خطبة بعنوان: مظاهر تكريم المرأة في الإسلام، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 9 جمادى الآخرة 1437هـ- 18 مارس 2016م.
خطبة بعنوان: مظاهر تكريم المرأة في الإسلام، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 9 جمادى الآخرة 1437هـ- 18 مارس 2016م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: مكانة المرأة في الإسلام
العنصر الثاني: حق المرأة في الميراث
العنصر الثالث : مكانة الأم وفضل برها في الإسلام
العنصر الرابع : دور الأم في تربية وإعداد الأجيال
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: مكانة المرأة في الإسلام
لقد رفع الإسلام مكانة المرأة، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه؛ وسأطوف سريعا مع حضراتكم حول مظاهر تكريم الإسلام للمرأة في جميع مراحلها العمرية منذ ولادتها طفلة حتى شيخوختها.
فالمسلمة في طفولتها لها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية، وهي في ذلك الوقت قرة العين، وثمرة الفؤاد لوالديها وإخوانها.
وإذا كبرت فهي معززة مكرمة؛ يغار عليها وليها، ويحوطها برعايته، فلا يرضى أن تمتد إليها أيد بسوء، ولا ألسنة بأذى، ولا أعين بخيانة.
وإذا تزوجت كان ذلك بكلمة الله، وميثاقه الغليظ؛ فتكون في بيت الزوج بأعز جوار، وأمنع ذمار، وواجب على زوجها إكرامها، والإحسان إليها، وكف الأذى عنها.
وإذا كانت أماً كان برُّها مقروناً بحق الله-تعالى-وعقوقها والإساءة إليها مقروناً بالشرك بالله، والفساد في الأرض.
وإذا كانت أختاً فهي التي أُمر المسلم بصلتها، وإكرامها، والغيرة عليها.
وإذا كانت خالة كانت بمنزلة الأم في البر والصلة.
وإذا كانت جدة، أو كبيرة في السن زادت قيمتها لدى أولادها، وأحفادها، وجميع أقاربها؛ فلا يكاد يرد لها طلب، ولا يُسَفَّه لها رأي.
وإذا كانت بعيدة عن الإنسان لا يدنيها قرابة أو جوار كان له حق الإسلام العام من كف الأذى، وغض البصر ونحو ذلك.
وما زالت مجتمعات المسلمين ترعى هذه الحقوق حق الرعاية، مما جعل للمرأة قيمة واعتباراً لا يوجد لها عند المجتمعات غير المسلمة.
وكل مرحلة من المراحل السابقة في التكريم والعناية لها أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة – مما لا يتسع المقام لذكرها – وأنت بذلك خبير. وقد لخص أحدهم فضل المرأة ومكانتها في جميع مراحل عمرها بقوله: ما رأيت كالأنثى فضلاً .. تُدخِلُ أباها الجنةَ طفلة .. وتُكملُ نصف دين زوجها شابة .. والجنةُ تحت قدميها أُمّاً ..!!
لذلك من رزق بهن كن سترا له من النار وسبيلا له إلى الجنة؛ وفي ذلك يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ” ( متفق عليه)
وما أجمل قول الإمام الشافعي رحمه الله : ” البنون نعم، والبنات حسنات، والله عز وجل يحاسب على النِعم، ويجازي على الحسنات ”
لذلك كانوا يقدمون التهنئة لمن رزق ببنت؛ فقد كتب أحد الأدباء رسالة إلى صديق له يهنئه بالبنت يقول :” أهلا وسهلا بعقيلة النساء ، وأم الأبناء ، وجالبة الأصهار ، والأولاد الأطهار ؛ والمبشرة بإخوة يتناسقون ، ونجباء يتلاحقون.”
عباد الله: إن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة له صور متعددة في جميع المجالات؛ ويظهر ذلك من خلال واقعها وحالها في الجاهلية وبضدها تتميز الأشياء !!
ففي الجاهلية لم يكن للمرأة حق الإرث، وكانوا يقولون في ذلك: لا يرثنا إلا من يحمل السيف؛ فجاء الإسلام فرفع شأن المرأة في هذا الجانب وأقر لها حقا في الميراث زوجة وأما وبنتا وأختا قال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}( النساء: 7 ). وسنبين ذلك تفصيلا في عنصرنا التالي إن شاء الله.
ولم يكن للزوجة صداق ولا مهر عند بعض القبائل في الجاهلية؛ بل كان يشتري الزوج زوجته إذا دفع ثمنها لأبيها كما تشترى البهيمة!! فجاء الإسلام فأبطل ذلك وجعل لها مهرا وصداقا من حقها لا يأخذ أحد منه شيئا إلا بطيب نفس منها. قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. ( النساء: 4 )
ولم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين، وكانوا إذا مات الرجل، وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثًا كبقية أموال أبيه!. فجاء الإسلام فرفض ذلك وأبطله وفرض لها حقوقها ونظم وضعها في الطلاق والزواج والعدة بطريقة تحفظ كرامتها وعفتها وطهارتها !!
وكان العرب في الجاهلية يُكرهون إماءهم على الزنا، ويأخذون أجورهم ؛ فجاء الإسلام فأنكر ذلك ونهى عنه واستقبحه قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}( النور: 33)؛ وكان العرب في الجاهلية يكرهون البنات، ويدفنونهن في التراب أحياء خشية العار؛ فجاء الإسلام فأبطل ذلك وسجله في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
فهل هناك ديانة أو مجتمعات على وجه الأرض نالت فيه المرأة مثل هذا التكريم ؟!!!
وما أجمل قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في المقارنة بين وضع المرأة في الجاهلية والإسلام :” وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ”. ( البخاري)
أيها المسلمون: لقد اهتم القرآن الكريم بذكر المرأة حتى أن هناك سورة تسمى بسورة النساء؛ وسورة الطلاق تسمى بسورة النساء الصغرى؛ وكذلك سورة المجادلة ( بكسر الدال وفتحها ) ؛ وليس هناك سورة للرجال؛ بل إن الله رفع ذكرهن في واقعة سورة الأحزاب؛ فقد روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار، قال: ومِمَّ ذاك؟ قالت: لأنهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله هذه الآية: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ }…. الآية ( الأحزاب: 35)(أسباب النزول للواحدي)
أنزل الله تعالى هذه الآية التي طمأنت النساء بأنّ لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية؛ فرب امرأة صالحة كالنساء السابقات خير من ألف رجل.
فلو كـــــــــان النساء كمن ذكــــــــــــرن………. لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ………وما التذكير فخر للهلال
العنصر الثاني: حق المرأة في الميراث
كانت المرأة في الجاهلية محرومة من حقها من الميراث وليس هذا فحسب بل كانت كالمتاع ، تورث كما يورث!!
وجاء الإسلام فقضى على أكبر ظُلامة من ظُلامات الجاهلية للمرأة ، وهو حرمانها من الميراث!!!
وقد بنى الإسلام توزيع الأنصبة على الورثة على قاعدة عادلة : (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، وهو عادل في ذلك ومنصف كل الإنصاف، فهو يلزم الرجل في مقابل ذلك بأعباء ، وواجبات مالية ، لا تلزم بمثلها المرأة: فالرجل يتزوج ويدفع المهر ، ويؤثث البيت ويعد السكن ، والمرأة تتزوج ويدفع لها المهر ، ويؤثث لها البيت ويعد السكن ، والرجل يتزوج فيعول امرأة (زوجته) وأولاداً.
فقد وضع الإسلام في اعتباره تلك الأعباء والتكاليف والالتزامات التي كلف بها الرجل حين أعطاه ضعف نصيب الأنثى في الميراث ، ولو دققنا النظر في مقدار ما يخسره الرجل من المال ، للقيام بتلك الأعباء والتكاليف ، لعرفنا أن الإسلام كان كريماً متسامحاً مع المرأة حين طرح عنها كل تلك الأعباء وألقاها على كاهل الرجل ، ثم أعطاها نصف ما يأخذ؛ والمرأة بهذا التشريع الكريم ربحت من جانبين:
الأول: قرر لها حقاً في الميراث ، ولم يكن لها شيء من ذلك في الجاهلية.
الثاني: قدر لها هذا الحق بنصف نصيب الذكر ، مع طرح كافة الأعباء والالتزامات المالية عنها.
ومن هنا يظهر مقدار تكريم الإسلام لها ، وتقديره إياها وفضله عليها.
وهناك دراسة قام بها أحد الباحثين في الشريعة الإسلامية لهذا الغرض، والتي تثبت أن المرأة تساوي الرجل في الميراث أو تأخذ أكثر منه في معظم حالات الميراث، وبالاستقراء ظهر الآتي:
– هناك (4) حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
– هناك (8) حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل تمامًا، كما لو مات ميت عن أب وأم وابن.
– هناك (10) حالات أو تزيد ترث المرأة فيها أكثر من الرجل كما لو ماتت عن زوج وأب وأم وابنتان.
– هناك حالات ترث المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال كما لو ماتت عن زوج – وأبو أم وبنت – وابن ابن.
أيها المسلمون: إن المرأة ضعيفة وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من منع حق الضعيفين؛ فقال: ” اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ ” [أخرجه أحمد وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة]. أَي: أُضيقه وأُحرمه على مَن ظلمهما.
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى بنور الله، أن هذين الضعيفين؛ يضيعان في العائلات الفاسقة، ويُأكلُ حقُهما على مائدة اللئام، في زمن شاعت فيه أخلاق اللئام، ونامت فيه أخلاق الكرام، حيث لا ناصحَ ينصحُ؛ ولا زاجرَ يزجر، فلا أبٌ صالحٌ، ولا ابنٌ فالحٌ. . الأبُ يُقْسِمُ قسمةً ضيزى، والابن يأكلُ ما ليس له، ثم هو يقول: قد باء والدي بالذنب! وليت شعري! ليته يعلمُ أن الإثم قد تحّملاه معًا، كالزانيةِ والزاني، ويموت الأبُ الذي لم يعدلْ؛ فلا الابنَ يشكرُ، ولا البنتَ تغفر. . الابن فوق الأرض حيًا يتمرغ في نعمةٍ ليست له، والأب تحت الأرض ميتًا يُحاسَب عليه، والبنت المظلومة بين هذا وذاك، تقول: اللهم العن هذا والعن ذاك!!!
عباد الله: انظروا إلى ورع نساء السلف في حرصهن على حق غيرهن في الميراث؛ يروي الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها – وهي تعجن – موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. أي: أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
وأخرى كانت تستصبح بمصباح – يعني: بالزيت أو شيء من هذا – فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء، يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.!!
يا مسلم! أيسرك أن تأكل ثمرةَ فاكهة ٍمسمومةٍ، أو أن تطعمها أولادك، أو أن ترى رجلاً غافلاً يهم بأكلها وتتركه؟ أيسرك ذلك ؟
لأكلُك حقًا ليس لك لهو أخفُ ضرراً من أكلك طعامًا مسمومًا يقتلك؛ إذا أن أكلَك حقًا ليس لك يؤدي بك إلى نار جهنم التي تشوي لحوم الظالمين!!
ولئن تتركَ ولدَك يشربُ سمًا زُعافًا؛ لهو خيرٌ لك وله من أن تتركه يأكل حق أخِته من إرثك الذي خلفت.
ولئن تُنقذَ إنسانًا من الوقوع في جريمة أكل حقوق البنات لَذَلك أعظمُ خيرًا وبركةً من إنقاذه من الموت. فالعملَ العمل.
أختم هذا العنصر بهذه القصة لشاب حرم أخواته الثلاث من الميراث؛ فماذا حدث له ؟!!
أخواته الثلاث طلبن منه حقهن من أبيهن المتوفى؛ ووعدهن في ليلة كذا أعطيكن حقكن ونكتب الأوراق الرسمية؛ وجاءت أخواته على الموعد؛ وكان قد جهز الأوراق والتنازلات؛ وحينما دخلن أمرهن بالتوقيع والبصمات؛ فوقعن وبصمن بحسن نية؛ وبعد التوقيع والبصمات وضع الأوراق في حقيبته وقال: اخرجن فليس لكن شئ عندي!! فقد أخذتن حقوقكن كاملة وهذه هي المستندات؛ فقالت إحداهن بعد أن رفعت يديها إلى السماء: حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي؛ اللهم خذ لي حقي من أخي ؛ اللهم أرني فيه يوما ؛ وكأن أبواب السماء مفتحة فسقط على الأرض يصرخ ويستغيث؛ فحملوه إلى المستشفى فأصيب بشلل؛ شلت يده بدعوة مسكينة مظلومة؛ وقرر الأطباء أن حالته ميئوس منها؛ وظل عشرة أيام يصرخ من شدة الألم؛ وشكته أخته إلى أحد الدعاة؛ وجاء هذا الشيخ ليذكره بالله ورد الحقوق؛ فقال: يأخذوا كل مالي!! وأمر الأخ وكيله المحامي بإعطائهن حقهن غير منقوص؛ وتم تسليمهن حقهن كاملا ؛ فسر وجه أخته التي دعت عليه قبل؛ ورفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم اشف أخي ابن أمي وأمي!!
يقسم الشيخ – وقد سمعته بنفسي – والله وقف المريض على قدميه بقدرة الله واحتضن أخته وبكي وبكت أخته وبكى الجميع!!!
إنها دعوة مظلومة سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل عنها الله!! فإياكم وأكل الميراث ؛ وإياكم ودعوة المظلوم!!
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا * * * فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه * * * يدعو عليك وعين الله لم تنم
العنصر الثالث : مكانة الأم وفضل برها في الإسلام
أيها المسلمون: إذا كانت الأمة تحتفل بعيد الأم واليوم المخصص لها؛ فإننا نقف في هذه اللحظات لنبين مكانة الأم وفضلها وواجبنا نحو برها وفضل ذلك عند الله تعالى.
إن الإسلام أعطى للأم مكانة عالية في الإسلام؛ ولقد حفلت نصوص عديدة في القرآن والسنة بفضل الأم ومنزلتها في المجتمع واهتمت بها أيما اهتمام؛ لأن الأم هي مصدر الحنان والرعاية والعطاء بلا حدود؛ قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23-24].
ولأهمية ومكانة الأم في الإسلام كرر الإسلام الوصية بالأم ثلاثا لفضلها ومكانتها ولتحملها متاعب ومشاق الحمل والرضاعة والتربية؛ فقد جاء رجلٍ جاء إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” يسأله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك».(متفق عليه)
يقول ابن بطال – رحمه الله – ” في هذا الحديث دليل أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاث أمثال محبة الأب، لأنه عليه السلام كرر الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم، وتشقى بها دون الأب فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.”
ولمكانة الأم وفضلها جعل الإسلام برها جهادا في سبيل الله وطريقا إلى الجنة؛ فقد جاء رجل إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو, وقد جئت أستشيرك, فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها».( أحمد والنسائي)
وقد كانت بعض الشرائع تهمل قرابة الأم, ولا تجعل لها اعتباراً, فجاء الإسلام يوصى بالأخوال والخالات, تكريما للأم، حتى قيل ( الخال والد )؛ وجعل البر بقرابة الأم من الأخوال والخالات مغفرة للذنوب؛ فقد جاء رجل إلى النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” فقال: إني أذنبت, فهل لي من توبة؟ فقال: «هل لك من أم؟» قال: لا، قال: «فهل لك من خالة؟»، قال: نعم، قال: «فبرها». ( رواه الترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم)
ولفضل الأم ومكانتها جعل الأم المرضعة بمنزلة الأم من النسب؛ ففي يوم من الأيام كان النبي عليه الصلاة السلام في الجعرانة يقسم الغنائم التي وضعت أمامه، وبينما هو منشغل بتقسيم الغنائم إذا به يلمح أمه من الرضاعة؛ فيخلع رداءه ويضعه أرضاً ويجلسها عليه، ويقول إنها أمي التي أرضعتني!!!
ومن عجيب ما جاء به الإسلام أنه أمر ببر الأم، حتى وإن كانت مشركة, فقد سألت أسماء بنت أبى بكر النبي “صلى الله عليه وسلم” عن صلة أمها المشركة، وكانت قدمت عليها, فقال لها: «نعم, صلي أمك».(متفق عليه)
أيها المسلمون: إذا كان الإسلام أعلى من شأن الأم وأعطى لها هذه المكانة العليا فحري بنا أن نقوم ببرها وودها ورعايتها كما كان يفعل سلفنا الصالح وشواهد ذلك عديدة وكثيرة.
ففقد روي البزار أن رجلًا كان حاملًا أمه يطوف بها حول الكعبة, فسأل النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” هل أديت حقها؟ قال: «لا, ولا بزفرة واحدة» !.. أي من زفرات الطلق والوضع ونحوها.؛ وجاء عند البيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد: “أن ابن عمر شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلَّل *** إن أُذعرت ركابها لم أُذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ قال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة!”.
ورى عن رجل من التابعين يقال له حيوة بن شريح إمامٌ محدثٌ وراويةٌ فقيهٌ كان يجلس في درسه مئات من طلبة العلم ينقلون عنه علم رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم وحديثه، وبينما هو يلقي الدرس وفي الدرس مئاتُ طلبة العلم تفتح أمه الباب عليه وتقول له: يا حيوة قم وألقِ الشعير إلى الدجاج؛ فيقوم حيوة بن شريح القاضي إلى مكان الدجاج فيعلفه ثم يعود إلى درسه ولا يتأفف عن أمه.
وهذا أبو هريرةكانت أمّه في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السّلام عليك يا أمّاه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك يا بنيّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. (الأدب المفرد للبخاري)
وعن محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى أنه قال: “بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي، وَأخي عُمَرُ يُصَلِّي الليلُ ، وَمَا أُحِبُّ أنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ” ؛ أغمز: أي أدلكها لمرض أصابها. أي واحد يبر أمه والآخر بطاعة ربه فكان يرى أن بر أمه أعظم من طاعة ربه!!
لذلك قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:” إنّي لا أعلم عملا أقرب إلى الله- عزّ وجلّ- من برّ الوالدة” (الأدب المفرد للبخاري)
وعن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت : من هذا ؟ قالوا : حارثة بن النعمان » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كذلكم البر كذلكم البر »(الحاكم وصححه) وكان حارثة أبرّ النّاس بأمّه.
وأختم صور بر الأم عند سلفنا الصالح بهذه القصة الجميلة التي تنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم للتابعي الجليل أويس بن عامر الذي أصبح مجاب الدعوة من كثرة بره لأمه.
فعنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ : أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ . فَاسْتَغْفِرْ لِي . فَاسْتَغْفَرَ لَهُ .”(مسلم) قال القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم:” وقول النبى – عليه الصلاة والسلام – فيه: ” له والدة، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره “: إشارة إلى إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيب أمله فيه، ولا يكذب ظنه به، ولا يرد دعوته ورغبته وعزيمته وقسمه فى سؤاله بصدق توكله عليه وتفويضه إليه، وقيل: معنى ” أقسم على الله “: وعى، و” أبره ” أجابه، وفيه فضل بر الوالدين، وعظيم أجر البر بهما.” أ.ه
وقال النووي: ” هذه منقبة ظاهرة لأويس رضي الله عنه . وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح ، وإن كان الطالب أفضل منهم .”
هكذا علمنا السلف الصالح رضي الله عنهم بحياتهم العملية كيف نبر أمهاتنا وكيف نعظم قدرها وهي الأم التي صنعت الرجال.
العنصر الرابع : دور الأم في تربية وإعداد الأجيال
عباد الله: إن الأم التي عني بها الإسلام كل هذه العناية, وقرر لها كل هذه الحقوق, واجب عليها أن تحسن تربية أبنائها, فتغرس فيهم الفضائل, وتبغضهم في الرذائل, وتدفعهم دفعا إلى الجد والاجتهاد والعمل من أجل بناء الوطن؛ وتعودهم على طاعة الله, وتشجعهم على نصرة الحق, ولا تثبطهم عن الجهاد, استجابةً لعاطفة الأمومة في صدرها, بل تغلب نداء الحق على نداء العاطفة.
ولقد ضربت لنا الأمهات الخالدات أروع الأمثلة في التربية والتعليم؛ فلقد رأينا أمًا مؤمنة كالخنساء في معركة القادسية تحرض أبناءها الأربعة, وتوصيهم بالإقدام والثبات في كلمات بليغة رائعة, وما إن انتهت المعركة حتى نعوا إليها جميعًا, فما ولولت ولا صاحت, بل قالت في رضا ويقين: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيله!!
وهذه أم سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث لما مات أبوه انقطع عن طلب العلم فترك حلقة شيخه في رواية الحديث النبوي الشريف فقالت له أمه: لم فعلت ذلك؟! قال: أريد أن أعمل وأنفق على البيت!! فقالت له أمه: عد إلى طلب العلم والزم حلقة شيخك وأنا أكفيك بمغزلي!! فكانت الأم تغزل الصوف وتبيعه في السوق وتنفق على ولدها سفيان حتى صار أمير المؤمنين في الحديث!!
والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
ومن هنا يرى علماء التربية أن دور الأم في تربية الطفل يسبق دور الأب، وذلك لكثرة ملازمتها للطفل منذ تكوينه جنيناً في بطنها حتى يكبر. وصدق الشاعر حافظ إبراهيم إذ يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أيها المسلمون: إن المرأة نصف الأمة، بل هي بمنزلة القلب منها، فإذا صلحت صلحت الأمة، وإذا فسدت فسدت الأمة، وقد أدرك هذا العلماء فقالوا: إنك إن علمت فتاةً علمت أسرةً؛ ويكفى أنها تحمل مسؤولية كبيرة في تربية شباب المستقبل ، ورجالات الأمة ، فهي المحضن الخصب الذي يخرج منه إلى الحياة أولئك الأبطال ، والذي لولاها بعد الله لخرجن نماذج كرتونية ضعيفة هزيلة .
أحبتي في الله: إن للأم دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد – منذ ولادتهم – وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل عبارة : ” إن وراء كل رجل عظيم امرأة أعظم”، وكما قيل : “الرجال لا يولدون بل يُصنعون”. وكما قال الشاعر:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا على ما كان عَوَّدَهُ أبُوه
وإهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب على حد قول الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ عادت على الآباء بالنكبات
وأختم اللقاء بقصة في جانب الإهمال من جانب الأم: سرق رجل مالاً كثيرًا، وقُدّم للحد فطلب أمه، ولما جاءت دعاها ليقبلها، ثم عضها عضة شديدة، فقيل له ما حملك على ما صنعت؟ قال: سرقت بيضة وأنا صغير، فشجعتني وأقرتني على الجريمة حتى أفضت بي إلى ما أنا عليه الآن!!!
أيها المسلمون: إن صلاح أولادنا أن نغرس فيهم منهج نبينا في جميع شئون الحياة، وذلك بتعليمهم آداب الصلاة والصوم والاستئذان ودخول البت وخروجه، وآداب الطعام والشراب، واحترام الكبير وتوقيره وغير ذلك من الآداب التي حثتا عليها الشارع الحكيم.
الدعاء،،،،، وأقم الصلاة،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي