خطبة الأسبوع

موضوع قافلة اليوم السبت الموافق 19/4/2014 “حق الجار”

موضوع قافلة اليوم حق الجار ، وهذا مقال استرشادي عن حق الجار

لتحميل القافلة أضغط هنـــــــــا

وللقراءة كما يلي:

إن الإسلام أوجب بين الناس التعاون والإحسان، وحرم الأذى والعدوان، وأقام العلائق بين الخلائق، ورغبهم في الحب والإخاء، والتراحم والوفاء.

ولهذا أوصى الإسلام بالجار، فأمر بالإحسان إليه، وأكد حقه وحذر من إيذائه وقهره.

فإن الجار أقرب الناس تجده لجاره، وأسرعهم إجابةً لندائه، وهو الذي يطالع الإنسان صفحة وجهه في كل يوم، ويلاقيه أكثر من أهله وذَوِيه، وهذا الجار له من الحقوق الكثيرة والتي عرَّفها لنا الإسلام، وجهِلها كثير من الناس، حتى وصل الأمر من بعض الجيران أنهم لا يسترون عورةً، ولا يُقِيلون عثرةً، ولا يغفرون ذنبًا.

 

وقبل الكلام عن حق الجار لا بد أن نعرف حد الجيرة.

 

قيل: “من صلى معك الصبح في المسجد، فهو جار لك“.

 

ونقل الحافظ – رحمه الله – فيالفتح” (10/ 447): عن علي أنه قال: “من سمع النداء، فهو جار“.

 

وكان الأوزاعي يقول: إن حدَّ الجار أربعون دارًا من كل ناحية، ونقل هذا الكلام عن عائشة – رضي الله عنها – أيضًا، وكذا الحسن.

 

وقد توسع البعض في حد الجوار، فجعل كل مَن ساكَن رجلاً في محلة أو في مدينة، فهو جار، واستدلوا بقوله – تعالى -: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 60]، فجعل الله – تعالى – اجتماعَهم في المدينةِ جوارًا، ولقد جاء في القرآن الكريم الوصيةُ بالجار؛ فقال – تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36].

 

  •  ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾؛ أي: الجار القريب، الذي له حقَّان: حقُّ الجوارِ، وحقُّ القرابة.

 

  •  ﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾؛ أي: الذي ليس له قرابة، فيكون له حقّ واحد، وهو حق الجوار.

 

  •  ﴿ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾؛ قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجةُ، وقيل: الصاحب مطلقًا، ولعله الأَوْلَى.

 

بل كان جبريل عليه السلام – يوصي الحبيب المختار – صلى الله عليه وسلم – بالجار؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن رجل من الأنصار، قال: “خرجت مع أهلي أريد النبي – صلى الله عليه وسلم – وإذا به قائم، وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أن له حاجةً، فوالله لقد قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى جعلت أَرْثِي له من طول القيام، ثم انصرف، فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أَرْثِي لك من طول القيام، قال: ((أتدري من هذا؟))، قال: لا، قال: ((جبريل، ما زال يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه[1]، أما إنك لو سلمت عليه، لرد عليك السلام))؛ صحيح الترغيب والترهيب (2572).

 

وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيُورِّثه))؛ لذا كان حسن الجوار من أوليات دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم.

 

فعندما سأل هرقل أبا سفيان، فقال له: بما يأمركم؟ فقال أبو سفيان: “يأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء…”؛ الحديث.

 

وكان الصحابة الكرام يقومون بحق الجار حتى مع الكفار، فكانوا من أحرص الناس على إكرام الجار، وإن كان غير مسلم؛ فقد أخرج الترمذي وأبو داود – بسند صحيح – عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: “أنه ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟”، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه))؛ صححه الألباني في الإرواء (891).

 

وللجار حقوق لا بدَّ أن يَعِيَها ويعلمها كل مسلم:

– الحق الأولالإحسان إلى الجار بالقول والفعل:

فالإحسان إلى الجار خلق كريم، يهيِّئ القلوب إلى الخير، وحين يشعر الجار بسلام مع جاره ويراه يحسن إليه، يطمئن قلبه، وترتاح نفسه، ويَنشرح صدره.

 

1- فالمسلم الحق هو الذي يُحسن إلى جاره:

فقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كن ورِعًا تكن أعبد الناس، وكن قنِعًا تكن أشكر الناس، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا)).

  

2- وجعل الإسلام الإحسان إلى الجار من علامات أهل الإيمان:

فقد أخرج الإمام مسلم، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُحسن إلى جاره)).

  

ويدل على هذا أيضًا ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من يأخذ عني هذه الكلمات، فيعمل بهن أو يعلم مَن يعمل بهن؟))، فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعدَّ خمسًا، فقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسِن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب))؛ السلسلة الصحيحة (930).

 

3- من أراد أن يحبه الله ورسوله، فليحسن إلى جاره:

فقد أخرج الطبراني فيالأوسط، والكبيرمن حديث عبدالرحمن بن أبي قراد السلمي، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن أحببتُم أن يُحبكم الله ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتُم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار مَن جاوركم))؛ صحيح الجامع (1409).

 

4- حسن الجوار يزيد في العمر، ويعمر الديار:

فقد أخرج الإمام أحمد – بسند صحيح – عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنه من أعطي من الرزق، فقد أعطي حظه من الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، يَعمُران الديار، ويَزيدان في العمر)).

 

5- من أراد أن يدخل الجنة، فليحسن إلى جاره:

فقد أخرج البيهقيفي شُعب الإيمانمن حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:

أن رجلاً قال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عمِلت به، دخلت الجنة، فقال: ((كن محسنًا))، فقال: يا رسول الله، كيف أعلم أني محسن؟ قال: ((سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن، فأنت محسن، أو قالوا: إنك مسيء، فأنت مسيء)).

 

وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه – بسند صحيح – عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: “قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم -: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال: ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: أسأت، فقد أسأت))؛ الصحيحة (1327).

 

فجارك هو الميزان أو المؤشر، الذي من خلاله تستطيع أن تعرف حقيقة نفسك، وهل أنت محسِن أم لا؟

 

ومن صور إحسان الجار إلى الجار:

  •  تعهُّده بالهدية بين الحين والآخر:

فالهدية إلى الجار طريق إلى المحبة والأُلفة، وهي تأسِر القلب وتملك الفؤاد؛ ولذلك جاءت الأحاديث مصرِّحةً بذلك؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا ذر، إذا طبختَ مرقةً[2]، فأكثِر ماءها، وتعاهد جيرانك)).

  

وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “والله، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نار، قال: قلت يا خالة، فما كان يعيِّشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جيران من الأنصار، وكانت لهم منا منائح[3]، فكانوا يرسلون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ألبانها، فيَسقيناه)).

  

فمن الإحسان أن تهدي إلى جيرانك ولو شيئًا يسيرًا؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يا نساء المسلمات، لا تَحقرن جارة لجارتها، ولو فِرْسَنَ[4] شاة)).

 

  •  والمعنى: لا تَحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا، ولو أنها تهدي إليها ما لا ينتفع به في الغالب”؛ (الفتح:10/ 445).

 

ومن صور الإحسان إلى الجار كذلك:

  •  صيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خَلته، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويُسيء إليه:

 

الحق الثاني: حل مشكلاته وقضاء مصالحه:

لا بد للجار أن يتعايَش بجسده ورُوحه مع جاره، فيسعى في حل مشكلاته وقضاء مصالحه؛ وذلك من باب: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].

 

ومن باب قوله – تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].

 

لكن لسان حال كل واحد منا يقول: أنا لا أستطيع حل مشكلاتي حتى أحل مشاكل غيري، وينبغي للجار أن يكون في حاجة أخيه؛ ليكون الله في حاجته؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته)).

 

وعلى الجار أن يُيسِّر على أخيه؛ ليُيسِّر الله عليه، فالأيام دُوَل، وفي صحيح مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من يسَّر على مُعسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه)).

 

الحق الثالث: عرض العقار أو الأرض على الجار قبل غيره عند إرادة البيع:

فعندما يتحول الإنسان من دار إلى دار، فإنه يعرض الدار المباعة على جاره أولاً قبل غيره، وكذلك لو كانت قطعة أرض، وهذا من حق الجار عليه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه، وفيه: ((من كانت له أرض، فأراد بيعها؛ فليعرضها على جاره))، وهذا الأمر أطيب لخاطره ولقلبه، والتفريط في هذا الأمر يفتح باب المشاحنات.

 

الحق الرابع: إذا استقرضك فأقْرِضه:

من حق جارك إذا قدر الله – عز وجل – أن تمرَّ به ضائقة مالية، وأتى إليك ليَستقرض منك مالاً، فعليك أن تعطيه إن كان معك هذا المال، وهذا من باب التعاون بين المسلمين؛ قال – تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].

 

فعلى الجار أن يقف بجوار جاره في أوقات شدته؛ حتى يُيسر الله عليه الشدائد في الدنيا والآخرة؛ فقد أخرج الإمام مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من يسَّر على مُعسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))، فلقد كان الناس إلى زمن قريب يواسي بعضهم بعضًا، فإذا شعر الجار بحاجة جاره إلى معونة، بذل ماله من غير سؤال.

 

الحق الخامس: أن تنصره ظالمًا أو مظلومًا:

ويشير إلى ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – الثابت في صحيح البخاري: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: ((تَحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصْره))، فإذا أحب الجار أن يَبطش بجاره أو أي إنسان أو يَظلمهم، فعلى الجار الآخر أن يمنعه من ذلك ويسعى في الإصلاح بينهم.

 

فواجب على الجار أن يسعى في الإصلاح بين جيرانه، وأن يكون أداة صُلح وخير، لا أداة إفساد وتدمير، وإلى كل هذا يشير ربنا – سبحانه – في قرآنه، وحبيبنا – صلى الله عليه وسلم – في سنته، فيقول – تعالى -: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114].

 

ويقول – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10].

 

ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – عند البخاري ومسلم: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويُعِين الرجل في دابته، فيَحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خُطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويُمِيط الأذى عن الطريق صدقة))، والمقصود بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ويعدل بين الاثنين صدقة))؛ أي: رجلين متخاصمين، فعدَل بينهما؛ أي: أصلح بينهما.

 

وأخرج أبو داود والترمذي – بسند صحيح – عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البَيْن؛ فإن فساد ذات البَيْن هي الحالقة)).

 

الحق السادس: تعليمه العلم الشرعي، ومصاحبته إلى المساجد ومجالس العلم:

فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطب ذات يوم، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم، ولا يعلِّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقَّهون ولا يتَّعظون؟ والله ليعلِّمن قوم جيرانهم ويفقِّهونهم، ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلَّمن قوم من جيرانهم، ويتفقَّهون ويتعظون؛ أو لأُعاجلنهم العقوبة))، ثم نزَل، فقال قوم: مَن ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: عنى الأشعريين؛ فإنهم قوم فُقهاء، ولهم جيران من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، ذكرت قومًا بخير، وذكرتنا بشرٍّ، فما بالنا؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرة أخرى: ((ليعلِّمن قوم جيرانهم، وليعظنهم، وليأمرنهم ولينهونهم، وليتعلَّمن قوم من جيرانهم، ويتعظون، ويتفقَّهون؛ أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا))، فقالوا: يا رسول الله، أَنُفطن غيرنا؟ فأعاد عليهم قوله، فأعادوا قولهم: أنُفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضًا، فقالوا: أمْهِلنا سنة – فأمَهلهم سنة؛ ليعلِّموهم، ويفقِّهوهم، ويعظوهم، ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78 – 79].

 

ولقد كان الجيران على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتناوبون في تعلُّم العلم من النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يأتي أحدهم جاره، فيعلمه ويُخبره بخبر الوحي، ثم يفعل جاره معه مثل ذلك؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – اللتين قال الله – تعالى – عنهما: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4]؛ حتى حج عمر وحججتُ معه، فلما كان ببعض الطريق، عدل عمر وعدَلت معه بالإداوة، فتبرَّز، ثم أتاني فسكَبت على يده، ثم توضَّأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن المرأتان من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – اللتان قال الله – تعالى – عنهما: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4]؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس؟ هي حفصة وعائشة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا – معشر قريش – قومًا نغلب النساء، فلما قدِمنا المدينة، وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلَّمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه مثل ذلك”، الحديث.

 

فعليك أيها الحبيب، أن تقوم بحق جارك عليك: من النصح، والتعليم، والوعظ والإرشاد، وأن تصحبه إلى مجالس العلم؛ لتكون ممن قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه – كما في صحيح مسلم -: ((من دلَّ على خير، فله مثل أجر فاعله)).

 

فيوم مثل يوم الجمعة، ما المانع أن تصحب معك جارك إلى الصلاة، ولا تتركه لنفسه الأمارة بالسوء؟ بل اصحبه إلى المسجد حيث: الرحمات والبركات، والقربى، والزلفى إلى رب الأرض والسموات، ولك مثل أجره.

 

الحق السابع: إحسان الظن بالجار:

فإذا رأى الجار ما يريبه من جاره، فليحسن به الظن، وإذا تكلَّم معه فليحمل كلامه محملاً حسنًا؛ لقوله تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12].

 

فعلى الجار دائمًا أن يحسن الظنَّ بأخيه الجار؛ لأن إساءة الظن بالآخرين تُورث الشحناء والبغضاء بين أفراد المجتمع، وقد يكون هذا الذي تسيء الظن به وتُبغضه، أفضل منك بكثير وأنت لا تدري؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والطبراني في “الكبير” – بسند صحيح – عن أنس – رضي الله عنه – أن رجلاً مر بمجلس في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسلَّم الرجل، فردوا عليه، فلما جاوَز، قال أحدهم: إني لأبغض هذا، قالوا: مه، فوالله لننبِّئنَّه بهذا، انطلق يا فلان، فأخبره بما قال له عليه، فأخبره، فانطلق الرجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فحدَّثه بالذي كان، وبالذي قال هذا الرجل، قال الرجل: يا رسول الله، أرسل إليه، فاسأله لم يُبغضني؟ فأرسل إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لِمَ تُبغضه؟))، قال: يا رسول الله، أنا جاره وأنا به خابر، ما رأيته يصلي صلاةً إلا هذه الصلاة التي يصليها البَر والفاجر، فقال له الرجل: يا رسول الله، سله هل أسأتُ لها وضوءًا أو أخَّرتها عن وقتها؟، فقال: لا، ثم قال: يا رسول الله، أنا له جار وأنا به خابر، ما رأيته يطعم مسكينًا قط إلا هذه الزكاة التي يؤديها البَر والفاجر، فقال: يا رسول الله، سله هل رآني منعتُ منها طالبها، فسأله، فقال: لا، فقال: يا رسول الله، أنا له جار وأنا به خابر، ما رأيته يصوم صومًا قط إلا الشهر الذي يصومه البَر والفاجر، فقال الرجل: يا رسول الله، سله هل رآني أفطرت يومًا قط لستُ فيه مريضًا ولا على سفر؟ فسأله عن ذلك، فقال: لا، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((فإني لا أدري، لعله خير منك)).

 

فعليك أخي الجار الكريم، أن تحسن دائمًا الظن بجارك في أقواله وأفعاله؛ لتدوم الحياة بينكما على المودة والأُلفة والرحمة.

 

الحق الثامن: عدم إيذاء الجار:

لقد حذَّر الإسلام أشد التحذير من إيذاء الجار، وبيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن مَن آذى جاره، فليس مؤمنًا بالله واليوم الآخر.

 

1- فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذِ جاره))، فدل ذلك على أن عدم أذى الجار من الإيمان؛ ولذا تجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ينفي الإيمان عمن يؤذي جاره؛ فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقَه[7])).

 

كما في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي شُريح الكعبي، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: يا رسول الله، لقد خاب وخسِر، من هذا؟ قال: ((مَن لا يَأمن جاره بوائقه))، قالوا: وما بوائقه، قال: ((شرَّه))، وفي رواية لمسلم قال: ((لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه)).

واقرأ هذه القصة:

ذكر الغزَّالي في الإحياء (2/ 291):

أن بعضهم شكا كثرة الفئران في داره، فقيل له: لو اقتنيت هرًّا؛ أي: قطة؛ حتى يهرب الفأر من دارك، فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر، فيهرب إلى الجيران، فأكون قد أحببت لهم ما لا أحبُّ لنفسي“.

 

وعيد وإنذار لمن آذى الجار:

1- ذنب الاعتداء على الجار مضاعف:

لقد بالغ الإسلام أشد المبالغة في المحافظة على الجار وعدم إيذائه، فقد ضاعف عقوبة الذنب الواحد إلى عشرة أضعاف؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي ظَبية الكَلاعي، قال:

سمعت المِقْدَاد بن الأسود يحدِّث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سألهم عن الزنا، فقالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة، خير له من أن يزني بامرأة جاره))، قال: وسألهم عن السرقة، فقالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: ((لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره))؛ صحيح الجامع (5043).

 

2- بل أذى الجار سبب دخول النار:

أخرج الإمام أحمد وابن حبان – بسند صحيح – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:

قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((هي في النار))، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقِط[8]، ولا تؤذي جيرانها، قال: ((هي في الجنة))؛ (صحيح الترغيب:2560).

 

3- أذى الجار سبب لعدم دخول الجنة:

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه)).

 

بل يُقسم النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك، ففي رواية الإمام أحمد وأبي يعلى والبزار – بسند جيد -: ((والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة عبد لا يأمَن جاره بوائقه)).

 

4 – وليعلم كل من يؤذي جاره أن أول من سيخاصمه أمام الله يوم القيامة هو جاره:

فقد أخرج الطبراني في “الكبير”، وأحمد – بسند صحيح – عن عقبة بن عامر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)).

 

فاحذر أخي الحبيب من أذى الجار؛ حتى لا يشكوك إلى الله – تعالى – يوم القيامة.

 

ومن صور إيذاء الجار:

1- الوقوع في عرضه: من سَبٍّ، أو لعْن، أو شتم، أو غيبة، أو نميمة:

وقد مر بنا الحديث الذي رواه أحمد:

أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن فلانة تُكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((هي في النار)).

 

2- سوء الظن به والتجسس عليه:

وقد نهى الله – تعالى – عن ذلك، فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12].

 

وقد نهى – صلى الله عليه وسلم – عن التجسس، فقال – كما عند الإمام أحمد بسند حسن -: ((يا معشر مَن آمَن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات الناس، فمن تتبَّع عوراتهم، فضحه الله في جوف بيته)).

 

3- تشغيل المِذياع أو التلفاز بصوت عالٍ:

وهذا مما يؤذي الجار، فلا يستطيع المُتعَب أن يرتاح، ولا المريض أن يهنأ بمنام، ولا الطالب أن يستذكر دروسه، فرفع الصوت مخالف لتعاليم الإسلام، حتى ولو كان بالقرآن؛ فقد أخرج أبو داود – بسند صحيح – عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: “اعتكف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ((ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)).

 

فإذا كان رفع الصوت ممنوع حتى ولو بالقرآن، فما نقول إذا كان رفع الصوت بمزامير الشيطان التي تؤذي الجيران، نسأل الله الهداية لأهل العصيان.

 

4- أن يغلق بابه دون جاره، ويمنعه فضله:

ذكر المنذري – في الترغيب وعزاه للأصبهاني بسند فيه مقال – عن ابن عمر مرفوعًا: “كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب، سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله؟”؛ ضعيف الجامع.

وإن كان الحديث ضعيفًا، لكن ما مر بنا يشهد لمعناه.

 

  •  فهناك من يمنع فضله عن جاره فيبيت شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم.
  •  وهناك من يلبس أجمل الثياب، ويضع أفضل الطيب، وبجواره جاره الذي ليس عليه رداء يكتسي به من برد الشتاء.
  •  وهناك من يدخل بألوان الفاكهة على أهل بيته، وأولاد جاره الفقراء ينظرون إليه دون أن يُعطيهم.
  •  فكل هذا من إيذاء الجار.

 

وصدق ابن عمر – رضي الله عنهما – حيث قال: “لقد أتى علينا زمان، وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم“.

 

5- أن يزرع شجرة أو نخلة بجوار جداره، ثم يسقيها بالماء، فيتضرَّر الجدار بذلك.

 

6- أن يبني جدارًا – دون إذنه – يحجب عنه الشمس، ويمنع عنه الهواء.

 

7- أن يفرح وجاره مهموم: فهناك من يقيم الأفراح والليالي الملاح، والبيت الذي بجواره مات فيه إنسان.

 

8- نشر الملابس دون عصرها، فيتساقط الماء على ملابس الجار الذي يسكن تحته.

 

9- وهناك نماذج أخرى من الإيذاء:

  •  كإلقاء القمامة والكناسة حول داره وأمام بابه.
  •  أو التضييق عليه عند الدخول أو الخروج.
  •  أو الدق في وقت الليل.
  • أو عدم نُصرته إذا كان مظلومًا، أو عدم إغاثته إذا كان ملهوفًا.
  •  أو إفشاء سره، وغير ذلك من صور الإيذاء.

 

ينبغي أن يكون لسان حالك:

أَقولُ لجاري إذ أتاني مُعاتبًا مُدِلاًّ بحقٍّ أو مُدِلاًّ بباطلِ إذا لم يَصل خيري وأنت مُجاورٌ 

إليكَ فما شرِّي إليك بواصِلِ 

 

الحق التاسع: الصبر على أذى الجار:

فربما يبتلى المرء بجار سيِّئ الجوار، معتد أثيم، فعليه أن يصبر على آذاه وهذا من حُسن الجوار.

فقد أخرج أبو داود – بسند حسن – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فشكا إليه جارًا له، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات: ((اصبر))، ثم قال في الرابعة – أو الثالثة -: ((اطرح متاعك في الطريق))، ففعل، قال: فجعل الناس يمرون به، ويقولون: ما لك؟ فيقول: آذاه جاره”، فجعلوا يقولون: لعَنه الله، فجاءه جاره، فقال: رُدَّ متاعك، لا والله لا أُؤذيك أبدًا”؛ صحيح الترغيب (2559).

 

فانظر كيف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر هذا الرجل بالصبر، ولم يأمره أن يعامل جاره بالمثل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى