عاجل

وزير الأوقاف يكتب.. على قيثارة الوطنية

لاشك أن المشروعات الكبرى أحد أهم العوامل التي ترسخ الانتماء للوطن , وتشعر المرء بقيمته , وتعزز الولاء له , غير أن الوطني الصادق هو الذي يشعر بهذا الولاء والانتماء على كل حال وفي كل حال، في الشدة والرخاء ، في السراء والضراء ، في العسر واليسر ، في المكره والمنشط , إن كبا وطنه كان على استعداد تام لبذل النفس والنفيس حتى يسلم الوطن من كبوته , ويستعيد مجده وعافيته , فالوطنية لديه عطاء لهذا الوطن , وردّ لجميله , وعشق لترابه وأرضه وسمائه , لأنه ينظر إليه بعين المحب , كهذا الذي قيل له ما بلغ بك حب فلانة ؟ فقال : بلغ ذلك بي أني أرى الشمس فوق منزلها أجمل منها فوق منزل جيرانها , فلسماء الوطن ونجومه وكواكبه وأرضه وترابه ومعالمه  لمسة تدرك ولا توصف , فما أن يقلع الإنسان الوطني من وطنه حتى يشعر أن جزءًا منه ليس فيه ، قد تركه مع الوطن قبل أن يغادره أو يرحل منه , وما أن تطأ قدمه أرض وطنه حتى يشعر أن ذلك الجزء الذي كان منفصلا عنه قد رد إليه .

          على مائدة الوطنية تربينا ، من مائها العذب نهلنا , فقد سافرت كثيرًا , وأكرمت في سفري أكثر , غير أني في كل مرة كانت تطأ قدمي أرض وطني عند العودة إليه والارتماء في أحضانه أشعر بأمان خاص وارتباط خاص ، والتصاق الروح بالوطن التصاقًا فريدًا , فالإنسان بلا وطن جسد بلا روح ، وشيء بلا معنى.

        ويزداد هذا الارتباط أكثر وأكثر بمسقط الرأس ، وموطن الصبا ، فهو موضع حنين دائم ، لارتباطه بذكريات الطفولة وريعان الشباب , وحنو الوالدين والأهل الكرام , ولا سيما أنه يرتبط ببساطة وطيبة وكرم أهل الريف على ما هم فيه من شظف العيش وصعوبة الأحوال , غير أن كرم النفوس يفوق بكثيرضيق ذات اليد  ، على حد  قول الشاعر :

وإذا طلبـــت إلى كريــم حاجـــة فلقــاؤه يكفيــــــــك والتسليـــــــــم

             وقول الآخر :

تــــهلل قبـــــــل تسليمــــي عليــــه   وألـــــــــــقى مالــه قبـــل الوســــاد

وقول زهير بن أبي سلمى :

تــــــــراه إذا ما جــــــــئته متهــــللا كأنك تعطيه الذي أنت سائلـــــه

            لقد نظر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مسقط رأسه إلى مكة المكرمة حين خرج منها مهاجرًا إلى المدينة المنورة ، فقال  : والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلىَّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت .

           وظلّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقلب وجهه في السماء رجاء أن يوجهه الله عز وجل في صلاته إليها لما لها من أثر ومكانة وارتباط في نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) ، حتى نزل قول الله تعالى : ” قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ” ( البقرة : 143 ) ، غير أن بعض من لا يفهمون لا الدين ولا معاني الوطنية ولا حتى الإنسانية يصرفون هذه المعاني على غير وجهها ، يتنكرون لماضيهم وحاضرهم ، لأهلهم ووطنهم ، يبيعون كل ذلك بثمن بخس ، في أنانية مقيتة ، لا تلمس فيها وفاء لأهل ولا لوطن ولا لصديق ، ولا حتى لأيام الصبا والشباب .

           إننا لفي حاجة ملحة إلى غرس مبادئ وقيم الوطنية من جديد ، في حاجة إلى دراسة تاريخ الوطن ، وأدباء الوطنية ، وما قدمه العظماء من بطولات وتضحيات في سبيله ، فحين نقرأ أدب الجيل الماضي لدى الشعراء العظام الذين عزفوا على قيثارة الوطنية نجد أننا في حاجة ملحة إلى دراسة هذا الشعر دراسة واعية متأنية ، ونعجب أننا لم نعد قادرين على إنتاج مثل هذا الأدب والإبداع الراقي ، الذي تتجذر فيه المشاعر الوطنية في أعماق الأدباء  شعرًا ونثرًا ، قصة ورواية ، رجزًا وأنشودة ، ويكفي أن نقف عند بعض أبيات حافظ في قصيدته الرائعة ” مصر تتحدث عن نفسها” لنقف على أثر الأدب الوطني الراقي في النفوس وفي إلهاب المشاعر الوطنية وإذكاء الحماس الوطني ، حيث يقول :

وقـــف الخلق ينظرون جميعـــــــا كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الدهــــر  كفونـــي الكلام عند التحـــــدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشـــــرق ودراتــــه فرائـد عقــــــــــــــــــــدي
فترابى تبر ونهــــــــــرى فـــــــرات وسمــــائى مصقولة كالفرنـــــــــــد
ورجالى لو انصفوهم لســـــــــادوا  من كهول ملء العيون ومـــــــرد
لو أصابوا لهم مجــــــالا لأبــــــدوا معجزات الذكاء فى كل قصـــــد
هل فهمتم أسرار  ما كان عنــدي من علوم مخبـــوءةٍ طـي بُردي؟
ذاك فن التحنيط قد غلب الدهـر وأبلى البلى وأعجــز نِـــــــــــــدي
أنا إن قدر الإله ممـــــــــــــــــاتــــى         لا ترى الشرق يرفع الرأس بعــدى
ما رمانـــــي رام وراح سليمـــــــــــا من قديم عناية الله جنــــــــــــــدي
كم بغت دولة عليّ وجــــــــــــارت ثم زالت وتلك عقبى التعــــــــدي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى