خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: من صفات المؤمنين في القرآن الكريم ( الإيمان بالغيب )، للدكتور خالد بدير بتاريخ 17 جمادى الأولى 1437هـ – 26 فبراير 2016م.

خطبة بعنوان: من صفات المؤمنين في القرآن الكريم ( الإيمان بالغيب )، للدكتور خالد بدير بتاريخ 17 جمادى الأولى 1437هـ – 26 فبراير 2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

ولقراءة الخطبة كما يلي: 

عناصر الخطبة:

 

العنصر الأول: الفرق بين الإسلام والإيمان

العنصر الثاني: درجات الإيمان بالغيب

العنصر الثالث: المنكرون للغيب قديما وحديثا

العنصر الرابع: واجبنا نحو الإيمان بالغيب

المقدمة:                                                            أما بعد:

أيها المسلمون: قد وصف الله عز وجل المؤمنين في القرآن الكريم بصفات عديدة في مواضع متفرقة؛ وأول هذه الصفات ( الإيمان بالغيب) كما جاءت في مطلع أول سورة بعد فاتحة الكتاب وهي سورة البقرة في قوله تعالي: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3).

ومن صفات المؤمنين في القرآن أيضاً: العدل وعدم والظلم؛ كما في قوله تعالى:{ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)

ومنها: إصلاح ذات البين؛ وطاعة الله ورسوله؛ ذكر الله ؛ والخوف والوجل؛ والتوكل على الله؛ تلاوة القرآن الكريم؛ وإقامة الصلاة؛ والإنفاق في وجوه الخير . كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 1-4].

ومنها: عمارة المساجد . كما في قوله تعالى:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة: 18)

ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . كما في قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71)

ومنها: الخشوع في الصلاة؛ والإعراض عن اللغو ؛ وأداء الزكاة؛ وحفظ الفروج؛ وأداء الأمانات؛ والمحافظة على الصلوات. كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11]؛ وغير ذلك من الصفات التي وردت في ثنايا القرآن الكريم والتي ذكرت صراحة أو ضمنا !!

وفي الحقيقة كل صفة من هذه الصفات تحتاج إلى جمعة كاملة؛ ولكني آثرت أن أقف مع حضراتكم في هذا اللقاء عن الصفة الأولى التي وردت في القرآن الكريم وهي صفة ( الإيمان بالغيب ) ؛ لأنها الأساس في هذه الصفات؛ ولأن الإيمان لا يكون إلا بالغيب؛ وحتى لا ينسحب بساط الوقت بين أيدينا سريعا؛ جاء اللقاء مع حضراتكم اليوم حول العناصر الأربعة التالية:-

العنصر الأول: الفرق بين الإسلام والإيمان

أيها الإخوة المسلمون: تعالوا بنا لنعرف الفرق بين الإسلام والإيمان؛ وهل أنت مسلم أم مؤمن؟!! ولماذا يُكتب في البطاقة الشخصية والمستندات عامة الديانة: مسلم ؛ ولم يُكتب مؤمن؟!!

أحبتي في الله: الإسلام معناه: الاستسلام والخضوع والانقياد لأوامر الله تبارك وتعالى، فهو الانقياد الظاهري.

وأما الإيمان فمعناه: التصديق بالقلب؛ فهو الانقياد الباطني؛ فخص الإسلام بالأعمال الظاهرة؛ والإيمان بالأعمال القلبية التي لا يطلع عليها إلا الله. ففي حديث جبريل عليه السلام؛ لما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ” وَقَالَ يَا: مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ؛ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ؛ وَتَصُومَ رَمَضَانَ؛ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ قَالَ صَدَقْتَ: قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ” (مسلم)؛ فنحن نرى أن أعمال الإسلام كلها ظاهرة؛ وتؤدى وتحس بإحدى الحواس الخمسة؛ كالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها؛  أما أعمال الإيمان فكلها أعمال اعتقادية قلبية لا يطلع عليها إلا الله؛ كالإيمان بالله والملائكة واليوم بما فيه من حساب وصراط وميزان وجنة ونار وغير ذلك؛ لذلك قيد الله الإيمان بأنه لا يكون إلا بالغيب؛ قال تعالي: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }(البقرة: 3).

فالعبد بنطقه الشهادتين يكون مسلما أمام الجميع؛ أما دخول الإيمان قلبه فلا يعلم به إلا الله؛ فقد يكون مسلما ومع ذلك هو منافق معلوم النفاق؛ كعادة المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر ؛ وبهذا المبدأ كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؛ فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا؟! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.”(متفق عليه)؛ ولذلك عاتب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنه على قتله رجلاً بعد ما نطق بالشهادتين؛ فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ:” بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ؛ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَطَعَنْتُهُ؛ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ؛ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ!! قَالَ: أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ لذلك!” (مسلم). ؛ وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الأعراب حينما ادعوه وهم لم يمتثلوا به أو يعتقدوه في قلوبهم؛ قال تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }(الحجرات: 14)؛ ولهذا يكتب في البطاقة ( مسلم )؛ ولا يكتب (مؤمن)؛ لأن الإيمان في القلب ولا يعلمه إلا الله!!

أيها المسلمون: الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ فهو شعب؛ وكلما ارتقيت في العمل بهذه الشعب ارتفعت درجة إيمانك؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ (البخاري ومسلم).

عباد الله: عليكم أن تعملوا جاهدين من أجل زيادة إيمانكم قبل أن يأتي أحدكم الأجل فجأة؛ وقتها لا ينفعه إيمانه؛ لأن الإيمان وقت خروج الروح أو وقت ظهور علامات الساعة الكبري لا ينفع؛ لماذا؟ لأن الموت وعلامات الساعة غيب؛ وقد أمرت أن تؤمن بذلك في حالة غيبه عنك؛ أما إذا أصبح في حال المشاهدة والرؤية فلا ينفعك إيمانٌ؛ قال تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (158)؛ ولذلك لم يقبل الله إيمان فرعون لأنه رأى الغيب أمامه؛ قال تعالي: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }(يونس: 90 – 93)؛ وكذلك لا يقبل الله توبة العبد عند الغرغرة لأنه رأى الغيب؛ فَعَن ابْنِ عُمَرَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.”( ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن)؛ قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 17 ؛ 18)

أيها المسلمون: نخلص من ذلك أن الإيمان لا يكون إلا الغيب؛ والإسلام يكون بالاستسلام الظاهري؛ هذا إذا اجتمعا؛ أما إذا افترقا فكلٌ منهما يحمل معنى الآخر ضمنا؛ ولذلك يقول العلماء في الإسلام والإيمان: إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا‏.‏‏‏

فكلاهما ينوب عن الآخر ويقوم مقامه إذا ذكر وحده، فإذا قيل: هذا الشخص مؤمن فمعناه أنه مسلم، وإذا قيل مسلم فمعناه أنه مؤمن، وهذا معنى إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكرا معاً فإن لكل منهما معناه الخاص، كما في حديث جبريل، وإذا ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يتضمن الآخر غير المذكور؛ وبهذا المعنى يكون الإيمان أعلى ، فبينهما عموم وخصوص؛ فالإسلام أعم؛ والإيمان أخص؛ فكل مؤمن مسلم ولا عكس !! ومثله: الفقير والمسكين؛ فإذا ذكر أحدهما يحمل معنى الآخر؛ تقول: أقوم بتوزيع هذا المال على الفقراء؛ أو أقوم بتوزيع هذا المال على المساكين. أما ذكرا معا افترقا؛ كما في آية الصدقات في قوله تعالي: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ……..}الآية (النساء: 60)

العنصر الثاني: درجات الإيمان بالغيب

عباد الله: الإيمان بالغيب درجات ثلاثة: درجة علم اليقين؛ ودرجة عين اليقين؛ ودرجة حق اليقين. فالأولى: علم اليقين؛ أي أن الله أعلمنا عن طريق الوحي بالموت والبعث والحساب والجنة والنار وغير ذلك. والثانية درجة العين: وهي أن ترى ذلك أمامك بالعين المجردة. والثالثة: درجة الحق؛ وهي أن تجرب ذلك بنفسك وتتنعم بنعيم الجنة وتأكل من ثمارها؛ أو تُعذب في النار بصور العذاب. والدرجات الثلاث قد وردت في القرآن الكريم؛ فدرجة علم اليقين وردت في قوله تعالي:{ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (التكاثر: 5)؛ ودرجة الرؤية ( عين اليقين) وردت في قوله تعالى:{ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (التكاثر: 6 ؛ 7)؛ ودرجة حق اليقين وردت في قوله تعالي: { وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} (الحاقة: 51) أي أن الموت حق وكلٌ سيجربه؛ وكأس وكل الناس شاربه.

ولو ضربنا مثالاً توضيحياً من أرض الواقع؛ وقال أحدهم لك: إن فاكهة العنب نزلت في السوق؛ فهذه هي الدرجة الأولى وهو حصول العلم بذلك؛ فلو ذهبت إلى السوق ورأيت العنب؛ فقد انتقلت إلى الدرجة الثانية وهي درجة العين والرؤية والمشاهدة؛ ولو اشتريته وأكلت قطفا من العنب فقد وصلت إلى الدرجة العليا وهي درجة الحق واليقين بذلك؛ وكلما ارتقيت من درجةٍ إلى أخرى ازداد يقينك بالأمر؛ فليس الخبر كالمعاينة؛ وليست المعاينة كالتجربة!!

ولهذا طلب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام من ربه رؤية الغيب أمامه ليزداد اطمئنان قلبه بالإيمان؛ قال تعالي: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 260). قال ابن كثير: ” أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }

وقوله: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } اختلف المفسرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وعنه أيضًا: أنه أخذ وزًّا، ورألا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا.

وقوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أي: قطعهن. وعن ابن عباس: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة جبال . وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا بدون رأس ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.” ( تفسير ابن كثير )

فإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ يعلم يقينا أن الله يحي الموتى؛ ولكنه أحب أن يترقى إلى درجة العين والمشاهدة ليطمئن قلبه بالإيمان؛ ولكن الله الكريم قال: يا إبراهيم طلبت منا الدرجة الثانية وهي درجة العين والمشاهدة؛ ونحن أعطيناك الدرجة الثالثة والأخيرة وهي درجة الحق والتجربة!! قال الإمام الطاهر بن عاشور: ” وقوله : { ليطمئن قلبي } معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشُبه عن العقل”(التحرير والتنوير)

وقال السعدي:” وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين”

وقال القرطبي ما ملخصه :” لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ، ولهذا جاء في الحديث ” ليس الخبر كالمعاينة ” ( تفسير القرطبي)

أحبتي في الله: إذا كان أنبياء الله مع قدرهم وورعهم ومكانتهم عند ربهم يسعون جاهدين في الوصول إلى الدرجة العليا من درجات الإيمان واطمئنان القلب!! فحري بنا نحن المسلمين أن نجتهد في كل السبل والطرق التي ترفعنا إلى الدرجة العليا من درجات الإيمان بالغيب؛ ليزداد يقيننا بالله؛ وهذا ماثلٌ في الامتثال لأوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه!!

العنصر الثالث: المنكرون للغيب قديما وحديثا

أيها المسلمون: بالرغم من شمول القرآن والسنة على الأدلة القطعية التي تثبت الغيب والآخرة بما فيها؛ وبالرغم من وجود الآيات الكونية والإنسانية التي تدل على الخالق جلا وعلا ؛ إلا أن هناك من ينكر كل ذلك!!

فقديما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استبعد كفار قريش وجود بعث بعد الموت وجنة ونار ؛ وقد ضربوا لذلك الأمثلة؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس:77 – 79)

قال الإمام ابن كثير في تفسيره: “جاء أُبي بن خلف [لعنه الله] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذريه في الهواء، وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: “نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار”. ونزلت هذه الآيات من آخر “يس” : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ } ، إلى آخرهن.

وعن ابن عباس، أن العاصى بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم”. قال: ونزلت الآيات من آخر “يس”.

وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أُبي بن خلف، أو [في]  العاص [بن وائل]،  أو فيهما، فهي عامة في كل مَنْ أنكر البعث. والألف واللام في قوله: { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ } للجنس، يعم كل  منكر للبعث.” أ.ه

وهناك موقف آخر خاص بالعاص بن وائل ونزل فيه آيات تتلى إلى يوم القيامة؛ قال تعالى:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا }( مريم: 77 -80)

جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة؛ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ؛ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ. فَنَزَلَتْ:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } ( البخاري ومسلم)

فهو يقول ذلك إنكاراً للبعث والغيب وسخرية واستهزاءً !! ولكن الله أخبره أنه سيأتي يوم القيامة فردا بلا مال ولا أهل ولا ولد!! كما في قوله تعالي: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام:94)

أيها المسلمون: ولو نظرنا إلى الوقت الحاضر لوجدنا من الملحدين من يخرج علينا بين الفينة والأخرى؛ ينكر وجود الخالق جل وعلا ؛ أو الغيب أو البعث أو الجنة أو النار ……إلخ

وأكتفي بذكر مثالٍ واحدٍ حتى لا أطيل على أسماع حضراتكم؛ ” سافر أحد علماء الأزهر إلى أمريكا فقال: دعيت إلى إشهار عقد زواج ؛ وجئت لأملأ بيانات وثيقة عقد الزواج؛ فجئت إلى خانة الديانة؛ وسألت الزوجة؟ ما ديانتك؟ قالت لا أدين بدين!! قال: كل إنسان له ديانة حقا كانت أو باطلة! قالت: أنا لا أؤمن إلا بالمحسوس المشاهد؛ وأحسه بإحدى الحواس الخمس؛ وكل ما تؤمنون به غيب؛ فكان بجواره تليفون أرضي؛ فخلع منه السماعة؛ ثم رمى بها إلى أعلى؛ فسقطت السماعة على الأرض مرة أخرى؛ فقال لها: لماذا سقطت السماعة على الأرض ولم تظل فوق؟! قالت: هذا هو قانون الجاذبية الأرضية؛ فالأرض تجذب ما فوقها إليها! فأعطاها كأساً فارغاً وقال: لو سمحتِ املئي هذا الكوب جاذبية أو نصفه على قدر المستطاع!! قالت: إن الجاذبية لا يمكن مشاهدتها ولا تحس بإحدى الحواس الخمس؛ ولكن نؤمن بها ونعتقدها!! فقال: أتؤمنين بالجاذبية وهي مخلوقة وغير محسوسة ولا تؤمنين بخالق الجاذبية؟!! فقالت على الفور: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!! فكتب الديانة: مسلمة!!!” ( العالم هو الأستاذ الدكتور/ محمد إبراهيم الجيوشي- رحمه الله- عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة سابقا؛ وذكر ذلك في كتابه الدعوة الإسلامية؛ حينما كان يدرس لنا في مرحلة الإجازة العالية)

أيها المسلمون: ما أكثر الملحدون والمنكرون للبعث والغيب في هذا الزمان؛ وعليكم أن تواجهوا هذه الدعوات- الهدامة للدين والعقيدة- بالعقل والنقل!!

العنصر الرابع: واجبنا نحو الإيمان بالغيب

عباد الله: إن واجبنا نحو الإيمان بالغيب أن نتصوره ونتذكره في كل وقت وحين؛ تتذكر الموت والقبر والبعث والصراط والحساب والميزان والجنة والنار وأهوال يوم القيامة ودنو الشمس من الرؤوس وغير ذلك؛ فكلما تصورت الغيب أمامك ازداد يقينك وإيمانك بالله تعالى؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ؛ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟! قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا؛ وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ. قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ” ( متفق عليه)؛ ولهذا كانت درجة الإيمان واليقين بالله تزداد عند الصحابة حينما يذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب والجنة والنار وكأنهم يرون ذلك رأي العين؛ فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:” لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.”( مسلم)، قال النووي:” معناه : أنه خاف أنه منافق ، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر ، والإقبال على الآخرة ، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا ، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر ، فخاف أن يكون ذلك نفاقا ، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق ، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك.”( شرح مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم: “ساعة وساعة” أي: ساعة لحق نفسه وأهله وولده؛ وساعة لحق ربه؛ ولكن شبابنا اليوم أخذوا ” ساعة وساعة”؛ وعلقوها شماعة؛ فقالوا: ساعة لقبلك وساعة لربك! وجعلوها ذريعة لكل المعاصي؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل!!

فينبغي على كل مسلم أن يتذكر الغيب أمامه؛ ويعمل على كل عمل يذكره بربه والآخرة؛ فذلك أدعى لزيادة الإيمان وتثبيت القلب على طاعة الرحمن! لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم – مع علو مكانته عند الله – يكثر من الدعاء بتثبيت قلبه على الإيمان؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ” يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ ” قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ” ( الترمذي وحسنه)

وقد كرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء والمعراج ليرى الآيات الكبرى في السماء؛ ويرى الحقائق الغيبية عيانا بيانا تثبيتا لقلبه صلى الله عليه وسلم!!

اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك؛ اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا؛ وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان؛ واجعلنا من الراشدين؛ اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين؛ وألحقنا بالصالحين؛ غير خزايا ولا مفتونين!! اللهم آمين؛؛؛؛

وأقم الصلاة،،،،،

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى