خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: ماذا قبل الحج؟ ( عشر وصايا لحجاج بيت الله الحرام ) ، للدكتور خالد بدير

خطبة بعنوان: ماذا قبل الحج؟ ( عشر وصايا لحجاج بيت الله الحرام ) ، للدكتور خالد بدير

لتحميل الخطبة أضغط هنا

للإطلاع علي الخطبة كما يلي:

 

  عناصر الخطبة:

الوصية الأولى: إخلاص العمل لله

الوصية الثانية: التوبة ورد المظالم إلى أهلها

الوصية الثالثة: تحري المال الحلال

الوصية الرابعة: تفقهوا قبل أن تحجوا

الوصية الخامسة: طهارة القلب من الغل والحسد والخلافات والخصومات

الوصية السادسة: التزود من النفقة ومتاع السفر

الوصية السابعة: مراعاة فقه الأولويات في الحج

الوصية الثامنة: صحبة الأخيار.

الوصية التاسعة: الإكثار من الدعاء عند رؤية الكعبة

الوصية العاشرة: الاجتهاد في الطاعات واجتناب المحرمات

المقدمة:                                                            أما بعد:

عباد الله: هناك عشر وصايا ونصائح هامة أوصي بها إخواني وآبائي حجاج بيت الله الحرام، وقد جمعتها لكم مدعمة بالأدلة من القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة، مدعما كل وصية  بقصة واقعية تؤيد تلك الوصية، وهاك البيان والله المستعان وعليه التكلان:

الوصية الأولى: إخلاص العمل لله

فيجب على من أراد الحج أن يقصد بحجه وجه الله تعالى، لا من أجل كسب لقب ( حاج )، بل يغضب البعض إذا ناديته باسمه مجرداً، وكأنه حج للقب فقط، فينبغي على الحاج أن يحج مبتغياً الأجر من الله راجياً ثوابه؛ فهو تعالى يلجأ إليه الطائعون فيرفع درجاتهم، وينيب إليه المقصرون المذنبون فيكفر سيئاتهم, والإخلاص عليه مدار الأعمال والأقوال, يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(البينة: 5), ويقول جل شأنه: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام: 162)

فعلى الحاج أن يجرد نيته من شوائب الشرك أو التعلق بغير الله تعالى أو قصد الدنيا في حجه حتى يكمل ثوابه.

وعليه أن يستحضر نية التقرب إلى الله تعالى في جميع أحواله لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله: ” فإنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ” ( متفق عليه )، لذلك جعل الإمام البخاري هذا الحديث هو الحديث الأول في صحيحه، وكأنه يقول لك: قبل أن تقدم على عملٍ عليك بإخلاص النية فيه!!

واعلم أنك لو قصدت بعملك غير الله حبط عملك، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ. قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!.” (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.)، وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ”( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

إنك لو أنفقت ديناراً واحداً بإخلاص خير من قنطار فيه رياء!! وأسوق لكم قصة جميلة عن إخلاص العمل لله تؤيد هذا الكلام: يحكى أن ملِكا من الملوك أراد أن يبني مسجدا في مدينته وأمر أن لا يشارك أحد في بناء هذا المسجد لا بالمال ولا بغيره…حيث يريد أن يكون هذا المسجد من ماله فقط دون مساعدة من أحد، وحذر وأنذر من أن يساعد أحد في ذلك ، وفعلاً تم البدء في بناء المسجد ووضع اسمه عليه، وفي ليلة من الليالي رأى الملك في المنام كأن ملكا من الملائكة نزل من السماء فمسح اسم الملك عن المسجد وكتب اسم امرأة، فلما استيقظ الملك من النوم استيقظ مفزوعا وأرسل جنوده ينظرون هل اسمه مازال على المسجد، فذهبوا ورجعوا وقالوا نعم اسمك مازال موجودا ومكتوبا على المسجد، وقال له حاشيته هذه أضغاث أحلام، وفي الليلة الثانية رأى الملك نفس الرؤيا، رأى ملكا من الملائكة ينزل من السماء يمسح اسم الملك عن المسجد ويكتب اسم امرأة على المسجد، وفي الصباح استيقظ الملك وأرسل جنوده يتأكدون هل مازال سمه موجودا على المسجد؟ ذهبوا ورجعوا وأخبروه أن اسمه مازال موجودا على المسجد، تعجب الملك وغضب، فلما كانت الليلة الثالثة تكررت الرؤيا، فلما قام الملك من النوم قام وقد حفظ اسم المرأة التي يكتب اسمها على المسجد، وأمر بإحضار هذه المرأة ، فحضرت وكانت المرأة عجوزا فقيرة ترتعش، فسألها هل ساعدت في بناء المسجد الذي يبنى؟ قالت يا أيها الملك أنا امرأة عجوز وفقيرة وكبيرة في السن وقد سمعتك تنهى عن أن يساعد أحد في بناءه، فلا يمكنني أن أعصيك، فقال لها أسألك بالله ماذا صنعت في بناء المسجد؟ قالت والله ما عملت شيئا قط في بناء هذا المسجد إلا؛ ثم سكتت، قال الملك: نعم إلا ماذا ؟! قالت إلا أنني مررت ذات يوم من جانب المسجد فإذا أحد الدواب التي تحمل الأخشاب وأدوات البناء للمسجد مربوط بحبل إلى وتد في الأرض وبالقرب منه سطل به ماء، وهذا الحيوان يريد أن يقترب من الماء ليشرب فلا يستطيع بسبب الحبل والعطش، بلغ منه مبلغ شديد فقمت وقربت سطل الماء منه فشرب من الماء، هذا والله الذي صنعت. فقال الملك: أييييه…عملتي هذا لوجه الله فقبل الله منكِ، وأنا عملت عملي ليقال مسجد الملك فلم يقبل الله مني؟!!! فأمر الملك بمسح اسمه وأن يكتب اسم المرأة العجوز على هذا المسجد!!!!

بل إن عدم إخلاص العمل لله يحول بينك وبين النطق بشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت، وأسوق لكم قصة عن ذلك: روى أن منصور بن عمار رحمه الله قال: كان لي صديق مسرف على نفسه ثم تاب، وكنت أراه كثير العبادة والتهجد ففقدته أيامًا، فقيل لي: هو مريض. فأتيت إلى داره فخرجت إلىَّ ابنته فقالت: من تريد؟ قلت: فلانًا، فاستأذنت لي، ثم دخلت فوجدته في وسط الدار، وهو مضطجع على فراشه، وقد اسود وجهه، وأذرفت عيناه، وغلظت شفتاه، فقلت له وأنا خائف منه: يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله ففتح عينيه فنظر إلي شزرًا، وغشي عليه، فقلت له ثانيًا: يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله، ثم ثالثًا، ففتح عينيه وقال: يا أخي منصور، هذه كلمة قد حيل بيني وبينها فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قلت له: يا أخي، أين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام؟

فقال: كان ذلك لغير الله، وكانت توبتي كاذبة، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني وأُذكر به، وكنت أفعل ذلك رياء للناس، فإذا خلوت إلى نفسي أغلقت الباب وأرخيت الستور، وشربت الخمور، وبارزت ربي بالمعاصي، ودمت على ذلك مدة فأصابني المرض، وأشرفت على الهلاك. أترك لكم التعليق على هاتين القصتين!!!!

الوصية الثانية: التوبة ورد المظالم إلى أهلها

فعلى الحاج أن يبادر إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي من ترك الواجبات أو ارتكاب للمحظورات؛ فالتوبة طريق المفلحين وسبيل الفائزين, وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة إليها وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم أو تحللهم منها قبل سفره، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ؛ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَعَلَيْهِ “( البخاري)؛ فالواجب على العبد أن يعترف بذنبه ويطلب من ربه مغفرته وأن يبادر بالتوبة منه فإنه لا يدري متى يحضره الأجل ومتى يفجأه الموت، وكم من إنسان يعد نفسه بالتوبة فما زال يؤخرها حتى نزل به هادم اللذات ومفرق الجماعات فلقي الله تعالى بذنوب وهو مصر عليها وانتقل إلى الآخرة مثقلاً بالذنوب حاملاً للأوزار والعياذ بالله.

أيها الحجاج الكرام : إن الحج فرصة عظيمة لهدم الذنوب والآثام، وأسوق لكم قصة في حديث تؤيد هذا الكلام، حدَّث بعض الصحابة قائلين: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ؛ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟!! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟!! قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ؛ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإسْلامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ فَبَسَطَ يَمِينَهُ قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي قَالَ مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟! قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأ عَيْنَيَّ مِنْهُ وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي “.[أخرجه مسلم] من هذه القصة نستفيد ، ” أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله “

فعلى الحاج أن يتوب قبْلَ الذهاب إلى الحج مِن كل الذنوب والآثام، كبيرِها وصغيرِها، جليلِها وحقيرِها، وعليه أن يؤدِّيَ الحقوقَ التي عليه بالتمَّام والكمال، وبخاصة تلك الحقوق المتعلقة بالخلق، لأن حقوق العباد مبنيةٌ على المُشَاحَحَةِ، بينما حقوق الله مبنيةٌ على المسامحة، فعليه أن يؤدِّيَ الحقوق، ويُقلعَ عن الذنوب، والأهمُّ مِن هذا أن يَعقِد العزمَ على ألاّ يعودَ إليها بعد الحجّ، وإلاّ أصبح الحجُّ مِن الطقوس لا من العبادات، فَمِنَ الخطأ الكبير، والوهم الخطير أنْ يظنّ الحاجُّ أنّ الحجَّ يهدمُ ما قبله من الذنوب كلِّها، وفيه تُغفر كل خطيئة، وقد أجمع العلماءُ على أنّ الأحاديثَ الشريفة التي تبيِّن أنّ الحاجّ يعود مِن الحجّ كيوم ولدته أمه، وقد غُفرت ذنوبُه كلُّها، هذه الذنوبُ التي أشار إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم هي الذنوبُ التي بين العبد وربِّه حصراً، أمّا الذنوبُ التي بينه وبين الخلق، والحقوقُ التي في ذمته، والواجباتُ التي قصَّر في أدائها هذه لا تَسقطُ ولا تُغفر إلا بالأداء أو المسامحة، فالذنوب ثلاثة ؛ ذنب لا يُغفر، وهو الشرك، وذنب لا يُترك، وهو ما كان بين العبد والخلق، وذنب يُغفر، وهو ما كان بين العبد وربه، أي أن جميع الأحاديث التي أشارت أن الحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه، الذنوب حصراً فيما بينه وبين الله تعالى أما التي فيما بينه وبين الخلق هذه لا تغفر إلا بالأداء أو المسامحة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ، فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ، فَأَما الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ، قَالَ الله: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ العِباَدِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ الله فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يُدَبِّرُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ”( الصحيحة للألباني)

الوصية الثالثة: تحري المال الحلال

فعلى الحاج أن ينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا”[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ حَاجًّا بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فَي الْغَرْزِ – ركاب الدابة – فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلاَلٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلاَلٌ، وَحَجُّكَ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فَي الْغَرْزِ فنادى: فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ، ونَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ مَأْزُورٌ غَيْرُ مبرورٍ”[ الطبراني بسند ضعيف] ، وما دام الحج مِنَ العبادات المالية التي تستوجب إنفاقَ المال، فلا بد في المال الذي سينفقه الحاجُّ في هذه الفريضة أنْ يكون مالاً طيباً وحلالاً.

إن تحري الحلال له تأثير على نفسك وجميع جوارحك، قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم؛ ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات. وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر.

كم من أناسٍ طعامهم حرام وشرابهم حرام ولباسهم حرام، ومع ذلك تاب الله عليهم.

أسوق لكم قصه مؤثره عن توبة أسرة كاملة عن أكل الحرام على يد أحد أبنائها يقول الشاب:( أنا شاب عشت حياة مترفة مع أبي في أحد الأحياء الراقية بالقاهرة وكان الخمر يقدم على المائدة بصورة طبيعية..وكنت أعرف تماماً أن دخل والدي كله من الحرام وخاصة الربا.. وكان بجوار بيتنا مسجد كبير فيه شيخ يسمى(إبراهيم) وفي يوم من الأيام كنت جالساً في شرفة المنزل والشيخ يتحدث فأعجبني كلامه، فنزلت من الشرفة وذهبت إلى المسجد لأجد نفسي كأنني قد انسلخت من كل شيء، وأصبحت شيئاً آخر.

كان الشيخ يتحدث عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى بــه) فوجدت نفسي لا أريد أن أدخل البيت، ولا أن آكل منه شيئاً، صرت أدخل وأخرج وأتعمد ألَّا أكل شيئاً وأجلس بعيداً عن أسرتي وأضع أمامي قطعة من الجبن وبعض(الفلافل) وأسرتي أمامها كل ما تشتهيه النفس من الطعام. كادت أمي تموت همّا من أجلي تريدني أن آكل معهم ولكني رفضت وأفهمتها أن مال أبي حرام وأنهم يأكلون حراماً ويشربون حراماً فانضمت أمي إلىّ والتزمت بالصلاة؛ وبعدها انضمت إلينا أختي؛ أما أبي فقد أصر على فعله عناداً واستكباراً. كنت أتعامل مع أبي بأدب واحترام وقمت أنا وأمي وأختي كل منا يجتهد في الدعــاء لأبي كنت أقوم الليل فأسمع نحيب أمي وأختي وتضرعهما إلى الله أن يهدي والدي. وفي صباح يوم من الأيام استيقظت لأجد أبي قد تخلص من كل الخمور التي في البيت ثم أخذ يبكي بكاءً شديداً ويضمني إلى صدره ويقول: سوف أتخلص من كل شيء يغضب الله.. ولما حان وقت الصلاة أخذت والدي وذهبنا إلى المسجد وصار يسمع خطب الشيخ، والحمد لله تخلص من الربا ومن الخمور واصبح بيتنا ولله الحمد مملوءاً بالطاعـــات..)

أيها الحاج: إن تعجلك بجمع المال عن طريق الحرام كان سبباً في منع الحلال من الوصول إليك، فمن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلال.

أسوق لكم قصة أخرى رائعة تؤيد هذا الكلام: رُوِي عن علي رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة فأعطى غلامًا دابته حتى يصلي، فلما فرغ من صلاته أخرج دينارًا ليعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خطام الدابة وانصرف، فأرسل رجلا ليشتري له خطامًا بدينار، فاشترى له الخطام، ثم أتى فلما رآه علي رضي الله عنه، قال سبحان الله! إنه خطام دابتي، فقال الرجل: اشتريته من غلام بدينار، فقال علي رضي الله عنه: سبحان الله! أردت أن أعطه إياه حلالا، فأبى إلا أن يأخذه حراما!!

هذا يذكرني بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ نَفَثَ في رَوْعِي : أنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حتى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها ، فَاتَّقُوا اللهَ و أَجْمِلوا في الطَلَبِ ، و لا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ ، فإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ ما عندَهُ إِلَّا بِطَاعَتِه” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]

فالسارق رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! والمرتشي رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! والغاش في البيع والشراء رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! وقس على ذلك كل طرق الكسب المحرمة والمنتشرة في المجتمع!!

الوصية الرابعة: تفقهوا قبل أن تحجوا

هذه الكلمة قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعلى الحاج أن يحرص على التفقه في أمور الحج حتى يعبد الله على بصيرة؛ والحذر كل الحذر أن يؤدي مناسك الحج على جهل منه بذلك؛ فقد يوقعه هذا في الإخلال بالأركان أو ارتكاب بعض المحظورات أو النقص في القيام بمناسك الحج، إن فَعَلَ ذلك فَقَدْ أَبْطَلَ حجَّه، أو لَزِمه الدمُ، أو أساء، أو قصَّر، أو تركَ الأَوْلَى، وبذلك قد ضيّع فرصة فريدة لا تتكرّر، فرصة لمغفرة ذنبه، واستحقاقه جنّةَ ربه، كلُّ هذا بسببِ الجهل الذي هو أعدى أعداءِ الإنسان، فالجاهلُ يفعل في نفسه ما لا يستطيع أن يفعله عدوُّه به، لذلك نقول: أيها الحجّاجُ تفقَّهوا قبل أن تحجّوا، فعالمٌ واحد أشدُّ على الشيطان مِن أَلْفِ عابدٍ، وقليلٌ مِنَ الفقهِ خيرٌ مِنَ كثيرٍ مِنَ العبادة؛ وكما أن انتظار الصلاة يُعَدّ من الصلاة، كذلك الإعدادُ الفقهيّ للحجّ فهو مِنَ الحجّ، فكم مِن حاجٍّ أهْملَ التفقُّهَ قَبْلَ الحج، وعاد مِنَ الحجّ، ولم يطف طواف الركن، فبطل حجُّه، وكم مِن حاجٍّ اجتاز الميقاتَ المكانيَّ غيرَ محرِم فلزمه الدم، وكم مِن حاجٍّ وقع في محظورات الإحرام، وهو يحسبُ أنه يُحسن صنعاً.

فالذي يعبد الله على علم لا يُخشى عليه من وقوعه في حبائل الشيطان، وتكون عبادته مقبولة لأنها مكتملة الشروط والأركان، وإلا كانت باطلة، وأسوق لكم قصة تبين بطلان عبادة الجاهل مع اجتهاده في العبادة، فقد روي- في الإسرائليات- أن عابداً من بني إسرائيل كان يعبد الله تعالي في صومعة فوق الجبل، وذات يوم خرج كعادته لكي يتجول متأملاً في ملكوت الله تعالي ، وبينما هو يتجول رأي في طريقه جثة آدمي تنبعث منها رائحة كريهة، فمال العبد وأعرض بوجهه لتفادي شم الرائحة الكريهة، عند ذلك ظهر له الشيطان في صورة رجل من الصالحين الناصحين وقال له: لقد تبخرت حسناتك. فقال له العابد: لمَ ؟ قال : لأنك أبيت أن تشم رائحة آدمي مثلك ، وعندما ظهر علي وجه العابد الحزن والألم قال له الشيطان مشفقاً: إذا أردت أن يغفر لك الله هذا الذنب يجب أن تصطاد فأراً جبلياً وتعلقه في رقبتك وتعبد الله به طوال حياتك، ونفذ العابد واصطاد الفأر وظل يعبد الله به ستين عاماً ؛ وهو حامل هذه النجاسة حتى مات فبطلت عبادته، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” مسألة علم – أو مجلس علم – خير من عبادة ستين سنة” ( رواه الديلمي في الفردوس )، فمسألة العلم التي جهلها هذا العابد من شروط صحة الصلاة التي لا تصح الصلاة ولا تقبل إلا بها؛ وهي طهارة البدن والثوب والمكان ، وهذا العابد بجهله بهذه المسألة ظل معلقاً النجاسة في رقبته وهو يصلي بها ستين عاماً، فكيف تصح هذه الصلاة مع النجاسات ؟!! فبطلت صلاة ستين عاماً بجهل مسألة علم واحدة، فما بالك لو كان جاهلاً بمسائل الفقه كلها، لذلك كان العلم أولى من العبادة.

فعليك أخي الحاج أن تتعلم فقه الحج ولا تقدم على نسك حتى تعلم حكمه وشروطه، ومما يفيد في ذلك استصحاب بعض الكتيبات النافعة, وأشرطة التسجيل المفيدة وغيرهما  من أدوات التعلم التي تعينه في تعلم مناسكه.

الوصية الخامسة: طهارة القلب من الغل والحسد والخلافات والخصومات

فعليك أخي الحاج بطهارة القلب من الغل والحسد والخلافات والخصومات؛ لأن ذلك سببٌ لرفع الرحمات وعدم قبول الحسنات.

معاشر الحجاج: إنَّ سنةَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامرةٌ بالنصوص المؤكِّدة على أهمية طهارةِ القلوب وسلامتها من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يُسأل عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناس أفضل؟ فيقول: (كلّ مخموم القلب صدوق اللسان)، فيقال له: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هو التّقي النقي، لا إثم ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد) (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح) ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا) (متفق عليه)، بل إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:(لا تدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا) ( رواه مسلم) ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا: بلى، قال: (إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) (رواه أبو داود بإسناد صحيح.)

أحبتي في الله: وقفت مع نفسي وقفة وتأثرت كثيراً حينما قرأت حديثاً عن ليلة القدر في صحيح البخاري. عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ :” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ” قلت: رفعت أعظم ليلة بسبب شجارٍ وسبٍّ وخصامٍ بين رجلين !!! فما بالكم بواقع الأمة الآن؟!!!!!

لذلك أخبرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث كثيرة أن الشحناء والبغضاء والخصام سبب لمنع المغفرة والرحمات والبركات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا” (مسلم)

وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَفَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]

وبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك يحلق الحسنات بل الدين كله فقال:” دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَالكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ “[ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ]

فبادر أنت بالخير إذا أعرض عنك أخوك وكن أنت الأخير ، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ”(متفق عليه)

أخي الحاج: هذه رسالة هامة أردت أن أبلغها لك أن تصطلح مع أهلك وجيرانك قبل سفرك إلى الأراضي المقدسة، فإني أخشى عليك أن تكلف نفسك جسديا وماليا وتتحمل كل هذه المشاق، ثم تحجب أعمالك بسبب الخلاف والخصام.

الوصية السادسة: التزود من النفقة ومتاع السفر

ينبغي للحاج أن يكثر من النفقة ومتاع السفر ويستصحب فوق حاجته احتياطاً لما يعرض من الحاجات، فهذا من باب الأخذ بالأسباب حتى في أداء العبادات، ونحن مقبلون على موسم الحج، قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: كانَ أهلُ اليمنِ يحجون ولا يتزودونَ ويقولونَ: نحنُ متوكلونَ، فيَحجونَ فيأتونَ مكةَ فيسألونَ الناسَ فأنزل اللهُ: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره:” “أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم، سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع، وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه، في دنياه، وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.” أ.ه ، وسألَ رجلٌ أحمدَ بنَ حنبلٍ فقالَ: أيخرجُ أحدُنا إلى مكةَ متوكلاً لا يحملُ معه شيئاً؟ قال: لا يعجبُني فمن أينَ يأكلُ؟ قالَ: يتوكلُ فيعطيه الناسُ، قال: فإذا لم يُعطوه أليس يَتشرفُ حتى يُعطوه؟ لا يُعجبني هذا، لم يبلغُني أن أحداً من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم والتابعينَ فعل هذا، ولكن يعملُ ويطلبُ ويتحرى.

الوصية السابعة: مراعاة فقه الأولويات في الحج

فلو حج الشخص واعتمر مرارا وتكرارا، ومن عادته الحج والعمرة كل عام، ففي هذه الحالة لو رجعنا إلى فقه الأولويات لوجدنا أن مساعدة الفقراء والمساكين واليتامي والأرامل وذوي الحاجات أولى من الحج والاعتمار كل عام، وقد حدد بعض العلماء المعاصرين قصر الحج والعمرة كل خمس سنوات، وبذلك تفعل وزارة الداخلية في حج القرعة، وقد بحثت في هذا الأمر فوجدت حديثاً قدسياً يبين أن المدة  ينبغي أن لا تزيد عن خمس سنوات، حتى لا يحرم الأجر والثواب والتمتع بزيارة البلد الحرام، فعَنْ  أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” قَالَ اللَّهُ : إِنَّ  عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ ” .[ السلسلة الصحيحة – الألباني ]

إن الإسلام أمر بالتوازن ومراعاة الأولى في جوانب الإنفاق، ومن ثم فقصر الإنفاق على جانب معين وإهمال جوانب أخرى قد تكون أولى بالإنفاق منه يعد من قبيل مخالفة مقاصد الشريعة، ولذلك ينبغى أن نُذكر هنا بما جاء على لسان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قال: «يكثر الناس فى آخر الزمان من الحج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم فى الرزق، فيهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، يضرب فى الأرض وجاره إلى جنبه مأسور لا يواسيه». وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فالمسلمون هذه الأيام يعانون ويلات الأزمات والأمراض ما ظهر منها وما بطن، ولا يجدون من يشد أزرهم ويخفف عنهم آلامهم، فهناك طالب العلم الفقير ذو الحاجة الذي لا يجد من يؤازره والنتيجة الحتمية فشل ذريع لمستقبله. وهناك المساكين والفقراء الذين تعرفهم بسيماهم وهم لا يسألون الناس إلحافاً ولا يجدون من يسد جوعتهم ويستر عورتهم، وتجاهلهم يعنى فتح الطريق أمامهم إلى عالم الجريمة والرذيلة، وهناك من المسلمين مستضعفون قابضون على دينهم مدافعون عن الأرض والعرض والمقدسات، لا يجدون من يمد إليهم يد المعونة والنصرة ولو بالطعام والشراب، وإن كنا مأمورين بالقتال معهم جنباً إلى جنب لا سيما وقد دخل العدو ديار المسلمين، وهناك أرامل الشهداء وأبناؤهم، مات عائلهم ومن كان ينفق عليهم ولم يعد لهم في هذه الحياة يد حانية تمسح عنهم آهات الدهر وآلامه، فكل هؤلاء أولى عند الله عز وجل من تكرار الحج والعمرة بلا داع، اللهم إلا محاولة إشباع عاطفة لا محيص من وصفها بالأنانية المفرطة، والإغراق في حب الذات. وها هى تلك الحقيقة يرسيها جلية هذا المتصوف الزاهد «بشر بن الحارث» عندما جاءه رجل وقال له: يا أبا نصر إني أردت الحج وجئتك أستوصيك فأوصنى. فقال له: كم أعددت من نفقة الحج؟ قال: ألفى درهم. فقال له: هل تريد الحج تزهداً أم اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله. فقال له: هل أدلك على ما تحقق به مرضاة ربك وأنت في بلدك وبين عشيرتك، تعطى هذه الدراهم عشرة أنفس: فقيراً ترمم فقره، ويتيماً تقضى حاجته، ومديناً تقضى عنه دينه، ومعيلا تخفف عنه أعباء عياله، ولو أعطيتها واحدًا لتسد بها حاجته فهو أفضل. وهل هناك أسمى من أن يطعم المسلم جائعاً أو يداوى مريضاً أو يأوى مشرداً أو يكفل يتيماً أو يقضى حاجة أرملة، خاصة إن كان كل هؤلاء من المدافعين عن المقدسات والأوطان. وصدق الله تعالى حيث يقول: « أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ» «التوبة:19».

وهناك قصة أخرى ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية يقول:” خرج عبد الله بن المبارك  مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.

فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار. فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى بلادنا وأعطها الباقي؛ فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.”

ومع ذلك قد كتب الله له أجر الحج كاملاً – وهو في بيته – فالعبرة بالمعاني لا المباني، فالأعمال بالنيات، فكم من أناس في بيوتهم كتب لهم أجر الحج كاملا دون نقصان، وكم من أناس حجوا مرات عديدة رياء وسمعة لا يتقبل الله منهم كما فصلنا ذلك في الوصية الأولى.

الوصية الثامنة: صحبة الأخيار.

فعلى الحاج أن يجتهد في انتفاء المجموعة التي يحج معها, أو الحملة التي يشترك فيها, فإنها خير معين بعد الله جلا وعلا على إتمام مناسكه على الوجه الصحيح, ولذلك ندب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اختيار الجليس بقوله: ” مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً” ( متفق عليه ) يعني: هو مستفيد على كل حال، إما أن يعطيك، وإما أن يبيع لك، وإما أن يعلق فيك رائحة طيبة، كذلك الجليس الصالح: إما أن يأمرك بالخير، وإما أن ينهاك عن الشر، وإما أن يدعوك إلى الخير ويحضك عليه، فأنت مستفيد، كذلك جليس السوء إما أن يزهدك من الخير أو يرغبك في الشر، فأنت متضرر على كل حال.

ولا شك أن الحملة بكامل عناصرها هم جلساء الحاج فليحرص على الانتفاء.

كما أن المرء يكون على هدي صاحبه وطريقته ويتأثر به، كما قيل: الصاحب ساحب، حتى لو أردت أن تعرف أخلاق شخصٍ فسأل عن أصحابه.

قال الشاعر:               عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ         فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَدي

وقال آخر:               واحـذرْ مُصاحبـةَ اللئيـم فـإنّـهُ       يُعدي كما يُعدي الصحيـحَ الأجـربُ

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]

قال العلماء: يعني لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيا في دينه ومذهبه.

حتى أن أثر الصحبة – صالحة أو طالحة – تعدَّى من عالم الإنسان إلى عالم الكلاب. قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } ( الكهف: 22) فقد استفاد الكلب من صحبة الأخيار، وهو الآن معروف أنه من أخس الحيوانات، ومع ذلك لما صاحب الأخيار صار له شأن وذكر معهم في القرآن وأصابه ما أصابهم،كما أن الكلب المعلم لما تعلم صار له ميزة وارتفع شأنه بالعلم، وصار يصيد بالتعليم، وله حكم يختلف عن بقية الكلاب، قال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } [المائدة:4]، حتى الكلاب إذا تعلمت صار لها شرف ومزية على غيرها.

أحبتي في الله: والله إن الصاحب – وخاصة في الحج – إذا كان صالحاً سيأخذ بيديك إلى الجنة ويجعل حجك مبرورا، وإن كان طالحا يجرك إلى جهنم جرا ويجعلك مأزورا، وسأضرب لك مثالين:

الأول: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ( متفق عليه )

فوجود أبي جهل والصحبة السوء جعلت أبا طالب من أصحاب الجحيم، وحزن عليه النبي حزنا شديدا.

المثال الثاني: عن ابن عباس قال: « كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً فدعا إليه أهل مكة كلهم، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه، وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . فقال : أطعم يا ابن أخي. قال : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول . . . فشهد بذلك وطعم من طعامه . فبلغ ذلك أُبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة؟ – وكان خليله – فقال: لا والله ما صبوت. ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت له، فطعم. فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبصق في وجهه. ففعل عقبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره » .( الدر المنثور , للسيوطي ) وفي ذلك نزل قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} ( الفرقان )، فتخيل أنه فضل رضا صاحب السوء على رضا الله ورسوله وكانت النتيجة جهنم وبئس المصير.

فهذه رسالة أوجهها لآبائي وإخواني وأبنائي وكل فئات المجتمع أن يحسنوا اختيار الصحبة ولا سيما في رحلة الحج لشدة تأثيرها كما ذكر.

الوصية التاسعة: الإكثار من الدعاء عند رؤية الكعبة

فيستحب لك أيها الحاج الإكثار من الدعاء عند رؤية الكعبة، فقد ذكر العلماء أن الدعاء عند رؤية الكعبة مطلوب ومستجاب؛ لما رواه البيهقي والطبراني في الكبير بسند فيه ضعف عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، قَالَ:”تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيُسْتَجَابُ دُعَاءُ الْمُسْلِمِ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلاةِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ، وَعِنْدَ زَحْفِ الصُّفُوفِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ”. قال المناوي في فيض القدير، قوله: وعند رؤية الكعبة يحتمل أن المراد أول ما يقع بصر القادم إليها عليها، ويحتمل أن المراد ما يشمل دوام مشاهدتها، فما دام إنسان ينظر إليها فباب السماء مفتوح والدعاء مستجاب، والأول أقرب . أهـ .

وأفضل الدعاء أن تقول: اللهم اجعلني مجاب الدعوة، وبذلك أخذت بإجابة الدعاء في كل زمان ومكان، فقد سألها سعد بن أبي وقاص من رسول الله فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة، فدعا له فأصبح مجاب الدعوة، وأخذ توكيلا عاما في ذلك، بدلا من أن يتردد على النبي طالبا الدعاء كل فترة ، إذ أن كل صحابي يطلب دعوة خاصة، كأن أكون رفيقك في الجنة، أو أن يرد علىَّ بصري، وشواهد ذلك كثيرة ، لكن سعدا فاز بدعوة عامة.

أسوق لكم قصة في حديث تؤكد ذلك: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:” شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ” ( البخاري )

أحبتى في الله: أناشد كل من رزقه الله بالحج هذا العام أن يخصني بدعوة بظهر الغيب عند رؤية الكعبة، فعَنْ صَفْوَانَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال:” قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ ؛ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْله” ( مسلم )، فالداعي مستفيد بأمرين: إجابة الدعوة قطعا، وله بمثل ما دعا به.

الوصية العاشرة: الاجتهاد في الطاعات واجتناب المحرمات

فيجب عليك أخي الحاج الاجتهاد في فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، وأن تعظم الحرمات في هذه الرحلة. وخاصة أنك اجتمعت عليك الحرمات، الزمان والمكان والمال والنفس والدين ……إلخ ، فيجب عليك تعظيمها، “قال قتادة: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.”

إن ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات في هذه الأشهر ظلم بيِّن للنفس لذلك قال تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (الحج: 25) وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم، وقال قتادة في قوله: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ” إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.” ويقول الإمام القرطبي – رحمه الله – ” لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال” ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى:{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } (الأحزاب: 30)  وذلك لأن الفاحشة إذا وقعت من إحدى نساء النبي – r – يضاعف لها العذاب ضعفين بخلاف ما إذا وقعت من غيرهن من النساء.

فعليك أن تستغل رحلتك في أداء الصلاة في المسجد الحرام لفضله على غيره، فعن جابر أن النبي r قال:”صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة”( أخرجه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين.)، فصلاة واحدة تعدل مائة ألف صلاة، ولو قسَّمنا مائة ألف صلاة  على 5 صلوات في اليوم، ثم السنين لخرج الناتج 55 سنة و6 أشهر و20 يوماً، هذه صلاة واحدة فما بالك لو صليت شهراً أو شهرين؟؟؟؟!!!

كما ينبغي عليك أخي الحاج أن تتحلى بمكارم الأخلاق وتبتعد عن كل سوء ورذيلة. قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة/197].

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره:” أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة. والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا؛ والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى بـ “من “لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة، داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها، من صلاة، وصيام، وصدقة، وطواف، وإحسان قولي وفعلي.” أ.ه

واعلموا – والله – أن انتهاك الحرمات سبب في زوال الحسنات ولو كانت كالجبال!! ، فَعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ -r- أَنَّهُ قَالَ : ” لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا.”( صحيح الترغيب والترهيب للألباني)

رزقني الله وإياكم حج بيته الحرام.

 

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

د / خالد بدير بدوي

أ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى