خطبة الأسبوععاجل

خطبة بعنوان: نعمة الرضا في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير، 20 شعبان 1437هـ – 27 مايو 2016م

خطبة بعنوان: نعمة الرضا في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير، 20 شعبان 1437هـ – 27 مايو 2016م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:

عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منزلة الرضا في الإسلام
العنصر الثاني: أنواع الرضا
العنصر الثالث: الأسباب المعينة على اكتساب الرضا
العنصر الرابع: الرضا في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
العنصر الخامس: ثمرات الرضا وفوائده في الدنيا والآخرة
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منزلة الرضا في الإسلام
للرضا منزلة كبيرة في الإسلام؛ فهو من أعلى مقامات المقربين ، وثمرة من ثمار المحبة؛ وحقيقته غامضة على الأكثرين ، وهو باب الله الأعظم ، ومستراح العارفين ، وجنة الدنيا ، فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه ، وأن لا يستبدل بغيره منه ، أن ترضى عن الله ، لا بلسانك ، ولكن بجنانك . والرضا صفة عظيمة بين العبد وربه ؛ فرضا العبد عن الله : بأن لا يكره ما يجري به قضاؤه ، ورضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه . والرضا خلقٌ كريم تخلق به الأنبياء والصالحون؛ فهذا إسماعيل عليه السلام قال الله فيه:{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 55)؛ وهذا موسى- عليه السلام- كان يعجل إلى رضا ربه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (طه:84)؛ وهذا سليمان عليه السلام قال:{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل: 19)؛ وهذا زكريا عليه السلام يدعو ربه أن يرزقه ولدا رضيا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5 ؛ 6) ؛ والرضا كان ديدن آل إبراهيم عليه السلام؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ” لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ؛ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ؛ فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ؛ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ؛ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ! إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟! قَالَ: إِلَى اللَّهِ. قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ.”( البخاري). الشنة : القربة الصغيرة ؛ والدوحة : الشجرة الكبيرة.
ولقد أوصى الصالحون بهذا الخلق النبيل في كل زمان ومكان؛ فهذا لقمان عليه السلام يوصي ابنه قائلاً ” : أوصيك بخصالٍ تُقرِّبك من الله, وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت”. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى- رضي الله عنهما-: أما بعد: فإن الخير كله في الرضا, فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله, ولا تحسد أحداً على رزق الله, ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يـسـوقه حرص حـريـص, ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله – تبارك وتعالى – بقسطه وعلمه وحـكـمـتـه جـعــل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”. وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم: إذ لم تكن في ديني , وإذ لم أحرم الرضا , وإذ لم تكن أعظم منها , وإذ رجوت الثواب عليها.
فالسلف الصالح قد تأكد لديهم أن الطمع متى تمكن من القلب واستبد به، أصاب النفس الجشع وملأها الغل، وكرهت الخير الذي يأتي الناس، فتحسدهم وتتمنى زواله، وهذه النفس في حقيقتها لا تشبع من كثير، ولا تقنع بقليل، بل تظل عينيها متطلعة إلى ما عند الغير.
وهكذا حثت النصوص والأحاديث والآثار على نعمة الرضا والقناعة؛ وبينت منزلتها في الإسلام.
العنصر الثاني: أنواع الرضا
أحبتي في الله: تعالوا بنا لنعرف أنواع الرضا حتى نطبقها عمليا في حياتنا الاجتماعية على أرض الواقع. قال العلماء أن الرّضا نوعان:
أحدهما: الرّضا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهي الله عنه؛ وبمعنى آخر: امتثال المأمورات واجتناب المنهيات برضا وقناعة.
ولقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة على أن فعل الطاعات واجتناب المنهيات وسيلة لنيل رضا الله – عز وجل -؛ قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} (البقرة: 207)؛ وقال: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ}(البقرة: 265)؛ وقال:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(النساء: 114).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ؛ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ؛ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ.”(مسلم)
فإذا أردت أن يرضى الله عنك فارض أنت عنه أولاً بالطاعة والعبادة؛ إن فعلت ذلك فقد رضي الله عنك؛ ” وفي أخبار موسى عليه السلام: إن بني إسرائيل قالوا له سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا؟! فقال موسى عليه السلام: إلهي قد سمعت ما قالوا ؛ فقال: يا موسى قل لهم يرضون عنى حتى أرضى عنهم !!”(الإحياء للغزالي)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:” ” من أراد أن يعلم ما له عند الله جل ذكره ، فلينظر ما لله عز وجل عنده ” . ” الصحيحة – الألباني ” ؛ فإذا أرت أن تعرف عند الله مقامك فانظر على أي شئ أقامك؟!! فلو أنت مقيم على الرضا فالله راض عنك؛ ولو أنت مقيم على السخط فالله ساخط عليك !!
أما من كان على الكفر والفسوق والعصيان – والعياذ بالله- فإن الله لا يرضى عنهم؛ قال تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7) ، وقال: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} (التوبة: 96). وقال: { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (المائدة: 80)؛ وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }( محمد: 28)؛ والله سبحانه يذكر مقام الفريقين بقوله:{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(آل عمران: 162)؛ وهناك آيات كثيرة في الرضا والسخط لا يتسع المقام لذكرها ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!!
والنّوع الثّاني: الرضا بالمصائب: كالفقر والمرض والذّلّ وغير ذلك من نوائب الدهر وصروفه؛ فلن يبلغ العبد مقام الرضا حتى يفرح بالنقمة فرحه بالنعمة؛ “كما قيل ليحيى بن مُعاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إِذا أَقام نفسه على أَربعة أُصول فيما يعامل به ربِّه، فيقول: إن أعطيتني قَبِلْت، وإِن منعتني رضيت، وإِن تركتني عبدت، وإِن دعوتني أَجبت .” [مدارج السالكين]. ” وسئل جعفر بن سليمان الضبعي: متى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قال: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة!! وكان الفضيل يقول: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى.” (الإحياء)
وهناك صور مشرقة لسلفنا الصالح في الرضا بالبلاء والمصائب لنأخذ منها العظة والعبرة ونطبقها على أرض الواقع.
” فعن الأحنف بن قيس قال: شكوت إلى عمي صعصعة بن معاوية وجعاً في بطني، فنهرني ثم قال: يا ابن أخي، إذا نزل بك شيء فلا تشكه إلى أحد، فإنما الناس رجلان، صديق تسوءه، وعدو تسره، والذي بك لا تشكه إلى مخلوق مثلك لا يقدر على دفع مثله عن نفسه، ولكن إلى من ابتلاك به، وهو قادر على أن يفرج عنك.
يا ابن أخي إحدى عيني هاتين ما أبصر بها سهلا ولا جبلاً من أربعين سنة، وما اطلعت على ذلك امرأتي ولا أحد من أهلي.”. (ربيع الأبرار للزمخشري) . قال أحدهم :
إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا * * * عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببليّة * * * على الناس تخفى والبلايا مواهب
“وري أن عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته.فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حاله فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة. قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى، أحبه إلي. ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة، إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة، فمن يشاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضياً به؟”( الإحياء للغزالي)
” وروي أن سعد بن أبي وقاص قدم إلى مكة وقد كف بصره؛ فجعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم فجعل يدعو لهم؛ وكان مجاب الدعوة . قال عبدالله بن السائب : فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني فقلت : يا عم أنت تدعو للناس فيشفون؛ فلو دعوت لنفسك لرد الله عليك بصرك!! فتبسم ثم قال : يا بني قضاء الله أحب إلىَّ من بصري.” (مدارج السالكين)
“ويروى أن عيسى عليه السلام مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيراً من خلقه، فقال له عيسى: يا هذا أي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته، فقال له: صدقت هات يدك، فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأفضلهم هيئة! وقد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه. (الإحياء)”؛ وهناك قصص ومواقف كثيرة للرضا بنوائب الدهر لا تسعفها هذه الوريقات في هذه الدقائق !! وقارن بين ذلك وبين ما نحن فيه !!
العنصر الثالث: الأسباب المعينة على اكتساب الرضا
أحبتي في الله: قد يقول قائل: الكلام عن الرضا جميل وممتع وفيه شوق إلى المسارعة إليه؛ فكيف أكتسب نعمة الرضا؟! أقول: للرضا طرق ووسائل وأسباب تعين على اكتسابه، وتتمثل فيما يلي:
أولاً: الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق: وأنه كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فهل مِن أحد يرزق العبادَ غيرُه سبحانه؟ وهو القائل:{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 58]. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ :” أَيُّهَا النَّاسُ , اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا , وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، خُذُوا مَا حَلَّ ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ.”( ابن ماجة والطبراني والحاكم وصححه)
ثانياً: تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء: وليعلمِ العاقل أنّ كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم!! وكم من رجال نشؤوا على فرش من حرير، وشربوا بكؤوس من ذهب، وورثوا كنوزا من المال، فما ماتوا حتى اشتهَوْا فراشًا خَشِنا يقي الجنب عَضّ الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع!! وآخرون قاسوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت لهم الخيرات، وصاروا من سراة الناس!!..فدوام الحال من المحال !! ولو دام الكرسي لأحد ما وصلك إليك!!
ثالثاً: أن ينظر المرء إلى من هو دونه في أمور الدنيا:
فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ” إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ.” (متفق عليه)؛ وفي رواية مسلم”: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.” قال المباركفوري: “إن المرء إذا نظر إلى من فُضِّلَ عليه في الدنيا، استصغر ما عنده من نعم الله، فكان سببًا لمقته، وإذا نظر للدون، شكر النعمة، وتواضع وحَمِدَ”.
فكلما نظرت إلى من هو أقل منك ازددت رضا وقناعة؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا ففي الناس من هو أشد منك مرضا؛ وإن كنت ضعيفا ففي الناس من هو أشد منك ضعفا.. فلماذا تَرفعُ رأسَك لتنظرَ إلى مَن هو فوقك، ولا تخفِضُه لتُبصِرَ من هو تحتك؟!.
وأذكر هذه القصة لرجل كان دائما ينظر إلى من هو أعلى منه في الدنيا وكثرة المال والخدم؛ وكيف كانت نهايته؟! فقد روي أن ابن الراوندي الضال جلس على جسر بغداد يسأل الناس فمرت خيل؛ فقال لمن؟ قالوا: لعلى بن بلتق غلام الخليفة؛ ثم مرت جواري فقال لمن؟ قالوا لعلى بن بلتق؛ ثم مر به غلام أشفق عليه فأعطاه رغيفا فقال ابن الراوندي الضال: لعلى بن بلتق خيل وجواري وأنا أتسول رغيفا!! فرماه وظل يومه جائعا.” (صيد الخاطر لابن الجوزي)؛ فانظر: قد اجتمعت فيه خصال الحسد والغل وعدم الرضا بما قسمه الله فختم الله على قلبه؛ فبعد أن كان من أهل السنة؛ انتقل إلى المعتزلة؛ ثم صار رافضيا؛ ثم صار ملحدا؛ ومات على ذلك – كما ذكرت كتب التاريخ – وهذه نهاية السخط وعدم الرضا!!
رابعاً: الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها:
فلله سبحانه وتعالى حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا. قال الله تعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32].
الناس للناس من بدو ومن حضر ………..بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم
فالذي يعترض على قسمة الله معترض على علمه وحكمته، وهذا جهل وضلال، فهل تعلم – يا عبد الله – أن الأرزاق بيد الله مقسومة، ومقاديرَها عند الله معلومة محسومة، وأن الفقر قد يكون أفضل لك من الغنى. فإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقره لفسد حاله, وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد حاله، وإن من عباد الله من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمه لفسد حاله، وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أعطاه الصحة لفسد حاله، وهكذا لله في خلقه شؤون..
وهناك قصة جميلة تثبت أن الله يعطيك لحكمة لا تعلمها؛ ويسلب منك لحكمة لا تعلمها. ” قال مسروق: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم، والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله، فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم. قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى. فإذن من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال.”( الإحياء )؛ لذلك يقول أحد العارفين بالله: ربما كان المنعُ عَين العطاء، وربّما كان العطاء عَين المنْع !
خامساً: العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان:
فالفقير ممتحن بفقره وحاجته، والغني ممتحن بغناه وثروته، وكل منهما مسؤول وموقوف بين يدي الله عز وجل؛ وكما أن الفقر ابتلاء، فكذلك الغنى ابتلاء وامتحان؛ قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.( الأنبياء: 35)؛ فالله يعطيك ليختبرك ويسلب منك ليختبرك؛ فإذا نجحت في الاختبار كنت مؤمناً حقاً؛ فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.”(مسلم)

سادساً: الاقتداء بأصحاب القناعة والرضا، والاطلاع على أحوالهم:
فينبغي عليك أن تطالع أحوال السلف الصالح وتدرس سيرتهم وما هم عليه من رضا وقناعة؛ فإن ذلك يقوى من عزيمتك ورضاك عن الله؛ يقول ابن الجوزي: “فسبيل طالب الكمال الاطلاع على الكتب، التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة…فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم.” . إلى أن قال: ” فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر هممهم.” (صيد الخاطر)
سابعاً: الدعاء أن يرزقك الله الرضا: فتدعو الله في كل وقت وحين بأن يرزقك القناعة والرضا؛ ولنا القدوة في نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ ثَوْبَانَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ.” (أحمد والترمذي)؛ ونحن نفعل ذلك استجابة لقوله تعالى: {وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}(طه: 130)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ؛ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ:” اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ؛ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.” (مسلم)؛ ويقول الخليفة عمر بن عبد العزيز داعيًا ربه: “اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته” (شعب الإيمان للبيهقي).
ثامناً: ملازمة طريق الطاعة والبعد عن طريق المعصية: فإن الطاعة طريق إلى رضا الله عن العبد؛ والمعصية طريق إلى سخط الله على العبد؛ قال معروف الكرخي:”قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقربك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل قال: دوام الطاعة لمولاك , وحرمة المسلمين، والنصيحة لهم.” (وفيات الأعيان).
واعلم أن الطريق وعر يحتاج منك إلى مجاهدة وصبر؛ وقد تعب فيه من قبلنا من الأنبياء والصالحين؛ فالطريق ليس مفروشا بالورود؛ وما أجمل وصف ابن القيم لهذا الطريق حيث يقول: ” الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضْجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذُبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب … وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم .” ( الفوائد )
أيها المسلمون: الرضا الرضا تفلحوا ؛ ولوسائل الرضا الزموا واعملوا حتى يرضى عنكم ربكم ونبيكم!!
العنصر الرابع: الرضا في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
عباد الله: إننا لو نظرنا إلى واقعنا المعاصر لوجدنا أن كل إنسانٍ مهما علا في المجتمع غير راضٍ عن نفسه وحاله وماله؛ فالفقير غير راضٍ بفقره؛ والغنيُّ يطلب المزيد؛ والموظف غير راضٍ عن وظيفته؛ وغير الموظف غير راضٍ عن حاله….وهكذا
وما أجمل وصف عباس العقاد لواقعنا المعاصر حيث يقول:
صغيرٌ يطلبُ الكِبرا …………….. وشيخٌ ود لو صَغُرا
وخالٍ يشتهي عملا ً………………. وذو عملٍ به ضَجِرا
ورب المال في تعب ……………….. وفي تعب من افتقرا
وذو الأولاد مهمومٌ …………………. وطالبهم قد انفطرا
شُكاةٌ مالها حَكَمٌ …………….. سوى الخصمين إن حضرا
فهل حاروا مع الأقدار…………… .. أم هم حيروا القدرا ؟
الناس كلهم شكاة ؛ كلٌ يشتكي حاله وماله ورزقه وعياله؛ ولمن تشتكي؟! أتشتكي الخالق للمخلوق؟! إن المخلوق لا يستطيع أن يجلب الخير والنفع لنفسه!! أو يذهب الضر والشر عن نفسه!! فكيف بغيره؟!! روي ” عن عبد الرحمن بن إبراهيم الفهري: عن أبيه قال: أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه: إذا أوتيت رزقا مني فلا تنظر إلى قلته، ولكن انظر إلى من أهداه إليك، وإذا نزلت بك بلية، فلا تشكني إلى خلقي، كما لا أشكوك إلى ملائكتي حين صعود مساوئك وفضائحك إليَّ.”[الزهد والرقائق للخطيب البغدادي].
“وجاء في الإسرائيليات: أن عابداً عبد الله دهراً طويلاً فأري في المنام، فلانة الراعية رفيقتك في الجنة؛ فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها، فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة؛ ويظل صائماً وتظل مفطرة. فقال: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقالت: ما هو والله إلا ما رأيت لا أعرف غيره. فلم يزل يقول: تذكري، حتى قالت: خصيلة واحدة هي فيَّ؛ إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يده على رأسه وقال: أهذه خصيلة؟ هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.” (الإحياء)؛ ” ولما نزل بحذيفة بن اليمان الموت جزع جزعا شديدا فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : ما أبكي أسفا على الدنيا بل الموت أحب إلي ولكني لا أدري على ما أقدم على الرضا أم على سخط ؟. ( كتاب المحتضرين – ابن أبي الدنيا )
أيها المسلمون: إن ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من عدم الرضا يصدق فيه قول الحسن البصري – رحمه الله – حينما سُئل من أين أتي هذا الخلق ؟ قال : من قلة الرضا عن الله ، قيل له : ومن أتي قلة الرضا عن الله ؟ قال : من قلة المعرفة بالله “(روضة العقلاء)
فالكل ساخط على السلب والعطاء؛ والكل غير راضٍ بمر القضاء؛ والكل – إلا من رحم الله – أهمل الأوامر الإلهية في كل صباح ومساء؛ والكل يحمل نعماً تساوي قصوراً شاهقة وهو ساخط على النعماء!!
” شكا بعضهم إلى بعض أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه. فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً!.” (الإحياء للغزالي)
فانظر يا عبدالله: كم تحمل من نعم وأنت غير راضٍ!! أما تعلم أن نعم الله عليك مغدقة وأنت لا تشعر !! أما تعمل أنك تملك الدنيا وأنت لا تشكر !! فعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”. أخرجه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني.
هِيَ القناعةُ فالزمْها تَعِـشْ مَلِكاً *** لـو لم يَكُنْ منك إلا راحةُ البدنِ
وانظر لمن مَلَكَ الدنيـا بأجْمَعِهَا *** هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكَفَنِ
فلماذا التسخط؟ ولماذا التشكي؟ وأنت آمِن في نفسك ومالك وأهلك، معافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، بل قوتُ عامٍ أو يزيد..
فاحمد ربك على العافية؛ والعيشة الكافية؛ والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وطريد وشريد وفقيد، وكم من رجل قد غلِب، ومَن ماله سلب، وملكه قد نهب، وكم من مسجون ومغبون ومدين ومفتون ومجنون، وكم من سقيم وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم والمرض الأليم؛ واعلم بأنّ للهمِّ مفتاحًا وهو السرور، وللذنب رب غفور.
رغيف خبـز يابـس تأكله في عافيـة *** وكوز ماء بارد تشربه من صافيـة
وغرفة ضيقـة نفسـك فيها راضـية *** ومصحف تدرسه مستندًا لساريـة
خير من السكنى بأبراج القصور العالية *** وبعد قصر شاهقٍ تُصلى بنار حامية
فيا مَن تشكو من توالي الهموم والأحزان، من قلة المال، من الفقر والحاجة… كن راضيا صابرا محتسبا قنوعا، ولتكن لك في رسول الله أسوة حسنة وقدوة طيبة؛ انظر إلى طعامه، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه.. لتدرك أنك في نعم كثيرة وخيرات وافرة..
العنصر الخامس: ثمرات الرضا وفوائده في الدنيا والآخرة
أيها المسلمون: إن للرضا فوائد كثيرةً وآثاراً عظيمةً؛ تعود على الفرد بالخير والسعادة في دنياه؛ وبالفوز والفلاح في أخراه؛ وتتمثل فيما يلي:
أولاً: تحقيق الغنى الكامل: فالغنى في الرضا والقناعة؛ والفقر في السخط والطمع؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟”قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي، فَعَقَدَ فِيهِمَا خَمْسًا، وَقَالَ:”اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبُدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ…” ( أحمد والترمذي والطبراني وحسنه الألباني)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ”( متفق عليه )؛ وقال بعض الحكماء: الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف.” أدب الدنيا والدين”؛ ويقول فرانكلين: “القناعة تجعل الفقراء أغنياء، والطمع يجعل الأغنياء فقراء”.
ثانياً: تذوق حلاوة الإيمان: فعَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ” ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا.” (مسلم)
ثالثاً: الرضا سبيل لمغفرة الذنوب: فعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.”(مسلم)
رابعاً: البشارة بالجنة : فقد تضافرت النصوص القرآنية ببشارة أصحاب الرضا بالجنة؛ قال تعالى: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } (التوبة: 21 ) وقال تعالى: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }(المائدة: 119) ويقول تعالى : يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }(الفجر) وقال عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- «إذا توفّي العبد المؤمن، أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنّة. فيقال: اخرجي أيّتها النّفس المطمئنّة، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض» (مدارج السالكين )؛ فأمة محمد – صلى الله عليه وسلم –أكثر أهل الجنة؛ فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة» . قال: فكبّرنا، ثمّ قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة» . قال: فكبّرنا، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفّار إلّا كشعرة بيضاء في ثور أسود، أو كشعرة سوداء في ثور أبيض» (مسلم)
خامساً: الفوز برضا الله في الآخرة: فعن أبي سعيد قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهلَ الجنةِ فيقولونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا “.(متفق عليه).
سادساً وأخيرا: تحقيق السعادة: فصاحب الرضا يعيش في سعادة وعيشة راضية؛ يتقلب بين الصبر والشكر؛ والقوة واليقين؛ لسانه بين الذكر والحمد ؛ أما الساخط يكون حاله مُضطربًا، ووضعه مُحزنًا، يتقلَّب بين حُزن وهمٍّ، وبين شقاءٍ وتعبٍ، وغم ونصب.
أيها المسلمون: هذه بعض ثمرات وفوائد الرضا في الدنيا والآخرة؛ وهناك ثمرات وفوائد أخرى لا يتسع المقام لذكرها؛ وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الرضا !!
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى