خطبة بعنوان : دعوة الإسلام إلي التعمير والبناء ، لفضيلة الشيخ / عبد الناصر بليح
خطبة بعنوان : دعوة الإسلام إلي التعمير والبناء ، لفضيلة الشيخ / عبد الناصر بليح.
لتحميل الخطبة أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
الحمد لله رب العالمين خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ادخر لعباده أجزل الثواب لقاء ما قدموا من عمل صالح فنعم أجر العاملين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها محمد صلي الله عليه وسلم .
قال – وما ينطق عن الهوى :” من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفور له”( السيوطي) ويقول صلي الله عليه وسلم ” ما أكل أحد طعاما خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده”( ) اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد فيا جماعة الإسلام وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) [ 36/33-35].
لقد دعا الله عز وجل إلى العمل والاحتراف في شتى المجالات ودعوة الإسلام إلى هذا لم تكن من فراغ وإنما من أجل إيجاد حياة كريمة منعمة للفرد والمجتمع لأنه من لم يملك قوت يومه لم يملك حريته .
ولقد وردت في القرآن وفي السنة أمثلة كثيرة تؤكد على هذا المعنى وقيمته الخطيرة وتصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ذوي حرف وصناعات برغم مسئولياتهم الهائلة في الدعوة إلى الله وانشغالهم بذلك عن العمل والاحتراف ولولا أن الله جلت قدرته اختار لهم أن يحترفوا وأن يكسبوا قوتهم بعرق جبينهم هذا رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول بشأن داود عليه السلام ” ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده “( البخاري وأحمد). فنبي الله داود عليه السلام كان يعمل حداداً يصنع السيوف ، ونبي الله نوح عليه السلام كان يعمل نجاراً يصنع الفلك وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [ هود 11/37].
ونبي الله موسى عليه السلام اشتغل برعي الغنم عشر سنين أجيراً في أرض مدين قبل أن يبعثه الله رسولاً ونبي الله زكريا كان يعمل خواصاً ونبينا محمد صلي الله عليه وسلم كان يرعى الغنم في صدر شبابه على قراريط ثم اشتغل بالتجارة في مال خديجة بنت خويلد زوجته رضي الله عنها فيما بعد .
فهؤلاء هم أقطاب النبوة وألو العزم من الرسل وقد شرفوا باحتراف مهنة يعيشون على كسبها ويستعينون بها عن سؤال الناس فهذا هو خير الطعام .
ولا ريب أن هؤلاء الرسل لم يكونوا أغنياء يجمعون المال ويكنزونه وإنما كان كل ما حصلوه وسيلة للعيش الكريم الذي يحفظ كرامة الإنسان ويقيه ذل السؤال ويصون ماء وجهه قبل أن يصون أنفاس الحياة ..
وليس ذلك من أجل كثرة الغنى ” وليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس “( أحمد والترمذي). التسول عار والاحتراف شرف فقد نهى الإسلام عن التسول والمتسولين وعلى الذين يجلسون عالة على غيرهم وهو ما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم :” المسألة تأتي نكتة سوداء في وجه صاحبها يوم القيامة “. ويقول من جلس إلى غني لينال من ماله فقد ذهب ثلث دينه ” ويقول صلي الله عليه وسلم ” من فتح باب مسألة فتح الله عليه باب فقر”(صحيح ) لذلك نجده صلي الله عليه وسلم يدعوا إلى العمل والاحتراف خيراً من المسألة فعن الزبير ابن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :” لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس : أعطوه أو منعوه “( ابن ماجة). لذلك دعي الرسول صلي الله عليه وسلم إلى الاحتراف وجعله طريقاً إلى حب الله عز وجل فعن ابن عمر رضي الله عنهما :” أن الله يحب المؤمن المحترف “( الترمذي والطبراني والسيوطي).
وتركيز الرسول على عمل الرجل بيده إعلاء لشأن الحرف التي تبدوا في أعين الناس شاقة أو مهينة لذلك قال تزكية للحرفيين والصناع الذين يمارسون بأيديهم الجهد والمجاهدة أعمالهم :” إن الله يحب المؤمن المحترف “.
وحين يسأل أي الكسب أفضل قال صلي الله عليه وسلم :” أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور”( أحمد والحاكم). وحين يلقى بعض الصحابة ذات يوم ويجد في يديه خشونة فيسأله ما بال كفيك قد امجلتا فيجيبه الصحابي من أثر العمل يا رسول الله فيرفع الرسول كفيه على ملأ من الصحابة ثم يقبلها ويلوح بهما كأنهما راية ويقول مباهياً كفان يحبهما الله ورسوله .
العمل جهاد في سبيل الله ومغفرة للذنوب ذات يوم كان صلوات الله عليه وسلامه يجلس مع أصحابه مر به رجل يتفجر نشاطاً وعافية يسرع الخطى نحو غايته وعمله ولفت نظر الصحابة نشاطه وحيويته فقال قائلهم متعجباً يا رسول الله لولا كان هذا في سبيل الله :فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :” إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان”( الطبراني) فالعمل في الإسلام ليس بظاهره وشكله وإنما ببواعثه وغايته لذلك جعل الرسول صلي الله عليه وسلم هذا العمل ومغفرة لذنوب العبد يقول صلي الله عليه وسلم من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفور له”( السيوطي).
ومع أن الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين ومع أن الصيام سر بين العبد وبين ربه يجزى عليه ” كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به “.
ورغم أن الصدقة تطفئ غضب الرب وتقي من الميتة السوء ومع ذلك هناك ذنوب لا تكفر بهذه الأعمال ولمن يكفرها العمل والسعي على المعاش . العمل في شتى المجالات ودعا الإسلام إلى العمل الحر الشريف الذي يصون كرامة الإنسان بشرط الإتقان في العمل والبعد عن الحرام .
قد دعا الإسلام إلى التجارة وقال تسعة أعشار الرزق في التجارة ” ولكن العمل في التجارة مثلاً بالكذب والغش والطمع والأنانية فنجد الرسول صلي الله عليه وسلم يقول :” التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء “( الترمذي والحاكم). ويقول :” إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا”( الترمذي) “رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” أما حين يغير التاجر يقول صلي الله عليه وسلم :” إن التجار هم الفجار قيل ولما يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع قال بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون”(صحيح ).
ويحذر الرسول التجار من كثرة الحلف ” خاب وخسر المنفق سلعته بالحلف الكاذب ” ويقول ” ويل للتاجر من بلي والله ولا والله”. لذلك كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان ينزل السوق ويقول لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في دينه وإلا أكل الربا شاء أو أبى. وحين يكون العمل في مجال الصناعة نرى الرسول يقول ويل للصانع من غد وبعد غد ” كذلك الصناعة قوامها الإتقان :” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”(حسن). كذلك أيضاً فيها أجر فيقول ” أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه ” وحين يكون في مجال الزراعة يقول صلي الله عليه وسلم ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها”( أحمد). “وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ” [ النساء /110].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ..
أما بعد فيا جماعة الإسلام .. لا زلنا نواصل الحديث عن العمل وشرفه وأنه هو الطريق الوحيد إلى رضاء الله وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) [ التوبة 9/105] ، فإذا قبل الله منا أعمالنا وأدخلنا الجنة وجعلنا خالدين فيها فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) [ الزمر 39/74].
لذلك ولكي ننل رحمة الله وتوفيقه قريبين منا ونحن نعمل يوصينا الرسول صلي الله عليه وسلم بواجبات العمل وآدابه وأولها البكور إليه . ويدعونا الرسول صلي الله عليه وسلم إلى جانب إتقان العمل والإقبال عليه في حيوية ونشاط من أجل هذا يوصي بالبكور في السعي إلى العمل فيقول الرسول صلي الله عليه وسلم ” اللهم بارك لأمتي في بكورها”( أحمد) ويقول :” باكروا الغدو في طلب الرزق فإن الغدو بركة ونجاح”(السيوطي). عدم التكالب على جمع المال ومن آداب الرزق عدم مزاحمة الآخرين في طلب والبيع على بيع الآخرين يقول صلي الله عليه وسلم ” لا بيع أحدكم على بيع أخيه”(البخاري).
ويقول صلي الله عليه وسلم محذراً من التكالب على جمع الرزق إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله”( ). ويقول صلي الله عليه وسلم ” من أصبح آمنا في سربه معافا في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها”(الطبراني)..
ويحدثنا أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلم فيقول ” جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلو هذه الآية ” ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ” فجعل يرددها ويقول يا أبا ذر لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم”( أحمد). إننا مطالبون بعمارة الأرض والسعي على الرزق ولكن ليس معنى هذا أن نتحول إلى أطماع مسعورة هذا ما يحذر منه الإسلام ” من كانت همه الآخرة جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا راغمة ومن كانت الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له”(السيوطي ).