خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة بعنوان: صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان للشيخ أحمد أبو اسلام
بتاريخ : 13/12/ 2024 11/ جمادى الآخرة /1446
خطبة بعنوان صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
بتاريخ : 13/12/ 2024
11/ جمادى الآخرة /1446
إعداد الشيخ أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
عناصر الخطبة :
١- أهمية العقل
٢- المؤمن العاقل
٣- عناية الإسلام بالعقل
٤ـ العقل له حدود
المقدمة
———
الحمد لله خالق كل شيء وهاديه، ورازق كل حي وكافيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم التواب، العظيم الوهاب، ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، المبعوث بالهدى والرحمة والنور، هو صفوة الباري وخاتم رسله، وأمينه المخصوص بفضله:
لا درَّ دُرُّ الشعرِ إن لم أُملِهِ *** في مدح أحمدَ لؤلؤًا منثورَا
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل المشهور، والعمل المبرور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أهمية العقل
—————
أيها المؤمنون: ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل، والذي يستطيع أن يميز به بين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ويدرك به التكاليف الشرعية، ويتدبر به الآيات القرآنية، ويفهم به الأحاديث النبوية، ويجتهد به في أموره الدنيوية؛ فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه.
ويكفي الإشارة إلى أهمية العقل في كتاب الله أنها تكررت كلمة العقل ومشتقاتها حوالي سبعين مرة، وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن وظائف العقل؛ كالتفكر والتأمل والنظر في آيات الله وفي الأنفس والآفاق، والتي لا يمكن حصرها من كثرتها في كتاب الله.
أما ذكر العقل باسمه وأفعاله في القرآن الكريم، فقد ذُكر 50 مرة تقريبًا.
وأما ذكر أُولي الألباب – أي: العقول – ففي بضع عشرة مرة.
وأما كلمة “أولي النُّهَى” (جمع نُهْيَة بالضم؛ أي: العقول)، فقد جاءت مرتين في سورة طه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا إلى هذا المعني فقد قال -صلى الله عليه-:”لِيَلِيَنِي مِنكمْ (يعني ليقف خلفي في صلاة الجماعة )أُولُوا الأحْلامِ والنُّهَى ، ثُمَّ الذين يُلُونَهُمْ ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ ، ولا تَختَلِفُوا فتَخْتَلِفَ قلوبُكُمْ ، وإيَّاكُمْ وهَيْشاتِ الأسْواقِ” ( صحيح الجامع) .
وهذا دليل على اعتبار العقل ومنزلته في الرؤية الإسلامية، كما نهى الشرعُ عن الاستدلال بالاعتماد على الظنون؛ لأن الظنون لا تغني من الحق شيئًا، ونهى عن اتباع الهوى وتحكيمه في الاستدلال بالنصوص .
والسنة النبوية الشريفة أشارت أيضاً إلى العقل في العديد من الأحاديث منها ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :(( أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أثيب ، وبك أعاقب )) (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح وفيه تكلم بعض العلماء )
عباد الله، لقد منح الله تعالى عقل الإنسان شأنًا عظيمًا؛ فجعله مناط التكليف، وعلامة الصلاح للأمر والنهي، فمن ملكه صار مكلفًا، ومن قصر عنه كالأطفال أو فقده كالمجانين سقط عنه التكليف. فكان العقل بهذا أساس الأعمال وينبوعها، والمميز بين الأشياء ومرجعها، فلا تكليف على قاصر حتى يبلغ، ولا على مجنون حتى يعقل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق) [رواه أحمد].
المؤمن العاقل
ـــــــــــــــــــــ
عن وهب بن منبه، قال:
” قرأت إحدى وسبعين كتابا فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال جميع الدنيا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا.
وقال وهب بن منبه: وإني وجدت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل، وأنه يكابد مائة ألف جاهل فيسخر بهم حتى يركب رقابهم فينقادون له حيث شاء، ويكابد المؤمن العاقل فيصعب عليه حتى لا ينال منه شيئا.
وقال وهب بن منبه: لإزالة الجبل صخرة صخرة، وحجرا حجرا، أيسر على الشيطان من مكابدة المؤمن العاقل، لأنه إذا كان مؤمنا عاقلاً ذا بصيرة فلهو أثقل على الشيطان من الجبال، وأصعب من الحديد، وأنه ليزايله بكل حيلة، فإذا لم يقدر أن يستزله قال: يا ويله ولهذا، لا حاجة لي بهذا، ولا طاقة لي بهذا، فيرفضه ويتحول إلى الجاهل فيستأسره ويستمكن من قياده، حتى يسلمه إلى الفضائح التي يتعجل بها في عاجل الدنيا، كالجلد، والحلق وتسخيم الوجوه، والقطع، والرجم، والصلب، وإن الرجلين ليستويان في أعمال البر فيكون بينهما كما بين المشرق والمغرب أو أبعد، إذا كان أحدهما أعقل من الآخر “. “حلية الأولياء” لأبي نعيم.
العاقل من يحذر الشَّيْطَان ومَكَايِدهِ : فقد ورد عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ جَحْشٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»
وقد ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا , ” فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: ١] ، يَعْنِي سَيِّدَ النَّاسِ.
{مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: ٢] كُلِّهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
{إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: ٣] يَقُولُ خَالِقُ النَّاسِ.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: ٤] يَعْنِي الشَّيْطَانَ.
{الْخَنَّاسِ} [الناس: ٤] وَهُوَ الشَّيْطَانُ.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {٥} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: ٥-٦] ، يَقُولُ: يَدْخُلُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ كَمَا يَدْخُلُ فِي صُدُورِ الْإِنْسِ، فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ، وَخَرَجَ مِنْ صُدُورِهِمْ .
والشيطان ليس له سلطان على المؤمن الصادق في إيمانه – فقد رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ دَاعِيًا وَمُبَلِّغًا، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» .
يَعْنِي أَنَّهُ يُوَسْوِسُ
وَيُزَيِّنُ الْمَعْصِيَةَ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَجْتَهِدَ فِي مُخَالَفَةِ عَدُوِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: ٦]
وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ صَدِيقَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، فَيُطِيعَ صَدِيقَهُ، وَلَا يَتَّبِعُ عَدُوَّهُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: عَلَامَةُ الْجَاهِلِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْغَضَبُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ النَّفْسِ فِي الْبَاطِلِ، وَالثَّالِثُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَالرَّابِعُ: قِلَّةُ مَعْرِفَةِ صَدِيقِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَيَعْنِي يَخْتَارُ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبِئْسَ الْبَدَلُ طَاعَةُ الشَّيْطَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فقد وقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: ٥٠] ، وَعَلَامَةُ الْعَاقِلِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْحِلْمُ عَنِ الْجَاهِلِ، وَرَدُّ النَّفْسِ عَنِ الْبَاطِلِ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ، وَمَعْرِفَةُ صَدِيقِهِ مِنْ عَدُوِّهِ .
وَذُكِرَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبَّهٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَقِيَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا: أَخْبِرْنِي عَنْ طَبَائِعِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَمَّا صِنْفٌ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِثْلُكَ مَعْصُومُونَ لَا تَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي، فَهُمْ فِي أَيْدِينَا كَالْكُرَةِ فِي أَيْدِي صِبْيَانِكُمْ، وَقَدْ كَفَوْنَا أَنْفُسَهُمْ، وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ، فَهُمْ أَشَدُّ الْأَصْنَافِ عَلَيْنَا، فَنُقْبِلُ عَلَى أَحَدِهِمْ حَتَّى نُدْرِكَ مِنْهُ حَاجَتَنَا، ثُمَّ يَفْزَعَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ فَيُفْسِدُ بِهِ عَلَيْنَا مَا أَدْرَكْنَا مِنْهُ، فَلَا نَحْنُ نَيْئَسُ مِنْهُ وَلَا نَحْنُ نُدْرِكُ حَاجَتَنَا مِنْهُ
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نَظَرْتُ وَتَفَكَّرْتُ مِنْ أَيِّ بَابٍ يَأْتِي الشَّيْطَانُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَإِذَا هُوَ يَأْتِي مِنْ: أَوَّلُهَا: يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْحِرْصِ وَسُوءِ الظَّنِّ، فَقَابَلْتُهُ بِالثِّقَةِ وَالْقَنَاعَةِ فَقُلْتُ بِأَيِّ آيَةٍ أَتَقَوَّى عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَدْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] ، الْآيَةُ.
فَكَسَرْتُهُ بِذَلِكَ.
وثانيها : نَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ يَأْتِي مِنْ بَابِ الطَّمَعِ، فَقَابَلْتُهُ بِالْإِيَاسِ مِنَ النَّاسِ، وَالثِّقَةِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ آيَةٍ أَتَقَوَّى عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {٢} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢-٣] .
اذاً العاقل من يخالف الشيطان ولا يستجيب لوسوسته
يُقَالُ: إِذَا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ أَمَرَ إِبْلِيسُ جُنُودَهُ بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَيَأْتُوا النَّاسَ، ويشغلوهم عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ إِلَى مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ، فَيَشْغَلُهُ لِيُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَمَرَ إِبْلِيسُ بِأَنْ يُوَثَّقَ الشَّيْطَانُ، وَيُقْذَفُ بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُكْرِمُهُ وَيُبَجِّلُهُ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: ١٦] ، يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَلَأَرْصُدَنَّهُمْ وَلَأَصُدَّنَّهُمْ.
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف ( تنبيه الغافلين
عناية الإسلام بالعقل
————————-
ولقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماما كبيرا، وأعلى من منزلته وقيمته ما ورد في كتاب الله -تعالى- من الآيات الكريمة التي تؤكد هذه الأهمية وتلك المكانة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70]، ومن المعلوم أن من أبرز ما فضل الله به الإنسان على سائر مخلوقاته العقل.
معاشر المسلمين: وإن الدلائل على عناية الإسلام بالعقل كثيرة؛ فمن ذلك:
ومنها: أن الإسلام دعا العقل إلى اتباع البرهان، وأمر بنبذ الجهل والهوى والكبر والتعصب والتقليد الأعمى والجدل بالباطل والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة والدجل؛ لأن هذه الآفات كلها تعطل العقل عن وظيفته؛ فيتمسك صاحبه بالخطأ ولو ظهر عواره، ويُعرض عن الصواب ولو استبانت أنواره، قال -تعالى-: (إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[البقرة:170].
ومن هذه المظاهر: أن الإسلام دعا العقل إلى التفكر والتأمل؛ سواء كان التفكر في نصوص الشرع بحسن فهمها والعمل بها، أو التفكر في مجالات الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من عجائب المصنوعات، الدالة على وحدانيته وعظمته وجلاله، والقرآن مليء بالآيات الداعية إلى النظر في سنن الكون وقوانين الحياة، قال -تعالى-: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)[يونس-101].
وعندما نزل على نبينا الكريم عليه السلام، قوله -سبحانه-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران:190] كان في حال عجيبة من التأثر، حيث سئلت عائشة -رضي الله عنها-، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: “يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي”، قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي؛ فلم يزل يبكي حتى بل حِجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيةٌ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)
ومن مظاهر اهتمام الدين الإسلامي بالعقل: أنه دعا إلى تنمية العقول بالحث على التعلم والاستزادة منه؛ لأن العلم زاد العقول، والنصوص الشرعية حافلة بالحث على طلب العلم، وبيان كثرة فضائله ومزاياه، قال الله -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18]، وقال -سبحانه-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11]، وقال -تعالى-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114].
العقل له حدود
——————
أن الدين تعامل مع العقل تعاملاً واقعياً؛ فاعترف بقصوره، وحث على تكميله؛ ولهذا جاء الحث على الشورى، والنصح بين الناس، بل وأرسل الله الرسل وأنزل الكتب لهدايتهم إلى تفاصيل ما لا تهتدي إليه العقول.
ومع تكريم دين الإسلام للعقل واهتمامه به وصيانته له؛ إلا أنه حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع أن يستوعبه ويفهمه حسب قدرته، قال -عليه الصلاة والسلام-: “لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: “آمنت بالله”(رواه مسلم).
وقال -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85]؛ صـرف الجواب عن ماهيتها؛ حتى لا يتيه العقل فيما ليس يدركه، وليس من طاقته، وهذا لا شك تكريم وأي تكريم لعقل الإنسان، ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)[عبس:31]؛ فقال: “هذه الفاكهة قد عرفناها؛ فما الأبُّ؟”، قال: “الأبُّ هو المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب”(صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ)، ثم رجع إلى نفسه فقال: “إن هذا لهو التكلف يا عمر”.
قال بعض أهل العلم: “إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء؛ فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة، وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها، وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التي تتألف منها، والمادة ألصق شيء بالإنسان”.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: “لا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويتخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه”.
يقول أحد الفلاسفة: “يجب على العقل أن يقف في تصوره عند حد التجربة الحسية؛ إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتد إلى الأشياء في أنفسها، فإذا ما حاولنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي تعرف بها الظواهر -أي الزمان والمكان والسببية وغيرها– تورطنا في التناقض والخطأ”.
إضافة إلى أن العقل مطالب بالتسليم للنص الشرعي الصريح ولو لم يفهمه، أو يدرك الحكمة التي فيه؛ لأن الشارع نص على كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر؛ فلا حجة لأحد بعد بيانه؛ كما ذكر ابن تيمية -رحمه الله- مستدلا على ذلك بآيات كثيرة، منها: قوله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التوبة:115]، وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة:3].
أيها المسلمون: مهما ابتكر عقل الإنسان من اختراعات وحل من مشكلات معقدة وكبيرة؛ إلا أنه قاصر وله حدود يجب أن يتوقف عندها؛ فقد لا يستطيع أن يفسر الكثير من الغيبيات التي اختص الله بها نفسه، وقد لا يستطيع أن يعرف من علل الأحكام والتشريعات إلا القليل، ولأن هذا القصور يصاحب العقل؛ فلم يتركه المولى -سبحانه وتعالى- يتخبط دون هداية؛ فأرسل لأجل ذلك الرسل، وأنزل الكتب.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مظلين.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].