خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: علو الهمة وأثره في صلاح الأمة، للدكتور خالد بدير 24 جمادى الأولى 1437هـ – 4 مارس 2016م

خطبة بعنوان: علو الهمة وأثره في صلاح الأمة، للدكتور خالد بدير  24 جمادى الأولى 1437هـ – 4 مارس 2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

ولقراءة الخطبة كما يلي:

 

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: دعوة الإسلام إلى علو الهمة

العنصر الثاني: صور من علو الهمة عند السلف الصالح

العنصر الثالث: علو الهمة في حياتنا المعاصرة بين النظرية والتطبيق

المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: دعوة الإسلام إلى علو الهمة

عباد الله: لقد حثنا الشرع الحنيف على علو الهمة وطلب المعالي في الأمور وكلها .

وقد عرف العلماء الهمة بأنها:” توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق، لحصوله الكمال له أو لغيره.” (التعريفات للجرجاني)

ولقد تضافرت النصوص النبوية على طلب علو الهمة في أعمال الدنيا والآخرة؛ فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. “(البخاري ومسلم)؛ قال ابن بطال: ” فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالي الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالي الأمور” (شرح البخاري)

وقال مالك: ” عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها.”( ترتيب المدارك للقاضي عياض)

لذلك فإن الله سبحانه وتعالي يحب صاحب الهمة العالية ويبغض أصحاب الهمم الدنيئة ؛ فعن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عز وجل يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها » ( الحاكم والطبراني وصححه الألباني في الصحيحة)

قال ابن القيم: ” فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلق جميل. ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خلق رذيل.” (الفوائد) .

ولقد طمأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الهمة العالية بأن الله -عز وجل- يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، فعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن المعونة تأتي من الله العبد على قدر المؤنة .»( البزار والبيهقي وصححه الألباني في الصحيحة)؛ ، وبين صلى الله عليه وسلم أن أكمل حالات المؤمن أن يكون همه الاستعداد للآخرة، وبذلك تأته الدنيا راغمة؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ.”( الترمذي وصححه الألباني في الصحيحة )

أيها المسلمون: وطنوا أنفسكم على علو الهمة؛ فإن من جبل على علو الهمة، لا يرضى بالدون، ولا يقنع بالقليل، ولا يلتفت إلى الصغائر. ” ولهذا قيل: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علوًّا، كالشعلة في النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا. وما أجمل قول عمر بن عبد العزيز: إنَّ لي نفسًا تواقة؛ لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة ! “( عيون الأخبار لابن قتيبة)

وكما أن الناس متفاوتون في العقول والمواهب والقدرات؛ فكذلك هم متفاوتون في الهمم؛ قال الله تعالى: {إن سعيكم لشتَّى}. فعلى قدر الهمة عند الفرد يأتي الجد والاجتهاد والنشاط والعمل.

 

يقول المتنبي:

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ *****       وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها *****        وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

فهمم الناس تتفاوت؛ فمنهم من همته جمع المال؛ ومنهم من همته النساء؛ ومنهم من همته الخمور والمخدرات؛ ومنهم من همته المعاصي؛ ومنهم من همته الجنة والآخرة…إلخ ؛ ومما يدل على تفاوت الهمم عند الناس هذه القصة: ” اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبه، فقال لهم مصعب: “تمنَّوا”، فقالوا: “ابدأ أنت”، فقال: “وِلاية العراق، وتزوُّج سكَينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحهَ بن عبيد الله”، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهَّزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديثُ، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها”، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.” (ربيع الأبرار – الزمخشري)

عباد الله: إن من صفات المؤمن الحق أن يكون عالي الهمة , رفيع الرغبة في تحقيق معالي الأمور التي تنفع صاحبها في الدارين؛ فهو لا يرضى بالدون إذا كان قادراً على تحقيق المعالي , ولا تطاوعه نفسه على أن يكون في مؤخرة الركب وهو قادر على أن يكون في المقدمة , ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بعدد أبواب الجنة وأنها ثمانية نهضت نفس أبي بكر الصديق التواقة إلى أعلى المنازل فتمنى الدخول من الأبواب كلها , جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من أنفق زوجين في سبيل الله ، نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة . فقال أبو بكر رضي الله عنه : بأبي وأمي يا رسول الله ، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ . قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم ”

فانظر إلى الهمة وتأمل في هذا السمو , ولعل هممنا في هذه الأيام أن تعلوا وترتفع لبلوغ أعلى المنازل , وتصل إلى أعلى الدرجات , ولقد كان رسول الهدى عليه الصلاة يربي أصحابه على الهمم العالية فكان يقول لأصحابه :” إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنها وسط الجنة وأعلاها وفوقها عرش الرحمن؛ ومنها تفجير أنهار الجنة. ” ( الصحيحة للألباني)

إن الهمم الغالية العالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور:

قلت للصقر وهو في الجو عالٍ … اهبط الأرضَ فالهواءُ جديبُ

قال لي الصقر: في جناحي وعزمي … وعَنانِ السماء مرعًى خصيبُ

العنصر الثاني: صور من علو الهمة عند السلف الصالح

أيها المسلمون: لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين مخبتين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشير بعلو همتهم في جميع مجالات الحياة؛ في العلم والعمل؛ في الجهاد لإعلاء كلمة الله؛ في التوبة والاستقامة، في العبادة والإخبات….إلخ

– فعلو الهمة في مجال العبادة نجد الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة في الهمة العالية في العبادة. فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!” (متفق عليه)؛ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قَالَ قِيلَ وَمَا هَمَمْتَ بِهِ قَالَ هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ” (متفق عليه)

وقد دفعت الهمة العالية عند الصحابة أن يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في وصال الصوم؛ ونهاهم عن ذلك كما جاء في الصحيحين.

وتتجلى الهمة العالية عند عبدالله بن عمرو لما جعل يساوم النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام والقيام؛ فعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ. فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”(البخاري)؛ قارن بين علو هذه الهمم ودناءة هممنا مع الله في العبادة والصيام والقيام!!!

– وفي مجال علو الهمة في قراءة القرآن نجد الصحابة يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم في إقرارهم على ختمة القرآن في أقصر وقتٍ ممكن؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قلتُ: يا رسولَ اللهِ في كم أقرأُ القرآنَ ؟ قال: اقرأهُ في كلِّ شهرٍ قال : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك قال : اقرأهُ في خمسٍ وعشرينَ . قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك . قال : اقرأهُ في عشرينَ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك . قال : اقرأهُ في خمسِ عشرةَ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك . قال : اقرأهُ في سبعٍ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك قال : لم يفقهْ من قرأَ القرآنَ في أقلِّ من ثلاثٍ ” (رواه أحمد والألباني في الصحيحة).

– وفي مجال العلم نجد الهمة العالية في طلبه والمداومة عليه عند السلف الصالح؛ حتى أن أحدهم لا يجد وقتا يأكل فيه لقيمات يقمن صلبه؛ فقد كانت ساعات الأكل لقوام حياتهم ومعاشهم ثقيلة عليهم، فقد سألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي – رحمه الله -: ما هي أثقل الساعات عليك؟ قال: ساعة آكل فيها.

وكَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يَشْرَبُ الْفَتِيتَ وَلَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيْنَ مَضْغِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْفَتِيتِ قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً «كتاب المجالسة وجواهر العلم»

وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري يقول:” أثقل الساعات عليَّ ساعة آكل فيها.” فالله أكبر ما أشد علو الهمة في طلب العلم عنده؟! وما أوقد الغيرة على الوقت لديه؟!

قلت متعجباً: أثقل ساعات عليه ساعة الأكل؛ مع أنه مباح وواجب لقوام الحياة وحفظ النفس؛ وما يتوصل به إلى الواجب فهو واجب، فكيف حالنا ونحن نُضَيِّعُ أوقاتنا في الفراغ والحرام وأمام المسلسلات والأفلام وعلى القهاوي والطرقات، وعلى النت والمعاكسات؟!!

العلم يبني بيوتا لا عماد لهـــا … والجهل يهدم بيوت العز والكـــــــــرم

قال الشوكاني في الحثِّ على علو الهمة في طلب العلم: “إنَّ الله سبحانه قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18]. وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}ُ [فاطر:28].؛ وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن العلماء ورثة الأنبياء. وناهيك بهذه المزية الجليلة، والمنقبة النبيلة، فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب، وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة، ولا تساميه منقبة، ولا تقاربه مكرمة.” (أدب الطلب ومنتهى الأدب)

-وفي مجال علو الهمة في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله؛ نجد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين على الموت في سبيل الله كحرصنا على الحياة؛ فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.” (البخاري ومسلم) ؛ يلخص الإمام ابن حجر مظاهر الهمة العالية عند أنس بن النضر فيقول:” وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد: جواز بذل النفس في الجهاد ، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها ، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة . وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين . قال الزين بن المنير : من أبلغ الكلام وأفصحه قول أنس بن النضر في حق المسلمين ” أعتذر إليك ” وفي حق المشركين ” أبرأ إليك ” فأشار إلى أنه لم يرض الأمرين جميعا مع تغايرهما في المعنى.”أ.ه (فتح الباري).

وفي غزوة بدر لما دنا المشركون؛ جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشحذ همم الصحابة رضي الله عنهم فقال:” قوموا إلى جنَّةٍ عرضُها السَّمَواتُ والأرضُ. فقالَ عميرُ بنُ الحمامِ الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ، جنَّةٌ عرضُها السَّمواتُ والأرضُ؟ قال: نعَم ، قال: بخٍ بخٍ ، فقالَ رسولُ اللهِ وما يحملُكَ علَى قولِ بخٍ بخٍ؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، إلَّا رجاءَ أن أَكونَ من أَهلِها ؟ قال: فإنَّكَ من أَهلِها . . . فأخرجَ تمراتٍ من قرنِهِ، فجعلَ يأْكلُ منْهنَّ. ثمَّ قال: لئِن أنا حييتُ حتَّى آكلَ تمراتي هذِهِ إنَّها حياةٌ طويلةٌ ، فرمى ما كانَ معَهُ منَ التَّمرِ ثم قاتَلَهم وهو يقولُ : رَكضًا إلى اللَّهِ بغيرِ زادِ إلَّا التُّقى وعملِ المعادِ والصَّبرِ في اللَّهِ علَى الجِهادِ وَكلُّ زادٍ عرضةُ النَّفادِ غيرَ التُّقى والبرِّ والرَّشادِ فمازالَ حتَّى قُتلَ َ “.(مسلم)

ورُوي أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه -في سرية مؤتة- فقُطِعت، فأخذه بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلًا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين .. فلما قُتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال- كما جاء في سيرة ابن هشام-:

أقسمتُ يا نفس لَتنزِلنهْ … لتنزلن أو لتُكرَهِنَّهْ

أن أجلب الناس وشدُّوا الرنَّه … ما لي أراكِ تكرهين الجنة

عباد الله: لم يقتصر علو الهمة في الجهاد على الرجال؛ بل امتد ليشمل الأحداث والصبية؛ فقد بلغ علو الهمة منتهاه عند الصبيان والغلمان الذين تربوا في مدرسة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن أحدهم يضحي بنفسه في سبيل الله ويسلك كل السبل والوسائل من أجل إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الاشتراك في الحروب والغزوات؛ فعن سعد بن أبي وقاص قال:” رأيت أخي عمير بن أبي وقاص – قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، للخروج إلى بدر – يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. قال فعرض على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستصغره فقال ارجع، فبكى عمير فأجازه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فكنت أعقد له حمائل سيفه من صغره فقتل ببدر وهو بن ست عشرة سنة، قتله عمرو بن عبد ود.” ( الطبقات الكبرى لابن سعد)

– كما ارتفعت هممهم وبلغت منتهاها في مجال تبليغ الدعوة ووصول الدين إلينا وإلى ربوع العالم؛ وتحملوا في سبيل ذلك قسوة ومرارة الاضطهاد والأذى والتعذيب؛ فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ:” شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ؛ قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ؛ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ؛ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.” ( البخاري)

– وفي مجال علو الهمة والسبق إلى أعمال الخير والبر نجد أبا بكر – رضي الله عنه – الرجلَ الذي ما وَجَد طريقاً علِم أنَّ فيها خيرًا وأجرًا إلاَّ سلَكها ومشَى فيها، فحينما وجَّهَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى أصحابِه بعضَ الأسئلةِ عن أفعالِ الخيرِ اليوميَّة، كان أبو بكرٍ الصديق هو المجيب، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ” مَن أصبحَ مِنكُم اليومَ صائمًا؟ “، قال أبو بَكرٍ: أنا، قال: ” فمَن تَبِع مِنكم اليومَ جنازةً؟”، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ” فمَن أَطْعَم منكم اليومَ مِسكينًا؟ “، قال أبو بكر: أنا، قال: ” فمَن عادَ مِنكم اليومَ مريضًا؟”، قال أبو بكر: أَنا، فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ” ما اجْتمَعْنَ في امرئٍ إلاَّ دخَل الجَنَّةَ .”( أخرجه مسلم)

– وفي مجال الإنفاق نجد علو الهمة في التنافس بين الصحابة؛ وكان أبو بكر رضي الله عنه له السبق؛ عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته أن يتصدقوا ، يقول عمر: ووافق ذلك عندي مالا فقلت : اليوم أسبق أبا بكر ، فجئته بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ فقال : أبقيت لهم الله ورسوله ، عندئذ قال عمر : لا أسبقه إلى شيء أبدا ” (رواه الترمذي)؛ بل إن الصحابة كانوا يرون أن ليس لهم حق في أموالهم؛ وليس موقفهم في غزوة بدر ببعيد حيث قالوا: خذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت؛ وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت!!

وشواهد الإنفاق وعلو الهمة فيه أكثر من أن تحصى وقد ذكرناها قبل ذلك مرارا وتكرارا .

وهكذا كانت حياة الصحابة والسلف الصالح مملوءة بالهمم العالية في كل مجالات الحياة؛ مما أهلهم أن قادوا وسادوا !!

العنصر الثالث: علو الهمة في حياتنا المعاصرة بين النظرية والتطبيق

أيها المسلمون: لو نظرنا إلى واقعنا المعاصر ووضعنا همم الرجال والنساء والولدان في الميزان؛ لوجدنا أن هممنا في جميع المجالات الدينية والدنيوية قد بلغها العجز والقصور؛ فنجد الفرد منا لو سجد لله سجدة أو تصدق بدرهم أو صام يوما يظن أنه قد بلغ القمة في علو الهمة؛ ولا يدري هذا المسكين أن أفعاله الزهيدة هذه قد تكون وبالا عليه في دنيا وأخراه؛ ولذلك يقول الإمام الغزالي – رحمه الله – : ” إن العبد ليسجد سجدةً لله يظن أنه تقرب بها إلى الله والذي نفسي بيده لو وُزع ذنب هذه السجدة على البلدة كلها لكفتهم ، قيل له : لماذا ؟ قال : لأنه يسجد برأسه لمولاه وقلبه منشغلٌ بدنياه ”

هذا في مجال الطاعة؛ أما في مجال المعصية فإن الهمم نحو فعل المعصية عالية قد بلغت ذروتها؛ ومع ذلك يظن صاحبها أنها ليست بمعصية أو ليست بشئ!!

فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ؛ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ ” (البخاري)؛ قال ابن بطال:” إنما كانوا يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن لهم كبائر.” ؛ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ” إن المُؤمنَ يَرى ذَنبَهُ كأنَّهُ في أصل جَبَل يَخافُ أن يَقَعَ عَليه؛ وإنّ الفاجرَ يَرى ذُنوبَهُ كَذُباب وَقَعَ عَلى أنفه فقال لَهُ هكذا “( رواه الترمذي وأحمد والبخاري موقوفاً علي ابن مسعود)

ولو أنك سألت صاحب هذه المعصية يقول لك: كل الناس تفعل ذلك؛ وكأنه أصبح عرفا مشروعا!! ألا يعلم هذا المسكين أنه أهلكُ الناسِ؟!! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ”(مسلم)؛ ألا يعلم هذا المسكين أن أصحاب المعالي قلة؛ فعن ابن جدعان قال: سمع عمر رجلًا يِقول: “اللهم اجعلني من الأقلين”، فقال: “يا عبد الله! وما الأقلون؟ “، قال: سمعت الله يقول. {وما آمن معه إلا قليل}، {وقليل من عبادي الشكور}، وذكر آيات أخر، فقال عمر: “كل أحد أفقه من عمر”. لذلك قال سفيان بن عيينة: “اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها”. وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: “الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين”. فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يُحَصِّل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة، وإلا انقطع به السبيل.

وكبير الهمة -كما يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالي-:” لا يكترث بمخالفه الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، وكلما استوحشت في تفردك؛ فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك، وعاقوك؛ فالملتفت لنعيق الباطل كالظبي، والظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحسَّ به؛ التفت إليه، فيضعف سعيه، فيدركه الكلبُ، فيأخذه” (مدارج السالكين)

يا صاحب الهمة: لا تقل إن منتهي همتي وغاية جهدي ما أنا عليه؛ فهذا حال الكلاب والحيوانات؛ يستحيل أن يتغير جنسها أو وصفها أو اسمها إلى درجة أرقى أو أعلى!! وقد ذكر ابن الجوزي قصة طريفة في ذلك فقال: ” هب أن الكلب قال للأسد: “يا سيد السباع! غيِّر اسمى فإنه قبيح”، فقال له: “أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم”، قال: “فجربني”، فأعطاه شقة لحم، وقال: “احفظ لي هذه إلى غدٍ، وأنا أغير اسمك”، فجاع، وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه، قال: وأي شيء باسمي؟!، وما “كلب” إلا اسم حسن ، فأكل. قال ابن الجوزي -رحمه الله- معلقًا: وهكذا خسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على أجل الفضائل!! …. فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، فانظر كيف تطفئه؟!! “( صيد الخاطر)

أيها المسلمون: خلق الله الملائكة بعقل وبلا شهوة؛ وخلق الله الحيوانات بشهوة ولا عقل لها؛ وكرم الله الإنسان بأن خلقه بعقل وشهوة؛ فهو جمع بين صفات العالم العلوي والسفلى؛ فإن اجتهد وتغلب على شهوته وقمعها ارتفع بنفسه إلى المعالي؛ وإن اتبع نفسه هواها وانغمس في الشهوات حط بنفسه إلى العالم السفلي!! قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }(الأعراف: 179)

فالإنسان – بعلو همته من عدمه – موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي، وبين صفات وصفاء العالم العلوي:

فَيَحِنُّ ذاك لأرضه بِتَسَفُّلِ ….. ويحن ذا لسمائه بتصعُّدِ

قال ابن الجوزي: “من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدون دني.”  (صيد الخاطر) .

وقد وصف سعد بن معاذ -رضي الله عنه- المشركين، فقال: “رأيت قومًا ليس لهم فضل على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم: قوم يعرفون ما جهل أولئك، ويشتهون كشهوتهم”.

ومن يتهيب صعود الجبال … يَعِشْ أبد الدهر بين الحُفَر

عباد الله: إننا يجب علينا أن نربي شبابنا وصغارنا على علو الهمة؛ فهم الذين يحملون هموم الأمة ؛ ويكشفون عن أفرادها كل غمة!! وهذا ما تمناه فاروق هذه الأمة؛ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا لأصحابه: “تَمَنُّوا” فقال رجل: “أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا، أنفقه في سبيل الله عز وجل”، فقال: “تمنوا”، فقال رجل: “أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل-، وأتصدق به”، ثم قال: “تمنوا”، قالوا: “ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ “، قال عمر: “لكنى أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالًا مثل أبى عبيدة بن الجراح!!” ( حلية الأولياء )

فهيا اغرسوا في أولادكم وشبابكم علو الهمة؛ قبل أن يفوتكم قطار العمر وأنتم لا تشعرون؛ وقتها تندمون ولا ينفعكم الندم!! ولا يقل أحدكم أن ولدي صغيرٌ ؛ فإن غَرْسَ علو الهمة مقرون بالولد منذ ولادته؛ فقد جاء رجلٌ إلى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يسترشده لتربية ابن له، ويغرس فيه علو الهمة؛ فسأله: “كم عمره؟ “، قال: “شهر”، قال: “فاتك القطار”، وقال: “كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت، وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمُّه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا !!

لذلك فقه سلفنا الصالح هذه المعاني وغرسوها في نفوس أبنائهم؛ قال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم وقد نحَّوا الفتيان عن مجلسهم، فقال: “لا تفعلوا! أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قومٍ أصبحنا كبار آخرين”.

أحبتي في الله: أين نحن من طرد الأولاد من المساجد؟!! أين نحن من ترك الأولاد فريسة للنت والدش ووسائل الهدم الحديثة؟!! أين نحن من ترك أولادنا دون توجيه أو تربية على علو الهمة ومعالي الأمور وتحمل المسئوليات؟!!

عليكم أن تعلموهم سيرة السلف الصالح وكيف كان علو الهمة عندهم صغارا وكبارا !! فإن تعلم ذلك يعلى من همة الآباء والأبناء على السواء. يقول ابن الجوزي: “فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة…

فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم.” . إلى أن قال: ” فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب.” (صيد الخاطر)

قال ابن هانئ الأندلسي:

ولم أجِد الإِنسانَ إِلا ابن سعيِه…………..         فمن كان أسعَى كان بالمجدِ أجدرا

وبالهــــــــمةِ العلياءِ يرقَى إِلى العُلا…………..فمن كـــــــــان أرقَى هِمَّةً كان أظهرا

ولم يتـــــــــأخرْ مَن يريــــدُ تقدمًا…………..ولم يتقـــــــــــــــــــــــــــدمْ مَن يريــــــــــــــدُ تأخرا

إنني أذكر تلك الوصية التي كان يوصينا بها أساتذة الجامعة في فترة الدراسة لنا حيث قالوا: من كانت همته الحصول على تقدير ممتاز فسيحصل على ( جيد جدا ) ؛ ومن كانت همته الحصول على ( جيد جدا ) فسيحصل على ( جيد ) ؛ ومن كانت همته الحصول على ( جيد ) فسيحصل على ( مقبول ) ؛ ومن كانت همته الحصول على مقبول  فسيحصل على ( الرسوب )!!

عباد الله: وختاما أقول: عليكم بإخلاص النية في الهمة بأعمالكم؛ فإن همة المؤمن أبلغ من عمله؛ قال صلى الله عليه وسلم : “من هَمَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة….” (البخاري)؛ وقال :”من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه” (مسلم).

الدعاء،،،،،                                                      وأقم الصلاة،،،،،

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى