْر والفرج؛ فقد قال تعالى: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح: 5-6) ويقول عز وجل: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7) ويقول رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): “وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” وفي الأثر عن ابن مسعود (رضي الله عنه): ” لو كان العُسْرُ في جُحرٍ لتَبِعَهُ اليُسْر، حتى يَدخُلَ فيه فَيُخْرِجَه، ولن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَيْن”.
وإذا سعى، لم ينقطع أمله في الرزق؛ قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ “.
وإذا مرض فلا ينقطع أمله في الأجر والعافية؛ قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 78-80) وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ “مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ” (رواه مسلم) .
وإذا دعا الله لم ينقطع أمله في الإجابة؛ قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، ويقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ لَيَسْتَحِي مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْن” (مستدرك الحاكم).
وإذا اقترف ذنباً، لم ينقطع أمله في العفو والمغفرة؛ قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
وإذا تقرب إلى الله لم ينقطع أمله في محبته، ففي الحديث القدسي: “وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ…” (رواه البخاري).
وإذا حدث له ما يحبسه عن عمل صالح داوم عليه لم ينقطع أمله في الأجر، فعن أبي مُوسَى الأَشْعري (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قال: قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): “إَذا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ له ما كان يَعْمَلُ صَحِيحًا مقيمًا” (رواه البخاري) . فكان المؤمن على خير في كل الأحوال، لحسن ظنه بالله الواحد المتعال.
غير أن الأمل بلا عمل أمل أجوف؛ فان الآمال الصادقة هي المقرونة بالاجتهاد في العمل، فتدبر قول النبي (صَلى الله عليه وسلم): ” إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا”، في إشارة هامة إلى عدم ترك أبواب السعي والكسب والتقدم والرقي حتى في أحلك الظروف، كذلك تدبر قوله لسيدنا ربيعة بن كعب الأسلمي (رضي الله عنه) لما قال سيدنا ربيعة: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. إذ قال له “فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ” (رواه مسلم)، أي عليك بالاجتهاد في العمل كي يتحقق الأمل. ولله در من قال:
وليسَ أخُـــــو الحاجاتِ مَنْ باتَ نَائِما *** ولكــــــنْ أخُــــوها مَنْ يبِيتُ على وَجَل
الجَدُّ في الجدِّ والحِرمانُ في الكَسَــــلِ *** فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأمـــــلِ
لاسيما ونحن في بداية عام جديد، وفي شهر من الأشهر الحرم، شهر رجب، إذ يقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): “إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ “(رواه البخاري ومسلم)، ومن ثم فحري بالعبد أن يعمرها بما يرضي الله (عز وجل)، فيما ينبغي أن نعلم أن الأعمال الصالحة لا تقف عند باب، فطرق الخير كثيرة، وأبواب البر مشرعة مفتحة.
كما يجدر بالعبد البعد عن الذنوب والآثام وما فيه معصية؛ فإن كانت المعصية قبيحة في كل وقت فإنها في هذه الأشهر أشد، وعلى الجانب الآخر إن كان العمل الصالح في غيرها له أجر عظيم، ففي هذه الأشهر أعظم، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: “اختص الله (سبحانه وتعالى) أربعة أشهر جعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم”.
إن لسان حال العام الجديد، ولسان حال رجب في دعوة عظيمة إلى اغتنام جميع الأيام والأوقات بالعمل والكسب والسعي والتقدم والرقي في كل جوانب الحياة، هذا من جانب، ومن آخر بالعبادات والطاعات والقربات إلى رب البريات، فالأيام سرعان ما تمر، والشهور سرعان ما تنقضي، كنا بالأمس القريب نستقبل هذا العام الذي ودعناه، فيجدر بنا أن نغتنم ما استقبلناه، وإن كان من رحمة الله (عز وجل) وكرمه وجوده أن تفضل علينا فبلغنا شهر رجب، وهو من شهور البركات والنفحات والخيرات كما قال أبو بكر الوراق البلخي: “شهر رجب شهر للزرع، وشعبان شهر السقي للزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع”، فلا ينبغي لنا إلا أن نكون في طاعة وتقرب إلى الله (عز وجل) بصالح الأعمال.
يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ (تَعَالَى) مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ” (مستدرك الحاكم)، وكما مدح الإسلام الأمل وأهله؛ ذم اليأس والإحباط وأهله؛ إذ إن اليأس آفة، إذا تملكت من فرد أوهنت قوته وعزيمته وأذهبت همته، وكفى فيه قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم (عليه السلام): ( قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 6)، وما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، أَنَّ رَجُلا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : “الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِياسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ”.
كما ذم النبي (صَلى الله عليه وسلم) من يسلب الأمل من قلوب الناس ويثبطهم ويزرع اليأس في قلوبهم؛ فقَالَ: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ “وفي رواية أخرى” فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ” (بضم الكاف وفتحها، ورواية الضم أشهر، ولكل منهما معنى).
فاللهم حقق آمالنا
وبارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان
واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء
محمد حســـــــن داود
إمام وخطــيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن