خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: أخلاق الحج وأثرها في قبول العمل، للدكتور خالد بدير، بتاريخ: 23 ذو القعدة 1437هـ – 26 أغسطس 2016م

خطبة بعنوان: أخلاق الحج وأثرها في قبول العمل، للدكتور خالد بدير، بتاريخ: 23  ذو القعدة 1437هـ –  26 أغسطس  2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي: 

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: أهمية الأخلاق ومكانتها في الإسلام

العنصر الثاني: أثر الحج والعبادات في تهذيب الأخلاق والسلوك.

العنصر الثالث: علاقة الأخلاق بقبول الحج والعبادات

     المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: أهمية الأخلاق ومكانتها في الإسلام

عباد الله: للأخلاق أهمية كبرى في الإسلام، ولو نظرنا إلى الدين الإسلامي لوجدناه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقيدة وتتمثل في توحيد الله تعالى، وشريعة: وتتمثل في العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، وأخلاق: وتتمثل في الأخلاق الفاضلة في التعامل مع الآخرين. وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة يمثل ثلث الإسلام، فالعقيدة تمثل ثلث الإسلام، لذلك كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لاشتمالها على الجانب العقدي، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ” (متفق عليه )، وكذلك العبادات تعدل ثلث الإسلام، والأخلاق- التي يظن البعض أن لا علاقة لها بالدين – تعدل ثلث الإسلام، بل الإسلام كله كما سيأتي مفصلاً.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الهدف من بعثته هو غرس مكارم الأخلاق في أفراد المجتمع حيث قال:” إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمَّمَ صالحَ  الأخلاقِ” [أحمد والبيهقي والحاكم وصححه]. قال المناوي:”  أي أُرسلت لأجل أن أكمل الأخلاق بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد التفرقة.” ( فيض القدير ).

وقد وقف العلماء عند هذا الحديث قائلين: لماذا حصر النبي بعثته في مكارم الأخلاق مع أنه بعث بالتوحيد والعبادات وهي أرفع منزلة وأهم من الأخلاق؟!!

والجواب: أن التوحيد والعبادات شرعت من أجل ترسيخ مكارم الأخلاق بين أفراد المجتمع، فالغاية والحكمة الجليلة من تشريع العبادات هي غرس الأخلاق الفاضة وتهذيب النفوس؛ كما هو معلوم في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها كما يأتي مفصلاً في العنصر الثاني.

ولأهمية الأخلاق أصبحت شعاراً للدين ( الدين المعاملة ) فلم يكن الدين صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا غير ذلك.

قال الفيروز آبادي -رحمه الله تعالى-: “اعلم أن الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق؛ زاد عليك في الدين”.

لذلك عد حسن الخلق من كمال الإيمان فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا.” [أحمد وأبوداود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح]. قال المباركفوري: ”  أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا : لأن كمال الإيمان يوجب حسن الخلق والإحسان إلى كافة الإنسان، ( وخياركم خياركم لنسائهم ): لأنهن محل الرحمة لضعفهن.”

ولأهمية الأخلاق كان حسن الخلق طريقاً إلى الجنة كما أن سوء الخلق طريق إلى النار، وفي السنة شواهد كثيرة على ذلك:

فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ”[ الطبراني وأبوداود والبيهقي والألباني في الصحيحة ]؛ وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ” [ الترمذي؛ والسلسلة الصحيحة – الألباني ]

وعَنْ أَبِي الدرداء -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم ” مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ” (أحمد وأَبُو دَاوُدَ وصححه الألباني)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ:” تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ” وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ:” الْفَمُ وَالْفَرْجُ” [أحمد والترمذي وابن ماجة؛ والسلسلة الصحيحة – الألباني ]، كما أن خلقاً واحداً من بين سائر الأخلاق قد يكون سبباً في دخولك الجنة، فعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي” (مسلم)؛ فهذا الرجل لم يعمل خيراً قط سوى خلقٍ واحدٍ فكان طريقاً له إلى الجنة فما بالك لو تحليت بمكارم الأخلاق كلها؟!!

لذلك اهتم الصحابة بحسن الخلق وطلبه من الله، فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : بَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ : ” اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي، حَتَّى أَصْبَحَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا كَانَ دُعَاؤُكَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ إِلا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، قَالَ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ” (شعب الإيمان للبيهقي؛ والبخاري في الأدب المفرد وضعفه الألباني)

عباد الله: ولأهمية الأخلاق ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً يغرس مكارم الأخلاق في نفوس أفراد المجتمع ويدعوهم إلى نبذ الشرك وسوء الأخلاق؛ وهذا ما تتحدث عنه جميع السور المكية؛ ففي الفترة المكية لم تنزل أحكام ولا أوامر ولا نواهي؛ وهذه هي الرسالة الأخلاقية التي صورها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة قائلاً : ” أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

فعدد عليه أمور الإسلام. ثم قال: وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى.” ( سيرة ابن هشام).

أحبتي في الله: إن حسن الخلق لا يقتصر على الناس فحسب، بل إحسانك إلى البهائم كذلك يكون سبباً في غفران ذنوبك ودخولك الجنة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ” (البخاري)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ. فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ” ( البخاري)

انظر إلى هؤلاء الأفراد جميعاً، ما فعلوا كثير صلاة أو صيام أو صدقة أو حج، ولكن كانت حسناتهم الأساسية هي حسن خلقهم الذي أدى لمغفرة الله لهم، ومن ثم دخولهم الجنة. وعلى النقيض من ذلك، انظر إلى عاقبة سوء الخلق:

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ” (متفق عليه)

وهكذا تظهر أهمية الأخلاق ومكانتها حتى أصبحت شعاراً للدين تمثله كله.

العنصر الثاني: أثر الحج والعبادات في تهذيب الأخلاق والسلوك.

عباد الله: إن الله – عز وجل – لم يشرع العبادات بكافة صورها طقوساً ولا شعائر مجردة من المعنى والمضمون، بل إن كل عبادة تحمل في جوهرها قيمة أخلاقية مطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لهذه العبادة، وأن تتضح جلياً في شخصيته وتعاملاته مع الغير، وأيضاً فيما يرسمه لذاته من إطار يحرص على الالتزام به ولا يحيد عنه؛ وهذا ما نلمسه في فريضة الحج خاصة والعبادات كلها عامة.

أحبتي في الله: إن كثيراً منا يخطئ حينما يفصل العبادة في الإسلام عن السلوك والأخلاق، ولم يصبح هدف البشر الآن إلا التعبد دون أدنى اهتمام بتحقق الثمرة المرجوة من العبادة، ألا وهو حدوث تزكية النفس!! ودائما تُقرن نصوص القرآن والسنة الكلام عنهما.

ولو طوفنا حول جميع العبادات لوجدنا الهدف منها هو تهذيب الأخلاق وتزكيتها، فالزكاة المفروضة- مثلاً – ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولاً غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: ” خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ” [التوبة/103]، فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى، والناظر في هذه الآية يرى أن فيها بياناً لأثر الزكاة على المزكي من حيث تهذيب نفسه وإصلاحها، والمقصود هنا تطهيرهم من ذنوبهم التي لا بد أن تقع منهم، حيث الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، ومعلوم أن الخطايا قد تكون مادية كما تكون معنوية، ومن جملة الخطايا المعنوية البخل والشخ، وقد ذمهما الله تعالى، حيث قال عز وجل، “هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ”( محمد: 38 )، ويقول الله تعالى: “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” ( الحشر: 9 )، حيث البخل والشح قيمتان سلبيتان في نفس الإنسان، بوجودهما لا يمكنه أن يمد يد العون لغيره من المحتاجين، فينتج عن ذلك آثار سلبية أخرى في نفوس هؤلاء المعوزين، حيث يرمقون هذا الغني البخيل بعين الغيظ والحنق والحسد، والحقد على من أعطاه الله من ماله، وحبس حق هذا المال عن عياله، فالخلق عيال الله كما ورد في الحديث القدسي، وعلى ذلك يسود المجتمع بخل وشح وتقتير، وحبس لحقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وحنق وحسد وغيظ، وكل هذه صفات نهى الشرع عنها، لأنها كفيلة على قلتها أن تفتت كيان المجتمع، وأن تحل عرى الوفاق بين أفراده، فمجتمع لا يسوده الحب والوئام، هو مجتمع ضعيف هزيل، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أي شر أو أذى، ثم إنه لا يستطيع أن يكون له دور في ترقيه الحياة والسمو بها.

ومن أخلاق الزكاة أيضاً النهي عن المن في العطاء، فإذا أعطيت المحتاج مالا ثم مننت عليه، فقد أبطلت صدقتك، وهكذا تكون للزكاة علاقةٌ وطيدة بغرس القيم والأخلاق والتراحم بين أفراد المجتمع ولهذه الغاية العظمي فرضت زكاة الفطر في رمضان، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ” [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ] ، وكل هذه معاني وأخلاق نبيلة يطهر بها الشرع أفراده ظاهراً وباطناً.

وفي الصلاة، تأتي الحكمة العليا منها في قوله تعالى: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ” (العنكبوت: 45) فأنت مأمور في أداء الصلاة في جماعة، لكي تحتك بالناس وتتفاعل معهم وتربطك بهم صلات وتواد وتراحم، فضلاً عن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالفحشاء والمنكر هما جماع الأقوال البذيئة والأفعال السيئة، وهما لا يظهران إلا في التعامل مع الناس في المجتمع. 

وفي الصيام نعلم أن رمضان هو شهر الأخلاق ومدرستها، فهو شهر الصبر، وشهر الصدق، وشهر البر، وشهر الكرم، وشهر الصلة ، وشهر الرحمة ، وشهر الصفح ، وشهر الحلم، وشهر المراقبة، وشهر التقوى، وكل هذه أخلاق يغرسه الصوم في نفوس الصائمين وذلك من خلال قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ( البقرة : 183) ، بكل ما تحمله كلمة التقوى من دلالات ومعان إيمانية وأخلاقية، ويربي الرسول صلى الله عليه وسلم الصائمين على أرفع القيم الخلقية وأنبلها حيث يقول: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ” (البخاري ومسلم)، فالصوم جنة أي وقاية من جميع الأمراض الخلقية، ويفسره ما بعده ” فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ” فإن اعتدى عليك الآخرون بسبٍّ أو جهل أو أذى فقل: ” إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ” وليس هذا على سبيل الجبن والضعف والخوَر؛ بل إنها العظمة والسمو والرفعة التي يربي عليها الإسلام أتباعه، وسواء كان هذا القول تلفظاً صريحاً، أو كان تذكيراً داخليا لنفسه بأنه صائم، فكلاهما فيه: تذكير النفس بحفظ الصيام من اللغو الذي قد يفسده، وفيه نوع من أنواع الصبر الكثيرة التي تجتمع في الصيام. والمعني: إني في غاية التقوى والتحلي بأخلاق الصيام ، ولا ينبغي لي أن أفسد صومي بالرد عليك بهذه الأقوال البذيئة، فإذا حاول إنسان استفزازك بما يحملك على رد إساءته، ومقابلة سبِّه بسب، فعليك أن تدرك أن الصوم يحجزك عن ذلك لأنه جنة ووقاية من سيء الأخلاق.

وفي الحج الذي نتعايش مع قيمه وأخلاقه في هذه الأيام؛ نجد أن القرآن يغرس أسمى المعاني الأخلاقية في نفوس الحجاج والمعتمرين من خلال قوله تعالى: “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ” [البقرة/197]، ” والمعنى : أوقات الحج أشهر معلومات فمن نوى وأوجب على نفسه فيهن الحج وأحرم به فعليه أن يجتنب الجماع للنساء ودواعيه؛ وأن يبتعد عن كل قول أو فعل يكون خارجاً عن آداب الإِسلام ، ومؤدياً إلى التنازع بين الرفقاء والإِخوان ، فإن الجميع قد اجتمعوا على مائدة الرحمن ، فعليهم أن يجتمعوا على طاعته ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .” ( التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي).

 فقد يظن الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، بل أنت مأمور بضبط الأخلاق أثناء الزحام، كما يجب عليك اجتناب الرفث والفسوق والجدال والخصام في الحج، فضلاً عن غرس قيم الصبر وتحمل المشاق والمساواة بين الغني والفقير والتجرد من الأمراض الخلقية.

إن العبادات لا يمكن أن تؤتى ثمرتها المرجُوّة إلا إذا ظهر أثرها في سلوك المرء وأخلاقه وتعامله مع الآخرين، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، ومن لم ينهه حجه وصومه عن اللغو والرفث والفسوق فما انتفع بحج ولا بصيام …..وهكذا

عباد الله: هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام ، وعرفت على أنها أركانه الأصيلة ، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها ، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق “، لأنها كلها شرعت من أجل الأخلاق كما دللنا على ذلك بشواهد صحيحة من القرآن والسنة.

فالصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام  هى مدارج الكمال المنشود ، وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه وينقى قلبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى؛ ويؤسفني ويحزنني ما نراه من انفصال وانفصام بين العبادة والسلوك ؛ فكم من أناسٍ يصلون ويصومون ويحجون ويقومون الليل وتجدهم أسوأ الناس معاملة وسلوكاً ؛ وتحضرنى قصة واقعية قرأتها مؤخراً عن أحدهم ذهب إلى المسجد فرن هاتفه بنغمة أثناء الصلاة.. فقام بعض المصلين في المسجد بشتمه وتوبيخه ونهره..فأقسم ألا يعود إلى المسجد مرة أخرى ؛ ثم ذهب إلى إحدى القهاوى فأوقع نار إحدى الشيش وكسرها بدون إرادة منه ؛ فأتى له صاحب القهوة قائلاً له: لا عليك المهم سلامتك!! فأصبح من رواد القهاوي!!

إن العبادة هي علاقة بينك وبين ربك، أما السلوك فهو علاقة بينك وبين الناس، ولابد أن تنعكس العلاقة بينك وبين ربك على العلاقة بينك وبين أفراد المجتمع، فتحسنها وتهذبها.

العنصر الثالث: علاقة الأخلاق بقبول الحج والعبادات

أيها المسلمون: إن للأخلاق علاقة وثيقة بقبول الحج خاصة والعبادات كلها عامة؛ وكما علمنا في عنصرنا السابق أن الغاية من تشريع جميع العبادات – وعلى رأسها الحج – إنما هي تهذيب السلوك والأخلاق؛ فلو تحققت هذه الغاية التى شرعت من أجلها العبادة فاعلم أنها مقبولة وإلا فلا، وإليك بعض الأمثلة:

* الصلاة ، لماذا شُرعت ؟ قال تعالى : ” وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ “( العنكبوت : 45)، فالغاية من إقامة الصلاة أن تنهك عن الفحشاء والمنكر ، فالصلاة إذاً معيار لتهذيب الأخلاق، فإذا كنت تصلي تنقر الصلاة نقراً ثم تخرج من المسجد تسب هذا وتشتم هذا وتضرب هذا ……إلخ، فاعلم أنه لا صلاة لك، لأنك لم تحقق الغاية التى شرعت من أجلها العبادة، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له !!!

* الصيام ، لماذا شُرع ؟ قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “( البقرة : 183)، فالغاية منه التقوى، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فمن صام ولم يحقق التقوى فلا صيام له، لقوله – صلى الله عليه وسلم- :” رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ” (رواه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرطهما.).

* الحج ؛ لماذا شرع ؟! ليقوم سلوكك وأخلاقك ؛ ولتمتنع عن الرفث والفسوق والجدال؛ إن فعلت ذلك رجعت من ذنوبك كأنك ولدت من جديد ؛ ” مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”. ( متفق عليه من حديث أبي هريرة). وبمفهوم المخالفة من ساءت أخلاقه ولم يعصم نفسه من الرفث والفسوق والجدال فلا غفران ولا حج له !!!

 وبهذا المقياس تستطيع أن تقيس جميع العبادات فإذا لم تحقق الغاية من العبادة، فاعلم أن العمل غير مقبول عند الله – عز وجل -.

فالعبرة ليست بكثرة الصلاة والصيام والحج وإنما المقياس الحقيقي للعبادة هو تحقيق الغاية منها وهي تهذيب السلوك والأخلاق؛ ولقد حفلت السنة النبوية المشرفة بأمثلة كثيرة لأناس كثيري العبادة والطاعة ومع ذلك لم تغن عنهم عبادتهم شيئاً؛ من ذلك ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ” [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ] فانظر كيف لم تُجدِ كثرة العبادة مع انعدام حسن السلوك والخلق!! بل انظر ماذا فعل حسن الخلق رغم قلة العبادة!!! قال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه، الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق .

ويقول ابن حبان – رحمه الله تعالى – : “الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها”

إن حسن الخلق يرفع العبد منزلة عند الله حتى يبلغ درجة الصائم القائم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]

فما أحوجنا إلى حسن الخلق الذي يحبب الآخرين فينا وفى إسلامنا وديننا .

لذلك أخى المسلم؛ وصيتى لك هى ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ – رضِي الله عنه فيما رواه الترمذي وقال: حديث حسن-: ” اتَّقِ الله حيثما كنت، وأَتْبِع السيِّئة الحسنة تَمحُها، وخالِقِ الناسَ بخلقٍ حسن “.

أيها المسلمون: إن الأخلاق الفاضلة تعصم المجتمعات من الانحلال وتصونها من الفوضى والضياع؛ لأن قوة الأمة في أخلاقها وسقوط الأخلاق هو سقوط للأمة؛ كما قال الشاعر أحمد شوقي:  

إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت …………فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقال:                       وَإِذا أُصـــيــبَ الـــقَــومُ فـــــي أَخــلاقِــهِـم………. فَـــــأَقِـــــم عَـــلَـــيــهِــم مَــــأتَـــمـــاً وَعَـــــويــــلا.

وقال:                        صَـلاحُ أَمْـرِكَ لِلأَخْـلاقِ مَرْجِعُـهُ…………… فَقَـوِّمِ النَّفْـسَ بِالأَخْـلاقِ تَسْتَقِـمِ

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت؛؛

الدعاء،،،،                                                          وأقم الصلاة،،،،،                             كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

                                                                                                                                               د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى