خطبة بعنوان: “فروض الكفاية ودورها في بناء المجتمع”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 13 من جمادي الأولى 1438هـ – 10 فبراير 2017م
خطبة بعنوان: “فروض الكفاية ودورها في بناء المجتمع“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 13 من جمادي الأولى 1438هـ – 10 فبراير 2017م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية فروض الكفاية في الإسلام
العنصر الثاني: صور ومجالات فروض الكفاية
العنصر الثالث: أثر فروض الكفاية في بناء المجتمع
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: أهمية فروض الكفاية في الإسلام
عباد الله: إننا لو نظرنا إلى الفرائض والواجبات التي فرضها الله علينا لوجدنا أنها تنقسم إلى قسمين: فرض عين؛ وفرض كفاية.
وفرض العين هو ما طلبه الشارع من الفرد بعينه طلبا جازما ويثاب فاعله ويعاقب تاركه؛ ومنه العبادات : كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها؛ وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي جاء يسأله عن هذه الفرائض؛ فعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ ؟ قَالَ : ” الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا ” ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ ؟ قَالَ : ” صِيَامُ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا ” ، قَالَ : أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الإِسْلامِ ، قَالَ : وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا ، وَلا أَنْتَقِصُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ” أَوْ ” دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ” .( متفق عليه ). فمن أدى هذه الفرائض فلنفسه؛ ومن قصر فيها فعلى نفسه أيضاً. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
أما فرض الكفاية فهو:”ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به البعض فقد أُدي الواجب، وسقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين؛ أثموا جميعاً بإهمال هذا الواجب”.(أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف).
فالمقصود من فرض الكفاية هو إقامة الفعل واقعاً، بقطع النظر عن فاعله، فمقصود الشارع منه إيجاد الفعل دون تعيين للمنشئ لذلك الفعل، مثل: غسل الميت والصلاة عليه، وإنجاء الغريق، وفضّ الخصومات بين الناس، وإقامة العدل بتولية الولاة الأكفياء القادرين، وغيرها من فروض الكفاية الأخرى، فمقصود الشارع من هذه الفروض مطلق الإيجاد دون نظر إلى ذات الموجد.
كما أنه يأثم جميع المكلفين إن لم يتحقق المقصود من الفعل واقعاً، فالتقصير في إقامة الواجبات الكفائية مؤذن بإلحاق الإثم الأخروي بكافة أفراد الأمة على حد سواء، وفي هذا تعبير عن البعد الاجتماعي لفرض الكفاية، وضرورة وجود تنسيق بين أفراد المجتمع حتى يكفلوا بذلك إقامة الواجبات الكفائية وتطبيقها في حيز الواقع؛ لأن التراخي في إقامة هذه الفرائض سيعود أثره على الجميع، وسيتحمل كافة المكلفين من أفراد الأمة مسؤولية التقصير في أدائها.
وفي هذا – أيضاً – تمييز لفرض الكفاية عن فرض العين الذي يقتصر فيه الإثم على الفرد الذي وقع منه التقصير، ولا يتناول هذا الإثم عموم الأمة وأفراد المجتمع.
وفرض العين لا يمكن أن يتحول إلى فرض كفاية؛ ولكن فرض الكفاية يمكنه أن يتحول إلى فرض عين. مثال ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا إذا رأيت إنسانا يرتكب معصية وكان لا بد من نهيه ولا يوجد مع ذلك الشخص إلا أنت فبذلك يتحول فرض الكفاية إلى فرض عين عليك.
أحبتي في الله: إن الفقهاء حين قارنوا بين فرض العين وفرض الكفاية من حيث الفضل والأجر قالوا: إن القائم بفروض الكفاية له خيرية عن القائم بفروض العين وذلك لإسقاط الحرج عن جميع المسلمين ..وورد عن إمام الحرمين: “إنه أفضل من فرض العين” بمعنى إنه إذا خير الإنسان بين فرض العين وفرض الكفاية وليس هناك فرصة لفرض العين فعلى الإنسان أن يقوم بفرض الكفاية؛ وله بذلك أجرٌ عظيمٌ عند الله؛ فإنقاذ المشرف على الغرق مثلاً أولى من الصيام في حق صائم لا يتمكن من إنقاذه إلا بالإفطار؛ وصلاة الكسوف لمن قال إنها فرض كفاية حين يخاف فوتها هى أولى من المكتوبة التي لم يضق وقتها.
وأنه إذا كان فرض العين متوجها إلى الإنسان وعلاقته بخالقه فإن فرض الكفاية يتوجه إليه لنفع غيره من سائر المسلمين؛ لذلك فإن فرض الكفاية يتعدى فاعله إلى غيره؛ ففائدته أعم من فرض العين؛ وبالتالي إذا أدى المسلمون فروض الكفاية فإنها سوف تسد جانباً من جوانب حياة المسلمين الحاضرة والمستقبلية.
ومن هنا كان فضل العلم والدعوة إلى الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات، لذلك قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام، ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة ! ، فقدم العمل المتعدي نفعه إلى الغير؛ على العمل القاصر نفعه على صاحبه، فقيامه بتعليم الناس أولى من العبادة، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، وهذا الذي جعل الشيطان يفرح بموت العلماء أكثر مما يفرح بموت العباد ، فروي أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العُبَّاد؟!!! فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق، لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بموت الواحد من العلماء. قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السماوات في جوف بيضة؟ قال العابد: لا. وهذا جهل كبير. ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السماوات في بيضة؟. قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسماوات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال الشيطان لجنوده: انظروا الفرق بين هذا وهذا. انظروا كيف كذب الأول بجهله، وكيف اعتصم الثاني بعلمه، وكيف اهتدى بكلمته أناس كثيرون.
لكل ما سبق يتبين لنا أهمية فروض الكفاية في الإسلام ولا سيما في المجالات الآتي ذكرها في عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.
العنصر الثاني: صور ومجالات فروض الكفاية
عباد الله: إن فروض الكفاية تمتد لتشمل جميع مجالات الحياة الدينية والدنيوية :-
فمنها: إيجاد هيئة لإقامة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وهذه الهيئة هي التي يقال عنها الاحتساب أو المحتسب؛ وهذا المحتسب قد يكون واحدا وقد يكون متعدداً وقد يكون متطوعاً أو معيناً من قبل الدولة؛ فالمسلمون جميعاً مطالبون بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ}.( آل عمران: 110). فخيرية هذه الأمة لأنها تقيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ومنها: إعداد والدعاة والخطباء: وتلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم المادية والمعنوية حتى يقوموا بتبليغ الدعوة على أكمل وجه؛ وحتى يتفرغوا لنشر صحيح الدين وقضاياه العصرية المتجددة؛ وكذلك نشر الفكر الوسطي المعتدل؛ وتطهير عقول الشباب من الأفكار المنحرفة المتطرفة؛ وكل هذا لا يتأتى إلا بالتقدير المادي والمعنوي للدعاة؛ فهم حصن وأمان الأمة؛ لأنهم يحملون أشرف رسالة حملها قبلهم رسولنا – صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين!!
ومنها: الجهاد والدفاع عن البلاد وإعداد القوة: وكذلك تعليم وتدريب جيش يدافع عن الأمة؛ فالجهاد والتحصينات يعد من فروض الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن تكتفى فى كل مجال يقودها إلى القوة؛ لأنه سبحانه وتعالى طالبها بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.(الأنفال: 60). ولم يحدد الله تعالى نوع هذه القوة؛ فهى شاملة لكل قوة تصلح الأمة سواء كانت قوة روحية أم علمية أم فنية أم جسدية. قال الإمام أحمد رضي الله عنه : “الغزو واجب على الناس كلهم ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم” .وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني: “والجهاد من فروض الكفايات , في قول عامة أهل العلم “.
ومنها: توفير السكن لمن لا سكن له : وقد كان فى مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى الرغم من صغر مساحته مكان لمن لا مأوى لهم من المهاجرين والأنصار؛ وهؤلاء أطلق عليهم أهل الصفة؛ حتى إنه من إيثاره لهم على أقاربه لما جاءته السيدة فاطمة رضى الله عنها تطلب منه خادماً يعينها على أعمال المنزل بعد أن شكت ما فعلت الرحا بيديها! قال لها: “لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوى بطونهم من الجوع” وهذا يعد نوعاً من أنواع التكافل الاجتماعي والإحساس بالمسئولية ونوعاً من إيواء من لا مأوى له.
ومنها إماطة الأذى عن الطريق: وعدم إلقاء القاذورات على الطرقات وجعل هذه الطرقات صالحة للمشى فيها بدون أذى؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ (البخاري ومسلم).
ومنها: الاهتمام باليتامى والمساكين: الذين لا عائل لهم ولا مأوى؛ والعجزة الذين لا يجدون سبيلاً من أسباب الكسب ؛ وسد الخلات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى؛ وإن هذا المفهوم بلغة العصر، يشمل مؤسسات الإغاثة ومؤسسات الخدمة الاجتماعية والتنمية الاجتماعية، وتأهيل الفقراء علمياً وحرفياً، لتحقيق سد الخلة على الوجه الأكمل، ذلك أن المساعدات المؤقتة تحقق سداً لحاجة جزئية، ولا تدفع الحاجة على وجه الدوام والاستمرار.
بل إن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك في تفعيل فروض الكفايات من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي مراعاة لأحوال الفقراء إذا لم تقم الزكوات بذلك؛ فيفرض على الأغنياء – مع الزكاة – ما يكفي حاجة الفقراء؛ قال ابن حزم:” وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، وإن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف ، والشمس وعيون المارة.” ( المحلى(
ومنها: دفع الضرر: سواء كان هذا الدفع عن طريق رد الأذى أو رد الظلم عن المظلومين أو دفع الضرر عن المضرورين؛ أو إغاثة من يشرف على الهلاك سواء كان مريضاً أو فى لجة أو محرقة أو هدم… كل هذا من فروض الكفايات؛ لهذا فإنه ينبغي على كل إنسان وجد إنساناً مشرفاً على الهلاك أن يغيثه لأن إغاثة المسلم وغير المسلم من الفروض.
ومنها : تزويج العزب والعانس: إذ أن حل مشكلة العنوسة فى المجتمع تدخل فى إطار فروض الكفاية؛ لأن القرآن الكريم قال: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.( النور: 32). والخطاب فى الآية الكريمة موجه للأمة كلها؛ فلو عجز إنسان عن تزويج ابنه أو ابنته توجه الأمر إلى الأمة كلها حتى لا يكون فيها عزب ولا عانس. فمصر فيها أكثر من ثلاثة عشر مليون عانس؛ وأيضاً زيادة النسبة فى كثير من الدول الإسلامية إنما هو دليل على إغفال الأمة لفروض الكفاية.
ومنها: غسل الميت والصلاة عليه ودفنه واتباع الجنائز: قال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: “حق على الناس غسل الميت ، والصلاة عليه ودفنه ، لا يسع عامتهم تركه. وإذا قام به من فيه كفاية أجزأ عنهم ، إن شاء الله تعالى” .
ومنها: تعلم العلوم الدنيوية: فكل العلوم تخدم الإسلام ما دامت هذه العلوم نافعة للإنسان فى دينه ودنياه؛ فلولا تعلم الطب ما تعلم الناس كيفية علاج الأبدان؛ وقد كان رسول الله يعالج وكانت امرأة فى عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – تسمى رفيدة صنع لها خيمة فى مسجده فى غزوة الخندق؛ وكانت تمرض فيها سعد بن معاذ سيد الأوس ..فمن فروض الكفاية أن يكون فى الأمة الطبيب والمهندس والاقتصادي والزراعي والكيميائي والصيدلي؛ وما تتم به المعايش كتعلم أحكام البيع والشراء والحرث وتولى الإمامة والشهادة وأدائها والقضاء وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق والزراعة والتجارة وتعلم اللغات الأجنبية وتعلم الصنائع والحرف… كل هذه من فروض الكفاية لأن الأمة لا تستطيع أن تحيا وتتقدم بدونها؛ لأنه لو خلت البلاد من أصحاب الحرف والصناعات لدخل الحرج على الجميع.
يقول الإمام الغزالي في الإحياء: “إنه يجب على المتكسب أن يقصد بالقيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات والتجارات؛ لو تركت بطلت المعايش، وهلك أكثر الخلق، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، وتكفل كل فريق بعمل، ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا”أ.ه. وفي هذا توجيه لأرباب الصناعة والتجارة بأن تتوجه هممهم نحو النافع والمثمر من ضروب الصناعات والتجارات؛ لأن تركها مؤذن باختلال أمن المجتمع الاقتصادي وهذا ما قصده بقوله: “لو تركت بطلت المعايش وهلك أكثر الخلق”.
وخلاصة القول: فإن فروض الكفاية تشمل جميع مناحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها؛ ولا تسعنا هذه الوريقات في هذه الدقائق في حصر جميع صور فروض الكفاية في جميع هذه المجالات؛ فهي أكثر من أن تحصى؛ وما ذكر على سبيل المثال لا الحصر؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق؛ وبذلك نعلم أن من أهم مقاصد الشريعة من فروض الكفاية أن تتحقق للأمة كل مقوماتها المادية والمعنوية والروحية، مقوماتها المعنوية من ناحية الإيمان والأخلاق والثقافة والعلم، ومقوماتها المادية من الناحية الاقتصادية حتى تتقدم وتنهض ماديا ومعنويا؛ وهذا ما يتبين لنا بوضوح وتفصيل في عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.
العنصر الثالث: أثر فروض الكفاية في بناء المجتمع
عباد الله: إن تفعيل دور فروض الكفايات في كل مجالات الحياة له أثره الفعال في بناء المجتمع؛ فحينما نعد العلماء المتخصصين؛ والأطباء والمهندسين والمعلمين وأصحاب المهن والحرف والصناعات وغيرها من المجالات؛ فإننا بذلك نقيم مجتمعا متوازناً متكافلاً متكافئاً متعاوناً كما ينشده الإسلام.
وفروض الكفاية هذه لا تسقط عن الأمة إلا في حالتين: الأولى: القيام بها من قبل أحد الأفراد وبذلك رفع الحرج عن مجموع الأمة من ناحية فينال بذلك أجراً عظيماً عند الله؛ ومن ناحية أخرى يعمل على بناء المجتمع وتعاونه وتكافله وسد حاجاته.
الحالة الثانية: بعدم القدرة على القيام بها؛ وفى الحالة الثانية يجب حض الآخرين على فعلها؛ ويأثم ويعاقب إن لم يفعل ذلك؛ وقد جاء فى القرآن الكريم أن عدم الحض على إطعام المسكين يوجب عقاب الله قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ}.( الحاقة: 30 – 34 ).
أيها المسلمون: إن السبب فيما نحن فيه من أزمات وغلاء وتأخر في كل المجالات إنما يرجع إلى إهمال فروض الكفايات؛ فلو أن كل الناس أهملوا العلم فمن للجاهل؟! ولو أن كل الناس أهملوا الطب فمن للمرضى؟!! ولو أن كل الناس أهملوا حق المال فمن للفقراء والمحتاجين؟!! ولو أن كل الناس أهملوا الحرف والصناعات فكيف نتقدم؟!! وهلم جرا !!
لذلك حذرنا النبي – صلى الله عليه وسلم- من الاهتمام بفروض الكفايات في أحد مجالات الحياة وترك المجالات الأخرى؛ لأن ذلك يؤذن بهلاك الأمة وتأخرها. فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ؛ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ؛ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ؛ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ”. (أبو داود واللفظ له وأحمد والطبراني بسند صحيح) قال صاحب عون المعبود: ” وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين؛ عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم؛ فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان. وفيه توجيه نبوي شريف إلى وجوب الاهتمام بجميع فروض الكفايات وعدم الاقتصار على الزراعة حتى تنهض الأمة ويبني المجتمع.
المصيبة – أيها المسلمون – أن كل فرد يقول نفسي نفسي ؛ وسيقوم بذلك غيري؛ فيُهمل فرض الكفاية ويفوت الغرض المنشود منه ويأثم الجميع!! وإليكم هذه القصة في هذا المضمون: يحكى أنه حدثت مجاعة بقرية؛ فطلب الوالي من أهل القرية طلبًا غريبًا كمحاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع؛ وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية؛ وأن على كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن بشرط أن يضع كل واحد الكوب متخفيا دون أن يشاهده أحد؛ فهرع الناس لتلبية طلب الوالي؛ فكل منهم تخفى بالليل وسكب الكوب الذي يخصه؛ وفي الصباح فتح الوالي القدر …. وماذا شاهد؟! شاهد القدر وقد امتلأ بالماء!! أين اللبن؟! ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلاً من اللبن؟!
الإجابة: أن كل واحد من الرعية قال في نفسه: ” إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية “؛ وكل منهم اعتمد على غيره؛ وكل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها أخوه، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن، والنتيجة التي حدثت: أن الجوع عم هذه القرية ومات الكثيرون منهم ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات!!
هل تصدق أنك تملأ الأكواب بالماء في أشد الأوقات التي نحتاج منك أن تملأها باللبن؟! عندما لا تتقن عملك بحجة أنه لن يظهر وسط الأعمال الكثيرة التي سيقوم بها غيرك من الناس فأنت تملأ الأكواب بالماء!!! عندما لا تخلص نيتك في عمل تعمله ظناً منك أن كل الآخرين قد أخلصوا نيتهم وأن ذلك لن يؤثر، فأنت تملأ الأكواب بالماء.!! عندما تحرم فقراء المسلمين من مالك ظناً منك أن غيرك سيتكفل بهم؛ فأنت تملأ الأكواب بالماء..!! عندما تتقاعس عن الدعاء للمسلمين بالنصرة والرحمة والمغفرة ؛ فأنت تملأ الأكواب بالماء..!! عندما تضيع وقتك ولا تستفيد منه بالدراسة والتعلم والدعوة إلى الله تعالى؛ فأنت تملأ الأكواب بالماء..!!
عباد الله: ينبغي على كل فرد من أفراد المجتمع أن يبادر ويسارع إلى تفعيل فروض الكفايات من أجل خدمة وطنه ومجتمعه وبني جنسه؛ ولنا القدوة في سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – فقد كانوا دوما في سباق إلى الخيرات ومساعدة ذوي الحاجات والمعدمين؛ فهذا أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – الذي ما وَجَد طريقاً علِم أنَّ فيها خيرًا وأجرًا وخدمة للمجتمع إلاَّ سلَكها ومشَى فيها، فحينما وجَّهَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى أصحابِه بعضَ الأسئلةِ عن أفعالِ الخيرِ والفروض الكفائية والخدمة اليومية لأفراد المجتمع، كان أبو بكرٍ الصديق هو المجيب، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ” مَن أصبحَ مِنكُم اليومَ صائمًا؟ “، قال أبو بَكرٍ: أنا، قال: ” فمَن تَبِع مِنكم اليومَ جنازةً؟”، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ” فمَن أَطْعَم منكم اليومَ مِسكينًا؟ “، قال أبو بكر: أنا، قال: ” فمَن عادَ مِنكم اليومَ مريضًا؟”، قال أبو بكر: أَنا، فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ” ما اجْتمَعْنَ في امرئٍ إلاَّ دخَل الجَنَّةَ .”( أخرجه مسلم).
أيها المسلمون: إن التشريع الإسلامي له غايته ومقاصده العظمى في إقرار فروض الكفايات؛ فبها قوام المجتمع وببنيانه؛ وبإهمالها ينهدم المجتمع ولا تقوم له قائمة؛ فتفعيل فروض الكفاية أمانة ومسئولية في رقبة الجميع؛ ولا يتعذر أحد ويقول: نفسي نفسي ؛ فإن الغلاء عم؛ والبلاء طم؛ وهذه رسالة أوجها لي أولاً قبلكم حتى ننهض بديننا وأمتنا ووطننا ومجتمعنا !!
فما أجمل أن نكون جميعا متعاونين متحابين متكافلين؛ فتسود بيننا علاقات الود والمحبة والتراحم والتكافل !!!
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من العالمين العاملين؛ وأن يجعل هذا البلد آمنا مطمئنا متحدا متعاونا متكافلا وسائر بلاد المسلمين!!!
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي