خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: العفة وأثرها في صلاح الأمة، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 17 من شوال 1437هــ – 22 يوليو 2016م

خطبة بعنوان: العفة وأثرها في صلاح الأمة، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 17 من شوال 1437هــ – 22 يوليو 2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: أهمية العفة ومكانتها في الإسلام

العنصر الثاني: أنواع العفة وصورها

العنصر الثالث: وسائل تحقيق العفة

العنصر الرابع: فوائد العفة وثمراتها

المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: أهمية العفة ومكانتها في الإسلام

عباد الله : إن خلق العفة له أهمية بالغة في ديننا الحنيف؛ لأن الهدف من بعثته صلى الله عليه وسلم غرس صالح الأخلاق في أفراد المجتمع.

والعفة تعنى: الكف عن المحرمات والمنهيات؛ وعدم التطلع إلى ما في أيدي الغير. يقول ابن فارس في مادة :” (عف) العين والفاء أصلان صحيحان: أحدُهما الكفُّ عن القبيح، والآخر دالٌّ على قلّة شيء.” (معجم مقاييس اللغة)؛ ويقول الإمام النووي: ” أما العفاف والعفة؛ فهو التنزه عما لا يباح، والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس، والاستغناء عن الناس، وعما في أيديهم.” (شرح مسلم) .

“وحد العفة أن تغض بصرك وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك، فما عدا هذا فهو عهر، وما نقص حتى يمسك عما أحل الله تعالى فهو ضعف وعجز “. (الأخلاق والسير ابن حزم)

” ولا يكون الإنسان تامّ العفّة حتّى يكون عفيف اليد واللّسان والسّمع والبصر فمن عدمها في اللّسان السّخرية، والتّجسّس والغيبة والهمز والنّميمة والتّنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مدّ العين إلى المحارم وزينة الحياة الدّنيا المولّدة للشّهوات الرّديئة، ومن عدمها في السّمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة. وعماد عفّة الجوارح كلّها ألا يطلقها صاحبها في شيء ممّا يختصّ بكلّ واحد منها إلّا فيما يسوّغه العقل والشّرع دون الشّهوة والهوى.” «الذريعة إلى مكارم الشريعة» .

ولأهمية العفة حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة؛ فعن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق الحديث ، وحسن الخليقة ، وعفة في طعمة »(أحمد والطبراني والبيهقي بإسناد حسن). ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على هذا الخلق القويم؛ فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: «سرّحتني أمّي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: «من استغنى أغناه الله- عزّ وجلّ- ومن استعفّ أعفّه الله- عزّ وجلّ- ومن استكفى كفاه الله- عزّ وجلّ- ومن سأل وله قيمة أوقيّة، فقد ألحف» فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقيّة فرجعت ولم أسأله».(أحمد وأبوداود والنسائي)؛ وعن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال: ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمارا وأردفني خلفه وقال: «يا أبا ذرّ، أرأيت إن أصاب النّاس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «تعفّف» . (أحمد وأبوداود وابن ماجة والحاكم)

ولقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار لتحليهم بخلق العفة؛ فعن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: ” الْأَنْصَارُ أعِفَّةٌ صُبُرٌ ؛ وَإِنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الْأَمْرِ: مؤمنُهُم تَبَعُ مُؤمِنِهِمْ وفَاجِرُهُم تَبَعُ فاجِرِهِم”.(ابن حبان والطبراني والبيهقي)؛ وعن أبي طلحة الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقرأ قومك السّلام فإنّهم ما علمت أعفّة صبر»(أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).

ومن أروع الأمثلة في العفة عند الصحابة عفة عبدالرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع؛ ” فعن أنس، قال: قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلنى على السوق. فخرج إلى السوق وتاجر حتى أصبح من أغنى أغنياء المدينة؛ يقول عبدالرحمن بن عوف: فلقد رأيتنى ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة.” (السيرة النبوية لابن كثير) ؛ فقد ضرب لنا سعد بن الربيع أروع الأمثلة في الإيثار والمواساة؛ وضرب لنا عبدالرحمن بن عوف أروع الأمثلة في العفة؛ وهذا تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم:” ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله.”(البخاري ومسلم)

أيها المسلمون: إن خلق العفة أساس كل فضيلة؛ فمنه تتفرع أخلاق كثيرة؛ يقول الإمام أبو حامد الغزالي:” وأما خلق العفة: فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع. وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط: فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك. فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة: وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. والباقي فروعها. ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه. فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد، فينبغي أن يبعد، كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدى به ويتقرب إليه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال.”(إحياء علوم الدين)

أحبتي في الله: إن العفة كمال للدين؛ قال محمّد بن الحنفيّة- رحمه الله تعالى: «الكمال في ثلاثة: العفّة في الدّين، والصّبر على النّوائب، وحسن التّدبير في المعيشة» (أدب الدنيا والدين للماوردي)

ولأهمية العفة جعلت شرطاً في المناصب السيادية؛ قال أبو عمرو بن العلاء- رحمه الله تعالى-: «كان أهل الجاهليّة لا يسوّدون إلّا من كانت فيه ستّ خصال وتمامها في الإسلام سابعة: السّخاء، والنّجدة، والصّبر، والحلم، والبيان، والحسب، وفي الإسلام زيادة العفاف»؛ وهكذا ظهرت لنا أهمية ومكانة العفة في الإسلام.

العنصر الثاني: أنواع العفة وصورها

أيها المسلمون: تعالوا بنا في هذا العنصر لنقف حول أنواع العفة مع ذكر نماذج وصور عملية للعفة من القرآن والسنة؛ وحينما طالعت المؤلفات التي تحدثت عن العفة وجدت أن لها أنواعاً عديدةً ذكرها العلماء؛ ولكن هذه الأنواع فرعية ومتشعبة وكثيرة وكلها تندرج تحت نوعين رئيسين:

النوع الأول : العفة عن الحرام

وهي أن يعفَّ الإنسان نفسه عن المحرمات والفواحش؛ فيجب على المسلم كف لسانه عن أعراض الناس، وأن لا يقول إلا طيبًا. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.” (البخاري)؛ ومن أمثلة هذا النوع في القرآن الكريم قوله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }[النور: 33]. ( أي: ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: يوسع عليهم من رزقه) (معالم التنزيل للبغوي) . ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60].” وقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}  أي: وترك وضعهنَّ لثيابهنَّ وإن كان جائزًا خير وأفضل لهن، والله سميع عليم.”(تفسير ابن كثير) .

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أراد العفاف فالله عونه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف.” (الترمذي والنسائي وابن ماجة) . (أي العفة من الزنا . قال الطِّيبي: إنما آثر هذه الصيغة إيذانًا بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم ظهره، لولا أنَّ الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف؛ لأنَّه قمع الشهوة الجبلِّية المركوزة فيه، وهي مقتضى البهيمية النازلة في أسفل السافلين، فإذا استعفَّ وتداركه عون الله تعالى ترقَّى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين.”  (تحفة الأحوذي) .

أيها المسلمون: لقد حفل القرآن والسنة وتاريخ سلف الأمة بصور ونماذج عديدة للعفة عن الحرام ؛ وفي مقدمتها عفة نبي الله يوسف عليه السلام؛ حيث وجدت دواعي الفتنة، ولم يستسلم أمام التهديدات والإغراءات؛ قال تعالى:{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ…..}( الآيات 23 وما بعدها )؛ يقول الإمام ابن القيم:” ومع هذه الدواعي كلها آثر العفة ومرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}. وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأنَّ ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن؛ صبا إليهنَّ بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال عفته ومعرفته بربه وبنفسه.” (الداء والدواء) .

– وهذا نموذج آخر في العفة عما حرم الله، وهو جريج العابد؛ تتعرض له بغي من بغايا بني إسرائيل، فيعفُّ نفسه ولا يلتفت إليها، فتحاول أن تنتقم منه لامتناعه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه “… تذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم -قال- فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى؛ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي -قال- فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا أعيدوها من طين كما كانت.” (مسلم).

– ومن هذه النماذج – أيضاً – عفة الربيع بن خُثيم: فعن سعدان قال: ” أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خُثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيَّبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيَّرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟  أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة فسقطت مغشيًّا عليها. فوالله لقد أفاقت، وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.”  (صفة الصفوة لابن الجوزي) .

وشواهد ذلك كثيرة لا يتسع المقام لذكرها ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!!

وصدق إمامنا الشافعي حيث يقول:

عِفُّوا تعِفَّ نساؤكم في المحرمِ……… وتجنَّبُوا ما لا يليقُ بمسلمِ

إنَّ الزِّنا دَينٌ إذا أقرضته………..كان الوفا مِن أهلِ بيتِك فاعلمِ

يا هاتكًا حُرمَ الرجالِ وقاطعًا……..سُبلَ المودةِ عشتَ غيرَ مُكرَّمِ

لو كنتَ حرًّا مِن سُلالةِ ماجدٍ       …….. ما كنتَ هتَّاكًا لحرمةِ مُسلمِ

من يزنِ يُزنَ به ولو بجدارِه……….. إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافهمِ

 

النوع الثاني: التعفف عما في أيدي الناس

وهي أن يعفَّ عما في أيدي الناس، ويترك مسألتهم، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفَّل له بالجنة. فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا .” (أحمد وأبوداود والحاكم وصححه) . وفي ذلك يقول سبحانه: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم} [البقرة: 273]. يحسبهم “… الْجَاهِلُ بحالهم أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي: من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال: عفَّ عن الشيء إذا كف عنه، وتعفف إذا تكلف في الإمساك. تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ السيماء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هاهنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم، {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاءً، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداءً، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافًا أصلًا لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال.”  (معالم التنزيل للبغوي) . ومنه قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء:6]. ” أي: من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئًا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم”. (تفسير ابن كثير) . وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس المسكين الّذي تردّه التّمرة والتّمرتان. ولا اللّقمة ولا اللّقمتان. إنّما المسكين الّذي يتعفّف. اقرؤا إن شئتم: يعني قوله تعالى: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً}.» (البخاري ومسلم)؛ ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على التعفف وعدم المسألة؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم. حتى إذا نفد ما عنده. قال: ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم. ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغنِ يغنه الله. ومن يصبر يصبره الله. وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر.”  (البخاري) . قال ابن عبد البر: ” فيه الحض على التعفف والاستغناء بالله عن عباده، والتصبر، وأنَّ ذلك أفضل ما أعطيه الإنسان، وفي هذا كلِّه نهي عن السؤال، وأمر بالقناعة والصبر.”  (التمهيد) .

أيها المسلمون: هناك صورٌ ونماذج عديدة لسلفنا الصالح في التعفف عن أموال الغير منها:

عفة حكيم بن حزام حيث قال: ” سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة ؛ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، كالذي يأكل، ولا يشبع اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ  أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقَّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.”  (البخاري ومسلم) .

ومنها عفة عمر – رضي الله عنه: لمّا فتح المسلمون القادسيّة أخذوا الغنائم ودفعوها إلى عمر. فقال: «إنّ قوما أدّوا هذا لأمناء، فقالوا له: عففت فعفّوا ولو رتعت يا أمير المؤمنين لرتعت أمّتك»(  الورع لابن أبي الدنيا )

ومنها: عفة سالم بن عبد الله بن عمر: قال ابن عيينة: “دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة. قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره. فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة. فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟.” (المجالسة وجواهر العلم للدينوري) .

أحبتي في الله: إن العفة عما في أيدي الناس تدل على نبل الرجل؛ يقول أيوب السختياني:  ” لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.”

العنصر الثالث: وسائل تحقيق العفة

عباد الله: كثير من الناس يقول: وكيف أصل إلى مرتبة العفة؛ أقول: هناك وسائل عديدة توصلك إلى خلق العفة تتمثل فيما يلي:

1- تقوى الله في السر والعلانية: وتعلم أن الله مطلع عليك في كل حركاتك وسكناتك؛ قال تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] قال ابن عباس في تفسيره لهذه الآية:” هو الرجل يكون بين الرجال، فتمر بهم امرأة فينظر إليها، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره.” (تفسير السمعاني) .

2- الدعاء بالعفاف وأن يصرف عنك السوء والفحشاء: فعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:” اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.”(مسلم)؛ وقال سبحانه وتعالى عن نبيه يوسف عليه السلام{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[يوسف: 33-34]، قال ابن تيمية: ” فلا بد من التقوى بفعل المأمور، والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله ودعاه حتى يثبته على العفة، فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس.” (مجموع الفتاوى) .

3- تنشئة الأبناء على التربية الإسلامية:  فالتربية الإسلامية من أهم الوسائل المعينة على العفة، والتي ينبغي فيها مراعاة غرس الفضيلة والعفة في الأبناء، والتربية على الالتزام بالأحكام الشرعية منذ نعومة أظفارهم.

4- الزواج: فالزواج المبكر من أقوى الوسائل المعينة للعفاف، قال صلى الله عليه وسلم: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ؛ فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء .” (البخاري ومسلم) .

5– سد الذرائع التي تؤدي إلى الفساد والتي تتمثل في:

– عدم الخلوة بالمرأة الأجنبية: فعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إياكم والدخول على النساء فقال رجل : يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ قال : ” الحمو الموت ” ( متفق عليه ) ، وقال: ” ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.”  (أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه) . قال ابن تيمية: ” ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية؛ لأنها مظنة الفتنة؛ والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدُّها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرمًا إلا إذا كان لمصلحة راجحة مثل: نظر الخاطب، والطبيب، وغيرهما؛ فإنَّه يباح النظر للحاجة؛ لكن مع عدم الشهوة.” (مجموع الفتاوى) .

– عدم التبرج: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].

– الاستئذان عند الدخول: وقد جعل الاستئذان من أجل البصر كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27].

– غض البصر: قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]. قال ابن القيم: ” فلما كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره… وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.” (روضة المحبين) .؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدركٌ ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذِّبه.” (مسلم) . وكما قال الشاعر:

كل الحوادث مبدؤها من النظر                ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها           في أعين الغير موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب صاحبها             فعل السهام بلا قوس ولا وتر

يسر ناظره ما ضر خاطره            لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر

– التفريق في المضاجع: لابد من التفريق في المضاجع بين الأولاد، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ” مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع.”  (أحمد وأبوداود) . فهذا الحديث نصٌّ في النهي عن بداية الاختلاط داخل البيوت، إذا بلغ الأولاد عشر سنين، فواجب على الأولياء التفريق بين أولادهم في مضاجعهم، وعدم اختلاطهم، لغرس العفة والاحتشام في نفوسهم، وخوفًا من غوائل الشهوة التي تؤدي إليها هذه البداية في الاختلاط، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

6- إقامة الحدود: فإقامة الحدود تردع لمن تسول له نفسه أن يقوم بأمر حذر منه الشارع. لهذا قال عثمان -رضي الله عنه-:” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، أي: يمنع بالسلطان باقتراف المحارم، أكثر ما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن؛ لكن متى علموا أن هناك عقوبة من السلطان، ارتدعوا، وخافوا من عقوبة السلطان لئلا يفتنهم، أو يضربهم، أو ينفيهم من البلاد، فهم يخافون ذلك!!

7- عدم التطلع إلى ما في أيدي الغير: لأن النظر إلى ما في أيدي الغير يورث سخطا وبغضا وكرها وطمعا وعدم قناعة؛ قال الحسن البصري: ” لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه” . وقال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: « العالم إذا كان عليما ولم يكن عفيفا كان ضرره أشدّ من ضرر الجاهل» (الفتح)

العنصر الرابع: فوائد العفة وثمراتها

أحبتي في الله: تعالوا لنقف في عنصرنا هذا مع الفوائد والثمرات لكل من تحلى بالعفة وهذه الثمرات تتمثل فيما يلي:-

أولاً: سلامة المجتمع من الفواحش: فالمجتمع الذي يتصف بالعفة يكون بعيدًا من الفواحش والرذائل.

ثانياً: أن العفيف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله في قول النبي صلى الله عليه وسلم:” ورجلٌ طلَبَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ، فقال إني أخافُ اللهَ.”  (البخاري ومسلم)

ثالثاً: أن العفة سبب للنجاة من الابتلاءات والمضائق: فقد جاء في قصة أصحاب الغار، الذين انطبقت عليهم الصخرة، أن أحدهم توسل إلى الله بقوله: ” اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار؛ فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا.”  (البخاري) .

رابعاً: دخول الجنة: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ أوّل ثلاثة يدخلون الجنّة: شهيد وعفيف متعفّف وعبد أحسن عبادة الله، ونصح لمواليه». (أحمد والحاكم والترمذي وحسنه)؛ وعن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، وأتكفل له بالجنة؟ فقلت: أنا فكان لا يسأل أحداً شيئاً. “( النسائي وأحمد وابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح)

خامساً: حصول السعادة واللذة: ” قال بعضهم: والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب؛ ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما؛ وهنا يمتاز العقل من الهوى.” (غذاء الألباب ؛ للسفاريني)

سادساً: تحقيق الستر والعفاف: قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: «إنّ دين المرء يفضي إلى السّتر والعفاف، ويؤدّي إلى القناعة والكفاف» (أدب الدنيا والدين)؛ وقال ابن مفلح- رحمه الله-: «كان يقال: الشّكر زينة الغنى، والعفاف زينة الفقر» . ويقال أيضا: «حقّ الله واجب في الغنى والفقر، ففي الغنى العطف والشّكر، وفي الفقر العفاف والصّبر»  . جعلني الله وإياكم من أهل العفاف والتقى !!!

الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،،                            كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى