خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة دروس وعبر”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 3 ربيع الأول 1438هـ – 2 ديسمبر 2016م

خطبة بعنوان: حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة دروس وعبر”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 3 ربيع الأول 1438هـ – 2 ديسمبر 2016م.

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: ميلاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – ميلاد نور وبركة

العنصر الثاني: شق صدره – صلى الله عليه وسلم- والعبرة من ذلك

العنصر الثالث: اشتغال الرسول – صلى الله عليه وسلم- بالتجارة والعبرة من ذلك

     المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: ميلاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – ميلاد نور وبركة

عباد الله: لقد كان ميلاد – الرسول صلى الله عليه وسلم – ميلاد نور وخير وبركة للأمة كلها؛ وهذا النور لم يكن معنوياً فقط؛ بل كان نوراً حسياً رآه كل الناس على السواء؛ ففي ليلة مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأت أمه نوراً خرج منها أضاء لها قصور الشام، فقد روى ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية: ” أن النبي- صلى الله عليه وسلم – سئل عن نفسه فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر ” .

قال ابن رجب: ” وخروج هذا النور عند وضعه؛ إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(المائدة الآية: 15 : 16)، وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف الآية:157) “.

ولقد شاهدت اليهود هذا النور الذي عم الكون كله؛ فعن حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: ” والله إني لغلام يفعةٌ، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلَّ ما سمعت، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة (حصن ) بيثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .” ( دلائل النبوة للبيهقي )

وعن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: ” قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فأرجع فصدقه واتبعه ” .( السيرة النبوية لابن كثير )

أحبتي في الله: لقد كانت مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل على موعد مع أمر عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية كلها، وسيظل يشرق بنوره على الكون كله، إنه ميلاد النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي كان مولده ميلاد أمة سعدت بميلادها الأمم، إذ هدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح الله به أعينًا عميًا، وقلوبًا غُلفًا، إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الرحمن، وصفوة الأنام، أعظم الناس أخلاقًا، وأصدقهم حديثًا، وأحسنهم وأكثرهم عفوًا، خير من وطئ الثرى، سيد ولد آدم، صلى الله عليه وسلم ؛ ويقول عن مولده عمه العباس ـ رضي الله عنه ـ :

وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ………وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ

فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الضِّيَاءِ………وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

وقال أحمد شوقي :

وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياء …………وفمُ الزمانِ تَبَسُّمٌ وثناءُ

الروحُ، والملأ، الملائِكُ حوله………..للدين والدنيا به بُشَراءُ

بك بشر اللهُ السماءَ فزينت………وتضوعت مسكا بك الغبراءُ

يوم يتيه على الزمان صباحه…………ومساؤه بمحمد وضَّاء

أيها المسلمون: لقد طيب الله تعالى نسب نبيه – صلى الله عليه وسلم- في وقت قد انتشرت فيه الرذيلة؛ وحفظ الله تعالى نسمته الطاهرة فجاء من نكاح ولم تأت من سفاح ؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:” خَرجْتُ من نِكاحٍ ، و لَمْ أخْرجْ من سِفاحٍ ، من لَدُنْ آدَمَ إلى أن ولَدَنِي أبِي و أمِّي ، لم يُصبْنِي من سِفاحِ الجاهِليةِ شيءٌ”( الطبراني)

فقد اصطفاه الله عز وجل من خيرة البيوتات والقبائل والآباء والأمهات؛ فعن وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :” إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مسلم” (مسلم)؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار ؛ وأعلاهم وأشرفهم نسبا !!

نسبٌ أضاءَ عمودهُ في رفعه…..كالصبح فيه ترفُّعٌ وضياءُ

وشمائلٌ شهدَ العدوُّ بفضلها….والفضلُ ما شهدت به الأعداء

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتقلب في أصلاب الأطهار الأشراف؛ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين }( الشعراء: 219)؛ من صلب نبيّ إلى صلب نبي حتى صرت نبياً.” ( تفسير ابن كثير )؛ وعن عطاء قال: «ما زال نبي الله صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه» (تفسير ابن أبي حاتم)

من عهد آدم لم يزل تحمي له……….. في نسلها الأصلاب والأرحام

حتى تنقل في نكاح طاهر…………….ما ضم مجتمعين فيه حرام

وكما اختار الله له نسبه فقد كرمه الله باختيار اسمه ( محمد ) ليكون محمودا في الأرض وفي السماء؛ وحسبك أن الأسماء في ذلك الوقت كانت: عبد الكعبة؛ وعبد ياغوث؛ وصخر؛ وحرب؛ ومرة ؛ وغير ذلك ؛ وتخيل لو نزلت عليه الرسالة وهو يحمل اسما من تلك الأسماء !!

وتأملوا قول الشاعر الحكيم وهو يتحدث عن نبينا الأمين – صلى الله عليه وسلم – ويبن طهارة نسبه واسمه فيقول:

حفظ الإله كرامة لمحـمد…………..آباءه الأمجاد صوناً لاسمه

تركوا السفاح فلم يصبهم عاره……….من آدم وإلى أبيه وأمه

أحبتي في الله: إن اختيار اسم النبي – صلى الله عليه وسلم- كان عطية ومنحة من الله؛ ” فلما كان اليوم السابع ذبح عنه جده عبد المطلب، ودعا له قريشا ، فلما أكلوا قالوا : يا عبد المطلب ، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ، ما سميته ؟ قال : سميته محمدا . قالوا : فلم رغبت به عن أسماء أهل بيته ؟ قال : أردت أن يحمده الله تعالى في السماء ، وخلقه في الأرض”. ( دلائل النبوة للبيهقي)

لذلك حثنا – صلى الله عليه وسلم- على اختيار الاسم الحسن ، وكان إذا رأى اسماً قبيحاً غيره، فقد غير – صلى الله عليه وسلم- اسم عاصية وقال أنت جميلة، وسمى حرباً سلماً وسمى المضطجع المنبعث، وأرضاً يقال لها عفرة خضرة ، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزينة سماهم بني الرشدة، والعاصي سماه رسول الله مطيعاً، ولما رأى سهيل بن عمرو مقبلاً يوم صلح الحديبية قال سهل أمر كم وانتهى في مسيره إلى جبلين فسأل عن اسمهما فقال مخز وفاضح فعدل عنهما ولم يسلك بينهما. وروي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِرَجُلٍ: «مَا اسْمُكَ» ؟ قَالَ: جَمْرَةُ، قَالَ: «ابْنُ مَنْ؟» قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: «مِمَّنْ؟» قَالَ: مِنَ الْحِرْقَةِ، قَالَ: «أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟» ، قَالَ: بحِرَّةِ النَّارِ. قَالَ: «بِأَيِّهَا» ؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظًى، قَالَ عُمَرُ: «أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدِ احْتَرَقُوا» ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ، فَوَجَدَ أَهْلَهُ قَدِ احْتَرَقُوا. (تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم)، وفي البخاري عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ:” أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: حَزْنٌ قَالَ: أَنْتَ سَهْلٌ ، قَالَ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ”.

أحبتي في الله: إن البركة قد حلت على كل شبر من الأرض وطأتها قدم المولود الجدد محمد – صلى الله عليه وسلم- تُصور ذلك مرضعته حليمة السعدية في قولها:” لما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما ؛ وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك ؛ فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة . قالت يقول صاحبي حين أصبحنا : تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة.

 وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا ، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا؛ يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا . فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا “. (سيرة ابن هشام)

وهكذا أيها المسلمون: كان ميلاد الرسول – صلى الله عليه وسلم- ميلاد رحمة وبركة وخير للأمة كلها .

العنصر الثاني: شق صدره صلى الله عليه وسلم والعبرة من ذلك

عباد الله: لقد تضافرت الراويات الصحيحة بذكر حادثة شق صدر النبي – صلى الله عليه وسلم- . فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ؛ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ؛ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ؛ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً؛ فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ؛ ثُمَّ لَأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ؛ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؛ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرْئِي أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ”. (مسلم). والعبرة والعظة من شق الصدر؛ هي تطهير قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من حظ الشيطان كما جاء في الحديث؛ وقد ذكرت روايات أخرى أن شق الصدر لم يكن مرة واحدة وإنما كان مرات ثلاثة؛ يقول الإمام بن حجر: ” وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في ” الدلائل ” ولكل منها حكمة ، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس ” فأخرج علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ” وكان هذا في زمن الطفولة فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة؛ فلا يستحيل شيء من ذلك “.( فتح الباري).

فشق الصدر كان تنقية لقلبه – صلى الله عليه وسلم – وإخراج حظ الشطان منه؛ لذلك كان شيطانه لا يأمره إلا بخير؛ وهذه من خصوصياته عليه السلام؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.” (مسلم). ”  قال القاضي : واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم- من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه . وفي هذا الحديث : إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه ، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان .” ( شرح النووي)

لذلك حفظ الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – من أفعال الجاهلية القبيحة فلم يصبه منها شيء؛ فعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِِلا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لأَهْلِنَا نَرْعَاهَا : أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ ، قَالَ : نَعَمْ ، فَخَرَجْتُ ، فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً ، وَصَوْتَ دُفُوفٍ ، وَمَزَامِيرَ ، قُلْتُ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : فُلانٌ تَزَوَّجَ فُلانَةَ ، لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ ، وَبِذَلِكَ الصَّوْتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي ، فَنِمْتُ ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِِلا مَسُّ الشَّمْسِ ، فَرَجَعْتُ إِِلَى صَاحِبِي ، فَقَالَ : مَا فَعَلْتَ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، فَخَرَجْتُ ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقِيلَ لِي : مِثْلُ مَا قِيلَ لِي ، فَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِِلا مَسُّ الشَّمْسِ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِِلَى صَاحِبِي ، فَقَالَ لِي : مَا فَعَلْتَ ؟ فَقُلْتُ : مَا فَعَلْتُ شَيْئًا ” ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” فَوَاللَّهِ ، مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتِهِ ” .( ابن حبان والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ).

فكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل ما ذبح على النصب؛ وحرم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً ؛ وذلك كله من الصفات التي يحلى الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقى وحيه؛ فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها؛ أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيسند إليهم؛ وأما بعدها فليكونوا قدوة لأممهم؛ عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات .

العنصر الثالث: اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة والعبرة من ذلك

عباد الله: نعلم جميعاً أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان في كفالة عمه أبي طالب بعد وفاة أمه؛ وكان عمه لا يقصر في خدمته ورعايته؛ ومع ذلك كان – صلى الله عليه وسلم- لا يحب أن يكون عالة على الآخرين مع صغر سنه؛ ففي ذات مرة خرج عمه للسفر في تجارة إلى بلاد الشام؛ فتعلق النبي – صلى الله عليه وسلم – بعمه؛ فأخذه إرضاءً له؛ فمروا في طريقهم على صومعة فيها بحيرى الراهب؛ فدعاهم إلى الطعام؛ ثم نظر في وجه النبي – صلى الله عليه وسلم- فعرف فيه علامات النبوة؛ فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته؛ ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده . فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك ؟ قال ابني . قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ؛ قال فإنه ابن أخي ؛ قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به قال: صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم؛ فأسرع به إلى بلاده .( انظر سيرة ابن هشام)

ونحن نعلم كما جاء في كتب السير أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يتاجر في مال السيدة خديجة مع غلامها ميسرة؛ فأعجبت بأمانته وأخلاقه حتى كان ذلك سبب زواجها منه.

أيها المسلمون: إننا لو نظرنا إلى جميع الأنبياء نجد لهم دوراً بارزاً في العمل والتجارة والكسب ؛ فقد كان لكل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً حرفة يعيش منها، فكان آدم حراثا وحائكا، وكانت حواء تغزل القماش، وكان إدريس عليه السلام خياطا وخطاطا، وكان نوح وزكريا نجارين، وكان هود وصالح تاجرين، وكان إبراهيم زارعا ونجارا، وكان أيوب زراعا، وكان داود زرادا – أي يصنع الزرد – وهو درع من حديد يلبسه المحارب، وكان سليمان خواصا؛ وكان موسى وشعيب ومحمد – صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء عليهم السلام يعملون بمهنة رعي الأغنام. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟! فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ “.( البخاري) .” قال العلماء : الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق؛ وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة؛ ألفوا من ذلك الصبر على الأمة؛ وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها؛ فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم ، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها .”(فتح الباري).

أحبتى في الله: ما أحوج الأمة – في هذه الظروف الراهنة والأزمات الطاحنة والغلاء الفاحش – إلى العمل والإنتاج؛ فهذا سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – صاحب الذكرى العطرة؛ ضرب لنا أروع الأمثلة في العمل والبناء والإنتاج ؛ فكان يقوم بمهنة أهله، يغسل ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع الثوب، ويخصف النعل؛ ويعلف بعيره، ويأكل مع الخادم، ويطحن مع زوجته إذا عييت ويعجن معها، وكان يقطع اللحم مع أزواجه، ويحمل بضاعته من السوق، ونحر في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه، وكان ينقل مع صحابته اللبن – الطوب الترابي- أثناء بناء المسجد، فعمل فيه – رسول الله صلى الله عليه وسلم – ليرغب المسلمين في العمل والبناء والتعمير؛ فقام المهاجرون والأنصار وعملوا بجد ونشاط حتى قال أحدهم:

لئن قعدنا والنبى يعمل………………. لذاك منا العمل المضلل

عباد الله: إن لنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فإذا كان العالم كله يحتفي ويحتفل بمولده ؛ فإن احتفالنا واحتفاءنا به – صلى الله عليه وسلم- أن نتخذه قدوة وأسوة في العمل والإنتاج والبناء والتعمير .

نحتاج إلى ولادة من جديد؛ وتغيير ما بي أنفسنا من عقائد فاسدة؛ وقلوب حاسدة؛ وأطماع حاقدة؛ وأمراض اجتماعية موجعة؛ وحوادث مفجعة؛ ووجوه عابسة؛ وأجسام متفرقة؛ ودعايات مغرضة؛ وصدق الله حيث يقول: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ( الرعد: 11)

   الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،،                               كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

     د / خالد بدير بدوي

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى