خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان : “التسامح في دين الإسلام “، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، بتاريخ 7 من رمضان 1438هـ، الموافق 2 يونيو 2017م

خطبة بعنوان : “التسامح في دين الإسلام ، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، بتاريخ 7 من رمضان 1438هـ، الموافق 2 يونيو 2017م.

 

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

 

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:

 إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،

 

أما بعد: فيا جماعة الإسلام :

 

مفهوم التسامح في دين الإسلام:

أحباب رسول الله : ما المقصود بالتسامح:

السماحة لغة: مدلولها ما ذكر ابن فارس في معجم مقاييس اللغة أن:” السين والميم والحاء أصل صحيح يدل على سلاسة وسهولة . والمسامحة : المساهلة . وفي الحديث قال صلي الله عليه وسلم :”أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة “(البخاري).

السماحة اصطلاحا: على وجهين:الأوّل: ما ذكره الجرجانيّ من أنّ المراد بها: بذل ما لا يجب تفضّلا، أو ما ذكره ابن الأثير من أنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء .الآخر: في معنى التّسامح مع الغير في المعاملات المختلفة ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها الّتي تتجلّى في التّيسير وعدم القهر، وسماحة المسلمين الّتي تبدو في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم البعض، أو مع غيرهم من  أصحاب الفكر والمنهج الأخر.

أيها الناس :” والسماحة لا تعني الضعف والإسلام يأبى الضيم ويرفض لأتباعه الذل والهوان والمؤمن عزيز بإيمانه وإسلامه قوي بهما ، ومن يظنون السماحة والصفح والحلم والعفو ضعفا لا يدركون عظمة هذا الدين . والسماحة كبقية المعاني العظيمة التي جاء بها الإسلام كالوسطية والتيسير والعدل والعفو والصفح وغير ذلك لها ضابطها الشرعي الذي إن حادت عنه كانت عقبة كئودا في فهم طبيعة الإسلام. وقال الفاروق عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه ” لقد كنّا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذاابتغينا العزة بغيره ِ أذلنا الله

أيها الناس : إن التسامح في دين الإسلام بين المسلمين أمر معروف وواضح، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا، والتسامح في هذا الدين نصوصه كثيرة ومشهورة،:” وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (الشورى /37).  ويقول تعالي :” وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”( الشورى40 ). وتنازل المسلم لأخيه المسلم عن حقه مما يؤجر عليه عند الله ويزداد به في الدنيا والآخرة، فالمسلم الحق الذي أشربت نفسه الإيمان والتقوى فلا يحقد، ولا يضغن على مسيء أو مخطئ في حقه، بل يتبع كظم غيظه بالصفح والعفو؛ لينال ثواب المحسنين، قال – تعالى -:” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ “(آل عمران/ 134). ولأن الصفح والعفو والتسامح من دلائل العظمة، وعمق الإيمان، فقد كان النبي يعلمهما أصحابه، فقد جاء رجل إلى النبي صلي الله عليه وسلم  فقال:” يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ قال: “كلَّ يوم سبعين مرة”( الترمذي).وأما تسامح المسلمين مع غير المسلمين فإنها قضية لا بد من تسليط الضوء عليها حتى لا تختلط الأمور، ولا يحدث الانسياق وراء عدد من المروجين لأفكار أعداء الإسلام، أو المنهزمين من المسلمين، فما هو حدود التسامح تجاه أعداء الإسلام أو غير المسلمين في هذه الشريعة، ما هي حدود التسامح بين المسلم والكافر، ما معنى سماحة الإسلام، ما معنى أنه دين التسامح، ما هو المقصود بهذه العبارة وما هو  حكم الشريعة فيها.

 

التسامح مع غير المسلمين : عباد الله: لقد كانت سماحة الإسلام من أعظم أسباب سرعة انتشاره، وكانت تلك السرعة الهائلة التي طوى فيها الإسلام أكثر المعمور من الأرض تحت ظله الظليل؛ كان راجعاً إلى عدل هذه الشريعة وحكمتها، عندما رأى العباد ما لا عهد لهم به من قبل، كانوا يرزحون تحت الظلم والبغي وعبادة العباد، فجاءت هذه الشريعة لتنقذهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ورأى أصحاب البلاد المفتوحة عدل المسلمين وتعاملهم فكان في ذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام في البلدان، على خلاف ما ردد أعداء الدين من تصوير الفتوحات الإسلامية غزواً مادياً لنهب ثروات الأمم واغتصاب خيراتها، وحرمانها من نعم الله عليها، وتصوير هذه الفتوحات بأنها إكراه للناس بقوة السلاح على الدخول في الدين، هذه الفتوحات كانت رحمة للبلاد المفتوحة، وكان التعامل شاهداً على عظمة الدين في نفوس الفاتحين، ممن التزم به وتقيد بشرعه، وفي يوم الفتح عندما تمكن النبي صلي الله عليه  وسلم  من أهل مكة الذين أخرجوه منها وكانوا قد منعوه من إبلاغ دين الله بينهم، وحالوا دون إيصال الدعوة إلى غيرهم فكفروا هم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، ماذا فعل بهم نبي الله صلي الله عليه  وسلم  لما قدر عليهم؟ هل أخذ بيوتهم؟ هل سفك دمائهم بغير قتال، هل ذبح نسائهم وأطفالهم، أم أنه أطلقهم لا تثريب عليكم اليوم، أنتم الطلقاء، وهكذا كانت فتوحات المسلمين في البلاد الأخرى، فنقرأ مصالحات أبي عبيدة بن الجراح لأهل الشام على الإبقاء على معابدهم من البيع والكنائس داخل المدن وخارجها مصونة لا يُهدم منها شيء وصالحهم على حقن دمائهم وحفظ حياتهم، ولكن لا يبنوا كنيسة جديدة، ولا يضيفوا إلى الموجود شيئاً آخر، ولا يظهروا صلبانهم ولا نواقيسهم لأن إظهار الكفر في بلاد الإسلام لا يجوز، وصالحهم على الدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء آخر مقابل مبلغ من المال مقدور عليه، يدفعه كل واحد منهم ولذلك سموا بأهل الذمة، وهؤلاء المعاهدين وأهل الذمة وفيت لهم الشروط، وشاهدوا حسن السيرة فيهم، وبهذه المعاملة رغبوا في دين الإسلام، وأقبلوا عليه وارتفعت الجزية عمَّن أسلم منهم وصاروا أخوة لنا في الدين، وهكذا تحولت بلاد مصر والشام والعراق إلى بلاد إسلامية دخلت شعوبها في الإسلام لما رأوا من عدله وحسنه، هذه الأخلاق التي عبر عنها أعداء الإسلام أيضاً.

 

ولما كتب يزدجرد ملك الفرس إلى ملك الصين يستمده قال للرسول قد عرفت أن حقاً على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم، قال سل عما أحببت، قال أيوفون بالعهد، قال نعم، قال ما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم، قال يدعوننا إلى واحدة من ثلاث إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أي الجزية مع الحماية، أو القتال، قال فما يحلون وما يحرمون، قال فأخبرته قال أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم، قلت لا، قال فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبداً حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم، فكتب ملك الصين إلى ملك الفرس إن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خُلي لهم طريقهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالمساكنة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك.

 

وإذا كان ديننا يحثنا علي الصدق في كل شيء ويحثنا علي حسن المعاملة في الأمور كلها فإن المعاملة في البيع والشراء تكون في مقدمة تلك المعاملات ..

 

فبفضل الأخلاق والمعاملات والتسامح انتشر الإسلام، فعندما اكتشف أهالي غانا أخلاق التجار المسلمين وقيمهم السامية ودينهم العظيم اعتنقت قبيلتان من البربر الإسلام وهما قبيلتا لمنونة وجودلة فعملوا على نشر الإسلام في ربوع غرب إفريقيا، واعتنقت قبائل سارا كولا الإسلام، كذلك تم فتح غانا سنة 1076م ثم راحت بعض القبائل الإسلامية من غانا إلى بلدة مالاتا في السودان الغربي وأنشئوا فيها مركزا تجاريا فتعرف أهلها على الإسلام ودخلوا فيه طوعا وكذلك اعتنق ملك غينيا الإسلام وكثير من رعاياه سنة 1204م طوعا وحبا في الإسلام، واعتنق خليفة أمير قبائل الماندانج الإسلام وأسس إمبراطورية مالي، وأيضا أحد سلاطين تشاد وغيرهم وهكذا دخل السلاطين والملوك والعامة والسوقة والخاصة والنبلاء الإسلام طوعا لا كرها إعجابا منهم بأخلاق التجار المسلمين وقيمهم الإسلامية. كل ذلك بفضل نشرهم لتعاليم الإسلام   و صوره العظيمة التي تتجلي  في السماحة ، فلقد بني الإسلام شريعة التسامح في علاقاته على أساس متين فلم يضق ذرعا بالأديان السابقة ، وشرع للمسلم أن يكون حسن المعاملة رقيق الجانب لين القول مع المسلمين وغير المسلمين فيحسن جوارهم ويقبل ضيافتهم ويصاهرهم حتى تختلط الأسرة وتمتزج الدماء..

 

مفهوم لا إكراه في الدين.

الإسلام لا يجبر الشخص على الدخول فيه قال الله تعالى: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “( البقرة256.).  قال ابن كثير رحمه الله: “أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح جلي في دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، فأكثر الكفار دخلوا في دين الإسلام بالاقتناع، وليس بالقوة، وكانت الحرب عندما يرفض الكفار تسليم بلدانهم للمسلمين، كان المسلمون يريدون البلدان لإقامة شرع الله فيها، وتحكيم الإسلام فيها، ودعوة الناس بالحسنى، فإذا قام ملك دون ملكه وسلطان دون سلطانه وكفار يمنعون المسلمين من الدخول لتحيكم الإسلام كان القتال يقوم، من أجل أن يُقام الدين،:” وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه “(الأنفال39.) وهكذا كانت راية الإسلام تعلو في البلدان المختلفة، إن دعوة الإسلام إلى المسامحة شيء معروف لكنه ليس ذلاً ولا تنازلاً عن شيء من الدين، والكفار لا يُعاملون في الشريعة معاملة واحدة، لأنها قائمة على العدل، فهم أنواع، فمنهم كفار محاربون وكفار مسالمون، فالكفار المحاربون لا يجوز أن يُفعل لهم معروف، ولا نوع من البر، ولا الصلة، ما داموا قائمين بالحرب، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“) الممتحنة9.). إذاً هؤلاء لا يمكن عمل المعروف معهم، ما داموا قد حملوا السلاح على المسلمين، يريدون أن يطفئوا نور الله، وكفار آخرون مسالمون، يقولون للمسلمين هذه بلادنا ادخلوها وأقيموا فيها دينكم ونحن لا نريد حرباً ولا قتالاً ولا أن نرفع عليكم سلاحاً، هؤلاء الذين يرغبون في التعامل مع المسلمين على أساس السلم والاحترام المتبادل وأن تكون الهيمنة للإسلام والحكم للإسلام، والشريعة المطبقة في البلد الإسلام لا يجوز الاعتداء عليهم بأي نوع من الاعتداء البتة.

 

أمثلة من تعامل النبي صلي الله عليه وسلم ، والسلف مع غير المسلمين

عباد الله: كان النبي صلي الله عليه وسلم  يقوم بدعوة أهل الكتاب ويزور مرضاهم طاعة لله، ولا ينهى البنت المسلمة أن تبر أمها المشركة ما دامت جاءت راغبة في الصلة غير رافعة للسلاح على المسلمين، والكافر إذا كان معاهداً أو ذمياً فلا يجوز خرق عهد الأمان معه ولا الاعتداء عليه، وقال النبي صلي الله عليه وسلم  :”ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة”( أبو داود ). النبي صلي الله عليه وسلم  قال :” من قتل معاهداً له ذمة الله، وذمة رسوله؛ حرّم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا”(البخاري).

 

*وكان صلي الله عليه وسلم  يغشى مخالفيه في دورهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلي الله عليه وسلم  فقال :” انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم  فناداهم فقال : ” يا معشر يهود أسلموا تسلموا ” فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم . . الحديث . وعاد صلي الله عليه وسلم  يهودياً ، كما في البخاري عن أنس رضى الله عنه أن غلاما ليهود كان يخدم النبي صلي الله عليه وسلم  فمرض فأتاه النبي صلي الله عليه وسلم  يعوده فقال : ( أسلم ) فأسلم .

 

وكان صلي الله عليه وسلم  يعامل مخالفيه من غير المسلمين في البيع والشراء والأخذ والعطاء ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت :” توفي النبي صلي الله عليه وسلم  ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين . يعني : صاعا من شعير .

وكان صلي الله عليه وسلم  يأمر بصلة القريب وإن كان غير مسلم فقال لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : صلي أمك .

 

وفي المدينة حيث تأسس المجتمع الإسلامي الأول وعاش في كنفه اليهود بعهد مع المسلمين وكان صلي الله عليه وسلم  غاية في الحلم معهم والسماحة في معاملتهم حتى نقضوا العهد وخانوا رسول الله صلي الله عليه وسلم  ، أما من يعيشون بين المسلمين يحترمون قيمهم ومجتمعهم فلهم الضمان النبوي ، فقد ضمن صلى الله عليه وسلم لمن عاش بين ظهراني المسلمين بعهد وبقي على عهده أن يحظى بمحاجة النبي صلي الله عليه وسلم  لمن ظلمه فقال صلي الله عليه وسلم  : ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة . تلك صور من سماحة النبي صلي الله عليه وسلم  مع غير المسلمين وهو ما سار عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون من بعدهم ..

عباد الله: لقد جاء النهي عن قتل النساء، والصبيان في الحروب فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “وجدت امرأة مقتول في بعض مغازي رسول الله  صلي الله عليه وسلم  فنهى رسول الله صلي الله عليه وسلم  عن قتل النساء والصبيان”( البخاري ومسلم). فإذا لم يحملوا السلاح أي النساء، والصبيان ولم يعينوا على المسلمين لم يجز مسهم بسوء ولم يجز قتلهم ولا إعمال السلاح فيهم، وقام أئمة الإسلام بالدفاع عن أهل الذمة في البلدان التي كانت تحكم بالشريعة عندما يتعرضون للظلم، فقام الأوزاعي رحمه الله يشكو والي جبل لبنان من أقرباء الخليفة إلى الخليفة لأنه أجلى جماعة من أهل الذمة لخروج نفر منهم على عامل الخراج، فقال: “لا تزر وازرة وزر أخرى”، فلا يؤخذ البرئ بجريرة المذنب، ولما عمد الوليد بن يزيد إلى إجلاء الذميين من قبرص إلى الشام تحسباً لحملة رومية اعترض الفقهاء على مسلكه، وشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله رحمه أن يطلق التتر أسرى المسلمين دون أهل الذمة، فأصر شيخ الإسلام على التتر أن يطلقوا أهل الذمة مع المسلمين، لأن التتر أخذوا من الجميع أسرى، صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما جاءته المرأة من الكفار النصارى وهم أعداؤه تطلب منه طلباً خاصاً أن يرد إليها ولدها الصغير، أمر بالبحث عنه فوجده قد بيع مع السبي وهذا حق للمسلمين إذا حاربوا الكفار وحاربهم الكفار أن يؤخذ نساء الكفار وأولادهم سبياً يتربون عند المسلمين فيتأثروا بالإسلام فينشئوا عليه، وكان في ذلك فائدة كبيرة بدلاً من أن ينشئوا عند آبائهم الكفار، فلما وجد صلاح الدين الولد قد بيع اشتراه بماله الخاص، ووهبه لتلك المرأة، ولما أراد بعض خلفاء المسلمين أن يبادل الأسرى مع الكفار وقف المسلمون على طرف النهر والكفار على الطرف الآخر وبينهما جسر وصار يعبر واحد من أسرى المسلمين من طرف الكفار وواحد من أسرى الكفار من طرف المسلمين مبادلة الأسرى واحد بواحد، وهكذا حصلت المبادلة فانتهى المسلمون الأسرى وبقي أسرى من الكفار في يد الخليفة فرأى إظهاراً لمنة الإسلام على الكفار وكسباً للموقف أن يطلق البقية الباقية بدون مقابل، ولذلك كان حكم الشريعة في الأسرى الكفار المأخوذين إما أن يقتلوا وإما أن يسترقوا وإما أن يفادوا بالمال وإما أن يُمن عليهم بلا مقابل، ليس بحسب الهوى، لكن بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية، فإن كانوا من أهل الخبرة في القتال ولو رجعوا للكفار كانوا وبالاً على أهل الإسلام يقتلون ولا يتركون، ولو كان في أخذهم سبياً مصلحة لهم وللمسلمين يؤخذون سبياً، ولو كان من المصلحة تحصيل مال مقابل لهم من أجل حاجة للمسلمين كان الفداء بالمال، وإن كان عند الكفار أسرى في المقابل من المسلمين تكون المبادلة الأسرى بالأسرى، وإن كانت المنة هي المصلحة الشرعية كسباً للموقف وتأثيراً دعوياً في الكفار يطلق الأسرى بلا مقابل، بحسب ما تقتضيه الشريعة.

وحين رأى صلي الله عليه وسلم  عمَّه حمزة وقد بُقرت بطنه، ومُثّل به أشنع تمثيل هو وبعض الصحابة، بكى وغضب وأقسم أن ينتقم ويُمثل بسبعين منهم إن مكّنّه الله منهم، فنزلت الآيات: ” وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ “(النحل/ 126).  فآثر النبي وأصحابه الصبر الجميل، وعفوا عما سلف من تمثيل بقتلاهم، فما كان للمؤمنين أن ينزلقوا إلى تلك الهوة العميقة من جرائم الحقد الأسود، ولا أن يجرهم عدوهم إلى مثل هذه الميادين القذرة من التعامل ولو في الحرب، وهكذا لم يرُدَّ المسلمون الإساءة القبيحة بمثلها وإن كان المسيئون كفارًا، فكيف بنا الآن مع من أخطأوا في حقنا، أو أساءوا إلينا، وربما كانوا أقاربًا أو أحبابًا أو أصدقاء..

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، الملك، الحق، المبين، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله صلي الله عليه وسلم  وعلى آله، وصحبه، أجمعيين.

حالات لا يجوز فيها التسامح مع الكفار

لكن أيها الأخوة: التسامح إلى أي حد؟ لا شك أن التسامح مع أعداء الإسلام له حدود معينة، وهذه القضية التي يريد عدد من المنافقين والكفار أن يضيعوها، ويريدوا أن يقولوا أنه تسامح على طول الخط مهما فعل الكفار ومهما قاموا به تسامح على طول الخط، من الذي قال ذلك، وفي أي كتاب من كتب الشريعة هذا؟ أين الآية أو الحديث الدال عليه؟ بل إن الآيات والأحاديث تدل على خلاف ذلك، أنه يوجد حالات لا تسامح فيها مع الكفار، إطلاقاً والتسامح حرام وخزي وذل لا يجوز للمسلمين أن يفعلوه، فلما نقض بنو قينقاع العهد مع رسول الله صلي الله عليه  وسلم  ، وغدر الصائغ ويهود بني قيقناع بالمسلمين واستصرخ المسلم أهل الإسلام قاموا إليهم، ونابذوهم وهكذا كانت الحرب على بني قينقاع لغدرهم، ولما قام بنو النضير بمحاولة أخرى غادرة أيضاً وطلبوا من النبي صلي الله عليه وسلم  أن يخرج إليهم مع بعض أصحابه من أجل أن يتحاوروا حوار الأديان واشتمل اليهود على الخناجر يريدون الانفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام يتقدم ثلاثة ويتقدم النبي  صلي الله عليه وسلم  لمحاورتهم فيجهزوا عليه، اشتمل اليهود على الخناجر، فجاء الوحي إلى النبي  صلي الله عليه وسلم  بالمؤامرة فرجع وتجهز وغزا بني النضير، وحرق نخيلهم إخزاءً لهم وفتاً في عضدهم، وحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء، فخرجوا من ديارهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة وغادروا تلك الحصون والقلاع وسُلمت بالكامل للمسلمين، وبنو قريظة وما أدراك ما بنو قريظة عندما جاءت الأحزاب فحاصروا المدينة وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد عاهد يهود بني قريظة من قبل حتى تستتب له الأمور فلما قام اليهود بالغدر والممالئة وممالئة كفار قريش على نبي الله   صلي الله عليه وسلم    ونقضوا العهد وخالفوا الشروط بينهم وبين النبي  صلي الله عليه وسلم    جاء جبريل بالأمر بالقتال وأخذ يهود بني قريظة بعد الحصار وهكذا من أنبت منهم الشعر الدال على بلوغه قُتل فقتل رجالهم أجمعين، وهكذا حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه بحكم الملك من فوق سبع سماوات، بحكم الملك من فوق سبع سماوات، إذاً هذه حالات لا تسامح فيها أبداً، إذا غدروا لا مسامحة البتة..

عباد الله: لقد قام أئمة الإسلام وقادة الدين بضرب المثل في عزة الإسلام وعدم إسقاط حقوق الشريعة، ولما كتب نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد:”  من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافها إليها، يجب أن ترد أكثر مما أعطتك، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك قبل أن أصادر أموالك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب، هذه عزة المسلم استفزه الغضب حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلسائه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب “بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن ..  -هذه عزة الإسلام، وليس تسامح، وضعف وذل ومهانة، عند القدرة جهاد- قد قرأت كتابك..  والجواب ما تراه دون ما تسمعه”. ثم سار من يومه من يومه سار بجيوش المسلمين ففتح وغنم حتى جاء بلاد نقفور حتى اضطر نقفور إلى طلب المصالحة على خراج يحمله كل سنة إلى هارون، فأجابه إلى ذلك.

 

وهكذا يقوم حاكم آخر، وخليفة من خلفاء المسلمين يبلغه أن ملك الروم جاء أهل ملطية المسلمين فأوقع فيهم مقتلة عظيمة خلقاً كثيراً قتلهم وأسر ما لا يحصون كثرة، وقطع آذان أسرى المسلمين وأنوفهم، وسمل أعينهم وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات فلما سمع الخليفة بذلك انزعج جداً وصرخ في قصره بالنفير ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش، واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه ثلثه صدقه وثلثه لولده وثلثه لمواليه، وقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع، قالوا عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام فاستدعى الجيوش وتجهز جهازاً لم يجهزه أحداً كان قبله، وأخذ معه من آلالات الحرب شيئاً لم يُسمع بمثله وسار إلى عمورية في جحافل عظيمة فأنكاهم نكاية عظيمة وقتل من الكفار ثلاثين ألفاً، وهكذا فعل عبد الرحمن الناصر رحمه الله في بلاد الأندلس لما تحداه ليون ونافار من النصارى من ملوكم فقام ليثبت عزة الإسلام فهربوا أمامه لا يهتدون سبيلاً ولا يجدون حيلة والمسلمون على آثارهم يقتلون من أدركوه حتى حجزهم الظلام، وصلاح الدين الأيوبي لما قدر على أرناط، أرناط صاحب الكرك النصراني الذي كان يغير على قوافل الحجاج فيقتلهم، حجاج المسلمين، ويسب النبي عليه الصلاة والسلام يستخف به، لما قدر عليه صلاح الدين وجيء به إليه، هل هنا مجال للمسامحة، هل يوجد تسامح هنا؟ إطلاقاً. قال له أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم منك ثم عرض عليه الإسلام فأبى فقتله صلاح الدين بيده قتله بيده وهكذا.

 

إخوة الإسلام:” إن عظمة هذا الدين لا تخفى إلا على من جهل حقيقة الإسلام أو عميت بصيرته عنه أو كان به لوثة من هوى أو حقد مقيت ، وإلا فإن سماحة الإسلام في المعاملة وتيسيره في كل أموره ، ظاهر بأدنى تأمل لمن طلب الحق وسعى إلى بلوغه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى