الإمام الأكبر في حواره مع صحيفة ” المصري اليوم ” : إذا فتحنا باب التكفير فلن ينجو أحد
فى أول حوار صحفى يجريه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، لجريدة فى الشرق الأوسط منذ توليه منصبه.. جلس شيخ الأزهر فى تواضع جمٍّ وودٍّ معهود عنه، يرد على أسئلة «المصرى اليوم».. لم يرفض سؤالاً من أسئلتى حتى ما بدا ثقيلاً منها، ولم يترك الباب موارباً فى القضايا الجدلية، حوار اتسم بالحسم والجرأة فى مناقشة أغلب القضايا الساخنة المطروحة على الساحتين المصرية والعربية، تحدث عن العلم والثقافة والإبداع، عن التعليم فى الأزهر ومناهجه، عن داعش والشيعة وإيران، عن حرية الاجتهاد ومدنية الدولة، عن الإخوان وعباس شومان، وكيل الأزهر. فى هذا الحوار أكد فضيلة الإمام الأكبر وسطية الأزهر الشريف، وأشار إلى أن التطرف لن يختفى من المجتمع بسهولة أو فى فترة قصيرة؛ لأنه ظاهرة اجتماعية استغرق تغلغلها فى المجتمع عقوداً، وساعد على ذلك ظروف سياسية واجتماعية أوجدت بيئة ملائمة للتطرف لينمو وينتشر ويتسرب إلى العقول والنفوس، وأنه إذا فتحنا الباب أمام التكفير فلن ينجو أحد. كما رفض شيخ الأزهر اتهام وزير الثقافة لمؤسسة الأزهر بالجمود، ورأى أنه من الأجدى أن تنشغل الوزارة بتقييم أدائها بدلاً من إثارة المعارك غير المفيدة.. وإلى نص الحوار:
■ فضيلة الإمام، ما دور الأزهر الشريف فى نبذ التطرف فى مصر والوطن العربى؟
– رسالة الأزهر الشريف منذ قرون هى تقديم الإسلام فى وسطيته وسماحته «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً» هذه هى رسالة الإسلام.. توسُّطٌ وقصدٌ واعتدالٌ وعفوٌ وتسامحٌ. ورسولنا عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم كان نبى الرحمة، وعلَّمنا أن طبيعة الاختلاف أساس من أسس الإسلام.. «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين».. «أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
■ هل هناك رؤية واضحة لنبذ التطرف؟
– الأزهر على وعى تام بأننا نخوض غمار أمواج عاتية من التحولات والصراعات والتغيرات السياسية والدولية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن الدين هو إحدى أهم الأوراق التى يحاول أن يستخدمها كل طرف فى صراعه، وقد وقف الأزهر برصيده الهائل من العلم والعلماء حجر عثرة فى مواجهة توظيف الإسلام وتسخيره لمطامع السياسة، ومن ثم حاولت الأطراف المتصارعة استقطاب الأزهر واستخدامه كورقةٍ من أوراق الصراع.
■ حدثنى أكثر عن آليات التنفيذ؟
– بكل اطمئنان نقول: إنَّ الأزهر الشريف قد تخرَّج فى معاهده وجامعته ملايين العلماء من دعاة الوسطية، هو الآن يواصل الليل بالنهار لمحاربة هذه الأمواج، وذلك بإعادة النظر فى المناهج الأزهرية كافة، ليس بالأزهر فقط بل على مستوى الدولة بالتعاون والتنسيق مع وزارة التربية والتعليم، كما نعمل على إتاحة السبل كافة من أجل تبليغ كلمة الأزهر للناس من إصلاح ما فى التعليم وحلقات التدريس فى كبرى المساجد، والظهور فى وسائل الإعلام، والمؤتمرات الدولية، وعقد الندوات فى الأندية ومراكز الشباب.. وهذا وحده لا يكفى لأن المسؤولية هنا مسؤولية جميع مؤسسات الدولة، وبخاصة المؤسسة الأمنية، والمؤسسة القانونية ودورها الرئيسى وضع اللوائح والتشريعات التى تجرم نشر الفكر المتطرف والترويج له والدعوة إليه، ودور السياسة الخارجية فى التعامل بحزم مع الدول والهيئات التى تروج للتطرف وتعمل على نشره.
■ البعض يثمِّن الجهود التى بُذلت فى المؤتمر الأخير، لكنهم يرون أن محاربة الفكر المتطرف تتجاوز فكرة عقد المؤتمرات إلى آليات محددة قابلة للتنفيذ؟
– لا يمكن لأحد أن يزعم أن عقد مؤتمر أو مؤتمرات عديدة يكفى لمحاربة التطرف، ولا يمكن لأحد كذلك أن يقول إن التطرف سيختفى من المجتمع بسهولة أو فى فترة قصيرة. نحن أمام ظاهرة اجتماعية استغرق تغلغلها فى المجتمع عقوداً، وساعد على ذلك ظروف سياسية واجتماعية أوجدت بيئة ملائمة للتطرف لينمو وينتشر ويتسرب إلى العقول والنفوس.. ومحاربته هى جهد طويل المدى ومتعدد الأوجه.
■ هل ترى فى سياسة الحكومة- ممثلة فى وزارة الأوقاف- بمنع غير الأزهريين من صعود المنبر خطوة لنبذ الفكر المتطرف؟
– بكل تأكيد، فإن منع غير الأزهريين من صعود المنابر يمثل خطوة فى الاتجاه الصحيح، وكان ذلك أول مطلب لنا من وزير الأوقاف فور ترشيحه، وإن كانت قد تأخرت، فمنابر المساجد بما لها من جلال ومنزلة لا يُمكن أن تُترك فى حال الفوضى التى كانت عليها من قبل، وما كان يحدث من احتلال لها من جانب جماعات أو أفراد يوظفونها لخدمة السياسة، أو للترويج لأفكار غير صحيحة ولا يزال أمام وزارة الأوقاف الكثير مما يجب فعله لمحاصرة هذه الأفكار؛ لأن المنبر بطبيعته يعطى ما يقال من فوقه قوة وتأثيراً نابعين من موقع المنبر فى القلوب والنفوس، ويحسب الناس أن كل ما يُقال من على المنبر من صحيح الدين، وأن الخطباء إنما يقدمون إليهم الإسلام الحق، وهذه مسؤولية كبرى على الجهات التى تمنح الخطباء والوعَّاظ حق مخاطبة الناس من فوقه.
■ قد يعتلى المنبر أزهرىٌّ لكنه غير مؤهل، فما الضمانة إذن؟
– لا شكَّ أن التأهيل الدينى يُعدُّ عنصراً أساسياً فى ارتقاء المنبر، لكنه لا يكفى وحده، وإنما يجب أن يكون الاختيار وفق ضوابط دقيقة؛ إذ لا يُعقل أن يترك اختيار مَن يُسيطِرون على عقول الناس والشباب دون أىِّ ضوابط يُراعى فيها الكفاءة والعلم، ولابد أن تكون هناك رقابةٌ على مستوى الخطباء وتقييم كفايتهم وأدائهم، وأن يتلقى الخطيب من التدريب ومن الإعداد بعد إتمام دراسته، ما يجعله يُقدِّر الموقف الذى يقفه حق قدره، وكون الخطيب يتبعُ وزارة الأوقاف يُلقِى عليها واجبَ حسابه إذا أخطأ أو تجاوَزَ، أو أساء أداء وظيفته لأن الخطأ هنا فادح التأثير.
■ ولماذا انسحب الأزهر طوال السنوات الماضية وترك المنابر لمن سمموا الأفكار والعقول؟
– الأزهر لم ينسحب من أداء دوره فى أى مرحلة؛ لأنَّ تعيين الخطباء والرقابة عليهم ومتابعتهم مَنُوطةٌ بالدولة مُمثَّلة فى وزارة الأوقاف، وليس الأزهر، فخطباء المساجد لا يتبعون الأزهر من الناحية الإدارية وإنما يتبعون وزارة الأوقاف، والتعاون بين الوزارة والأزهر قائم ومستمر ومتعدد الأوجه، لكن لكلٍّ اختصاصاته وصلاحياته.
وبشكل عام فإن ما كان يحدث فى الفترة السابقة من ترك المنابر لمن لا يستحق هو جزء من ظاهرة شائعة ومتجذرة اجتماعياً، هى التراخى فى تنفيذ القانون. وهذا موجود فى مجالات كثيرة، حيث تكون المخالفات علنية وظاهرة لكن لا أحد يطبق القانون بشأنها.
إن التشريعات موجودة بالفعل، وهناك من المواد واللوائح ما يمنع غير خطباء الأوقاف المجازين من اعتلاء المنابر، غير أنه كثيراً ما كان يتغاضى عنه، وشيئاً فشيئاً تجذَّر أسلوب التغاضى وتعمق حتى فرض وجوده. وكان الأزهر يحذر دائماً من خطر هذه الممارسة، لكن الجهات المسؤولة لم تعط هذا الأمر أهميته اللازمة، ولم تقدِّر الخطر حق قدره.. الآن تغير الوضع من الناحيتين، فالدولة بحكم ما وقع من أحداث تنبهت إلى خطورة التراخى فى تطبيق القانون وتعمل على إنفاذه، والناس بعد تجربة حكم الإخوان والوعى الذى خرجوا به منها أصبحوا أكثر تأييداً لضبط الأمور، بل أصبحوا هم من يطالب بذلك.
■ لدى بعض الناس ملاحظات على مناهج التعليم الأزهرى، حيث يقولون إن منها ما لم يعد يتماشى مع روح العصر ومنها ما يدعو إلى التشدد، فهل هناك خطة لتنقيح مناهج التعليم الأزهرى؟ وما ملامحها؟
– هذه الاتهامات تدخل فى باب التجاذب السياسى الذى تشهده مصر، وللأسف فإن كثيراً منه ليس بريئاً من الأهواء والحسابات. ومن جهتى فأنا لست ممن يتجاهلون الانتقادات أو يرفضونها، بل إننى أكلِّف إدارات مختصة وأشخاصاً أثق بهم بمراجعتها وتحليلها وتقييم ما ورد بها، وما يمكن الاستفادة منه أطبِّقه فوراً.
المناهج الأزهرية محلّ مراجعة دائمة، والمشتغلون بالتعليم يعلمون أن عمليات تطوير المناهج هى عمل دائم لا يتوقف.
■ كثيرون لديهم اعتقاد بأنَّ منهج الأزهر يعتمد على التلقين فقط ولا مجال للحوار واختلاف الرؤى؟
– هذا اعتقاد خاطئ وغير صحيح، نعم هناك علوم تلقينية شأنها شأن كل العلوم التى تلقنها الثقافات والحضارات الأخرى فى العالم لأطفالها وتلاميذها، لكن الذى لا يعرفه الكثيرون هو أن المنهج الأزهرى فى أغلبه منهج حوارى يقوم على تعدد الآراء واختلاف الرؤية.. والذى يقول إن مناهج الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وأصول الدين وأصول الفقه وعلم الجدل مناهج تلقينية لا يعلم عن هذه المناهج شيئاً لا من قريب ولا من بعيد.
■ وماذا عن المناهج التراثية التى لا تمت للعصر الحديث بصلة؟
– المناهج التى تضم نصوصاً تراثية هى تدريب للطلاب على الاتصال بهذا التراث وفتح مغاليقه، ولو لم نفعل ذلك لانقطعت الصلة بهذا التراث ولخسرنا جزءاً من مقومات شخصيتنا الحضارية.
والتراث بلغته وأسلوبه ومنهجه يحتاج إلى تدريب على التعامل معه، وهذا هو الهدف من إدراج نصوص منه فى المناهج، لا بغرض اعتبارها مُسلَّمات لا تقبل الجدل، بل نُخضعها للمراجعة والتقييم. الطالب يجب أن يتعلم كيف يفهم هذه النصوص ليُخضعها فيما بعد للحكم وليتفق معها ويختلف بناء على قواعد الترجيح المتفق عليها عند العلماء، أما اقتطاع نص من كتاب، معزولاً عن سياق تدريسه والطريقة التى يتعامل بها المدرسون والأساتذة معه- كما يفعل البعض- فهو افْتِئات ومغالطات وتشويه للحقيقة.
■ هل أفهم من ذلك أن فضيلتكم تنفى وجود مناهج تدعو للتشدد تُدرَّس فى الأزهر الشريف؟
– المناهج لا تدعو إلى التشدُّد، فهذا يتناقض مع روح الأزهر ورسالته التى هى رسالة الإسلام، فالتشدُّد والتطرف هما أمراضٌ وخصائص واستعدادات نفسية ترتبط بالشخص ذاته والبيئة التى تربى فيها والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فتزداد وتنتشر فى عصور، وتقل حدَّتها فى عصورٍ وفترات أخرى، ولا علاقة لها بمناهج الأزهر الذى كان دائماً وعلى مرِّ العصور يقف بالمرصاد للتطرف والتشدد والغلو؛ ولذلك لم يهنأ الأزهر بفترة سلام حتى فى عهد الإخوان.
ونحن لا نُنكر أن الأزهر كغيره تسلل إليه متشددون يحاولون استغلال مواقعهم كمعلمين وأساتذة فى الجامعات فى نشر أفكارهم، ولا أعتقد أن نسبتهم فى التعليم الأزهرى تزيد على نسبتهم فى باقى مؤسسات المجتمع.
ولكِ أن تلقى نظرة تأمل على قادة الفكر المتطرف والمتشدد فى كل أنحاء العالم لتعلمى أنه لا يوجد من بينهم من تخرج فى الأزهر، باستثناء شخص واحد، كانت له ظروف خاصة، ولا يوجد له ثان ولا ثالث فى تاريخ الأزهر كله، ومن المؤسف أن يُشار إلى الأزهر بتهمة الإرهاب صباح مساء، ولا يشار بكلمة واحدة إلى الجامعات والكليات التى ينتمى إليها كل قادة الإرهاب وأئمته ممن نعرف وممن لا نعرف.
■ لماذا شاهدنا طلاب جامعة الأزهر ممن كنا نعتقد أنهم يدرسون صحيح الدين بهذا التطرف؟ وكيف تمكن الإخوان من استقطابهم؟
– طلاب جامعة الأزهر يزيد عددهم على 400 ألف طالب، وفروع جامعة الأزهر تنتشر من شمال مصر إلى جنوبها. ومجموع من اجتذبتهم أفكار التشدد قليل جداً بالقياس إلى مجموع أعداد الطلاب، كذلك فإن المواجهات التى شهدتها جامعة الأزهر تركزت بصورة واضحة فى القاهرة أكثر من سواها، وكانت المدينة الجامعية أكثر ظهوراً فى هذه الأحداث من مبنى الجامعة نفسه.
وأعتقد أن الأمر له بعد اجتماعى أكثر من البعد الدينى، وبعيد عن المناهج، هو يتعلق بطبيعة جامعة الأزهر بالقاهرة التى تضم مغتربين من كل محافظات مصر وقراها البعيدة، وهم يسكنون القاهرة طيلة فترة الدراسة، وبعضهم يقيم فى المدينة الجامعية وبعضهم خارجها، وفى ظل الابتعاد عن البيت، وقضاء وقت أطول مع أشخاص من خارج المحيط الأسرى، ومع ظروف البعد عن الأهل وحاجة الإنسان إلى الوجود ضمن جماعة تحتضنه يسهل استقطابه، وخصوصاً من المدخل الذى يتخذ الطابع الدينى. والمتربصون بالطلاب كثر، وهم يدركون الحماسة والشعور المضطرم اللذين تتسم بهما هذه المرحلة، فيستغلونهما فى اجتذاب الطلاب المغتربين إلى صفوفهم بصورة مبدئية، ثم يوجهونهم بعد ذلك إلى ما يشاءون من فكر. ولعل هذا يفسر أن أفرع الجامعة فى المحافظات، حيث يعيش الطلاب مع ذويهم، لم تشهد مواجهات مثلما حدث فى القاهرة.
■ ولماذا جامعة الأزهر بالذات، فهناك مغتربون فى كل الجامعات؟
– أعتقد أنَّ اسم جامعة الأزهر فى ذاته كان مُستهدَفاً للإيحاء بشرعيةٍ مفقودة، أو إعطاء صبغة دينية كاذبة لفشل سياسى ثار بسببه كلُّ طوائف الشعب المصرى، فكانوا يُروِّجون للعالم كله صورة الضحيَّة التى تُدافع عن الإسلام، وهذا التوظيف كان يلزمه اسم الأزهر ولو بصورةٍ مُفتَعلة وصلت إلى حد استدعاء طلاب من خارج الجامعة واستئجار بلطجية وغيرهم ممن ينتمون للجماعة لاقتحام جامعة الأزهر وكلياتها لأخذ الصور والتقارير التى تُرسِل للعالم إشارات خادعة وغير صحيحة.
■ وكيف تكون مواجهة المشكلة؟
– تركزت مواجهتنا للمشكلة فى شقين.. الأول: التوجيهات المشدَّدة لكل المسؤولين بالتصدى بحزم لأى خروج على القانون بقوةٍ وحزم، والوقوف بقوة أمام محاولات التخريب وتعطيل الدراسة، والشق الثانى: هو وضع خطط لاستيعاب الطلاب المغتربين بصورة خاصة فى أنشطة اجتماعية وفكرية ورياضية، وإيجاد وسائل لهم للتعبير عن أنفسهم واستغلال طاقاتهم.
■ هل تعتقد فضيلتكم أن توسع الأزهر فى الكليات الأزهرية المدنية كان له تأثير على الدراسات الفقهية؛ وبالتالى على الرسالة الأساسية للأزهر؟
– هذه قصة معقدة وقديمة، ولم يؤخذ رأى الأزهر عندما فرضت عليه الكليات الجديدة عام 1961.
■ أود معرفة وجهة نظرك الشخصية بغض النظر عما هو قائم بالفعل؟
– وجهة نظرى الشخصية أن يتفرغ الأزهر للعلوم الدينية واللغوية والشرعية وإعداد الدعاة وتثقيفهم ثقافة عالية، أما اختصاصات مثل الطب والهندسة والعلوم فيمكن لجامعات أخرى أن تقوم بالمهمة فيها، لكننا نتعامل الآن مع أمر واقع. وقد ألقى ذلك عبئاً ثقيلاً على الأزهر ولكنه نجح فيها رغم كل الصعوبات التى لا يزال يُواجهها، وأصبح لدينا طبيبٌ أزهرى لديه من العلم والقيم والمبادئ ما يفرض عليه ضوابط أكثر من أى طبيبٍ آخَر، وعلى جانبٍ آخَر فإنَّ التخصصات العلمية ألقت بعبءٍ ثقيل على الأزهر من حيث الدعم المالى، فجامعة الأزهر ما زالت أقل الجامعات ميزانية رغم أنَّ بها أكثر من أربعمائة ألف طالب و٣٥ ألف طالب من الوافدين من مائة دولة، وقد تسبَّب نقص التمويل هذا فى نوعٍ من الخلل فى مسيرة جامعة الأزهر العلمية، نحن نُعلِّم الطلاب العلوم والشريعة والفقه، وحتى عهد قريب كان الطالب الأزهرى يمتحن فى المقامات الموسيقية وعلوم الفلك، وغير ذلك من العلوم.
■ وأين هذا الآن؟
– تغيرت الظروف كما هى الحال فى كل مصر.
■ وهل يمكن أن تعودوا لتعليم الرسم والموسيقى أو أن تكون هناك كلية للفنون الجميلة تابعة للأزهر؟
– الأزهر ليس لديه مانع أن يتبنى تدريس أى علم حتى لو كان هذا العلم هو الموسيقى أو غيرها.
■ جاء الهجوم الدموى على صحيفة «شارلى إبدو» ليجدد الحديث عما يسمى «الإرهاب الإسلامى»، فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟
– لقد أكد الأزهر مراراً أن الإسلام الآن أصبح يُحاكَم بجريرة أشخاص يرتكبون الجرائم باسمه، ولقد كان بيان الأزهر واضحاً كل الوضوح فى إدانة هذا السلوك الإجرامى، فأساليب الدفاع عن الإسلام ورسوله الكريم ليس من بينها اللجوء إلى القتل الوحشى وارتكاب المجازر التى يدفع ثمنها المسلمون فى كل أنحاء العالم ويتحملون كلفتها من أمن بلدانهم وسمعتها وحريتها واقتصادها ومستقبلها، وعلى المسلمين فى كل مكان أن يجهروا بإدانة مثل هذا السلوك الإجرامى والإعلان عن رفضهم له.
■ ما رأى فضيلتكم فى ذهاب الرئيس السيسى إلى الكاتدرائية وتهنئة الإخوة الأقباط بالعيد؟
– فى صباح ذلك اليوم قمت ومعى وفد رفيع من علماء الأزهر الشريف يضم جميع المؤسسات الدينية (الأزهر والأوقاف والإفتاء) بزيارة الكاتدرائية لتهنئة إخوتنا من أقباط مصر بعيدهم، وهو تقليد نحرص عليه دائماً، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسى فى صباح ذات اليوم بالكويت الشقيقة، وقد كانت زيارة الرئيس للكاتدرائية مفاجأة أسعدت كل المصريين المسلمين والمسيحيين، وجاءت تقديراً عميقاً من الرئيس السيسى ولفتة كلها برّ ووفاء، وتطبيقاً لتوجيهات القرآن الكريم وتعاليم نبى الإسلام، وتأكيداً لوحدة المصريين وأنهم أسرة واحدة.
■ بماذا تفسر الحملة الضارية التى يشنها الإخوان المسلمون على الأزهر؟
– دوافع الإخوان المسلمين فى الهجوم على الأزهر واضحة، فقد وقف أمام أطماعهم وأمام استغلالهم للدين فى تحقيق مآرب سياسية، وقد تأكد خلال وجودهم فى الحكم أنهم يسيرون بمصر إلى المجهول، رغم استزراع الموالين والمناصرين فى كل المواقع بغض النظر عن الكفاءة والقدرة، وهو ما كان يهدد مستقبل مصر وشعبها. وقد تنبه الأزهر إلى ذلك مبكراً، ما استعدى الإخوان ودفعهم إلى شن حملات ظالمة متوالية عليه، وخاضوا معارك ضارية لاختراقه وزرع أنصارهم فيه، ولكننا بفضل من الله وتوفيق منه وتثبيت منعنا حدوث ذلك. والإخوان المسلمون لم ينسوا أن الأزهر كان فى طليعة القوى التى استعادت مصر فى ظل تأييد غير مسبوق من الشعب المصرى، ولم ينسوا وجود الأزهر فى بيان الثالث من يوليو إلى جانب كل القوى الشعبية والدينية والسياسية الحريصة على مستقبل مصر.
■ وماذا عن هجوم بعض المثقفين؟
– هجوم بعض المثقفين على الأزهر تقوده فى كثير من الأحيان الانحيازات الفكرية، أو اتخاذ موقف مسبق من الدين ودوره، ما يجعل مواقفهم تجاه الأزهر تتسم بالغلو والعصبية.. وفى كثير من الأحيان تبدو هى نفسها «تطرفاً» وانحيازاً واضحاً للديكتاتورية وتكميم الأفواه، فى الوقت الذى تدّعى فيه أنها تحارب التطرف وأمينة على حرية الرأى.
لا أقول إن الأزهر يخلو من المشكلات، بل العكس هو الصحيح، فنحن نمارس نقداً مستمراً للذات، ونعلم أن هناك جوانب تقصير ونقص نعمل على علاجها، ونراقب كل ما يُكتب، وأنا بشكل شخصى أتابع الانتقادات التى تُنشر فى وسائل الإعلام أو الملاحظات التى تردنا عبر قنوات كثيرة، وآخذ فى كثير من الأحيان باقتراحات وأفكار ترد فيها. أما حملات الهجوم للهجوم، أو الكراهية المطلقة فلا تتضمن فى العادة غير تجريح وإساءات، وهذه لا أجد فيها عادة ما يفيد.
ويحرص الأزهر على عدم الاستجابة لأجواء التصعيد أو المعارك الجانبية، فمصر الآن بحاجة إلى التكاتف لا النزاع أو الشقاق.
■ لماذا يبدو وكأن هناك خلافاً دائماً بين مؤسسة الأزهر الشريف ووزارة الثقافة والمثقفين؟ وهل الأزهر ضد الإبداع؟
– ليقل لى أى شخص ما هى الإبداعات التى منعها الأزهر؟ هناك آلاف الأفلام والمسرحيات والكتب، وبعضها يهاجم الأزهر بطريقة يمكن أن تكون هجومية أو ساخرة أو جارحة، ومع ذلك لا يعترض الأزهر كمؤسسة عليها، ولكن حين يُحال إلينا عمل لإبداء الرأى الشرعى فيه نكون مطالبين بإبدائه، شرعاً وقانوناً، وقرارات المنع والإجازة تصدرها جهات غيرنا اعتماداً على حيثيات يكون من بينها رأى الأزهر أحياناً وليس دائماً. الأزهر لم يكمم الأفواه ولم يصادر حريات الناس، بالعكس أنا أريد أن تكون لنا حرية فى الحديث والتعبير عن الرأى مثل وزارة الثقافة!!
■ ولكن وزير الثقافة أطلق تصريحاً بأن هناك جموداً فى مؤسسة الأزهر فما تعليقك؟
– وزير الثقافة الحالى صديق قديم وبيننا مودة وإخاء، ولكنى فوجئت ببعض التصريحات التى يحرص فيها على تصوير الأزهر بوصفه مؤسسة متحجرة متعصبة تعادى الفكر والإبداع، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً. وأنا أعتقد أن معلومات وزير الثقافة عن الأزهر وعن مناهجه وعلومه قد تكون متواضعة.
فعلى سبيل المثال لقد اعترضنا على فيلم «حلاوة روح»، لكننا لم نكن وحدنا، فقد شاركنا الاعتراض عليه السيد رئيس الوزراء وجهات أخرى، أليس من حقنا التعبير عن وجهة نظرنا كالآخرين؟ ثم ألا تدرك وزارة الثقافة أن أغلب من يحللون أزمات مصر الحالية يُحمّلون الوزارة نصيباً كبيراً من المسؤولية عن انتشار الأمية الثقافية والتراجع الفكرى الذى تتعدد مظاهره، وكذلك عن تمهيد الأرض لانتشار التطرف؟ هل راجعت وزارة الثقافة أداءها فى ضوء الانتقادات المعلنة ويتبناها مثقفون وكتاب من اتجاهات مختلفة لا ينتمون إلى الأزهر؟ إنهم يتساءلون مثلاً: ما مستوى المجلات والإصدارات الثقافية للوزارة قياساً إلى إصدارات ومجلات مناظرة فى العالم العربى؟ ما تأثيرها؟ هل تؤدى دورها فعلاً؟ هل تقوم الهيئات والمؤسسات التابعة لوزارة الثقافة بما ينبغى القيام به؟ المسارح وقصور الثقافة وبيوت الثقافة والسلاسل الثقافية الأسبوعية والشهرية التى يجب أن تصدر عن الوزارة، هل تعمل كما ينبغى؟ أتصور أن انشغال وزارة الثقافة بمثل هذه القضايا أجدى من افتعال معارك لا يستفيد منها أحد، وأقول هذا من موقع الحريص على المصلحة لا من موقع المنتقد، فأنا أعلم صعوبات العمل فى مواقع المسؤولية. وأعتقد أن صديقى العزيز معالى وزير الثقافة يتفق معى فى أن «مصر» الآن تنتظر منا جميعاً معارك أخرى.
■ ولكنّ هناك فرقا بين إبداء الرأى من قبل الأزهر وإلزام المؤسسات به؟
– بالتأكيد.. رأى الأزهر ليس ملزمًا، فنحن لسنا جهة قضاء لإصدار أحكام ولسنا جهة تنفيذية لإصدار قرارات، وليس لدينا عصا نُعاقب بها مَن لم ينفذ رأينا، مهمة الأزهر- مثلاً- أن يقول: الخمر حرام، لكنه ليس مسؤولاً عن تنفيذ ذلك.. مهمة الأزهر تنتهى عند إبلاغ الحكم الشرعى للناس، أما تنفيذ المنع أو الإجازة أو العقوبة أو المسامحة فهذا مما تختص به جهات أخرى لا صلة لها بالأزهر من قريب أو بعيد.
■ إذًا ما هى أسباب قرار الأزهر بمنع عرض مسرحيتى «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا»، وقرار منع عرض الفيلم الأمريكى «الخروج.. آلهة وملوك»؟
– أؤكد مرة أخرى أننا لا نُصدر قرارات، بل نقول رأيًا، ولعلَّ من الأشياء الغريبة أن يجرى الحديث اليوم عن «الحسين ثائراً» أو «الحسين شهيداً»، فالمسرحيتان كُتِبتا قبل خمسة وأربعين عامًا، ومُثِّلتا من جانب عشرات الفرق المسرحية فى مصر وفى غير مصر، إنَّ استحضار هذه الواقعة ما هو إلا نموذج لإثارة المعارك المفتعَلة مع الأزهر، وأُكرِّر القول بأنَّ الحديث عن منع الأزهر لعمل فنى هو تحريف للواقع، فالأزهر- كما أوضحتُ- لا يملك حقَّ المنع، بل يُبدى رأيًا شرعيًّا مُسبَّبًا فقط، ثم إنَّ قرار المنع اتخذته الرقابةُ على المصنفات، وسببُ المنع هو وجود أخطاء تاريخيَّة، وقد تمَّ عرض الفيلم على رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة حسبما صرح رئيس الرقابة. وقد منع الفيلم فى المملكة المغربية لأسبابٍ مشابهة، فهل منعه الأزهرُ هنا وهناك؟!
هناك حالةٌ من الخلط وعدم الدقة تُسيطِر على تناول قضايا منع الأعمال الفنية، ويدخل بعضها فى إطار اختلاق الوقائع للهجوم على الأزهر.
■ نعود إلى قضية تجسيد الأنبياء والصحابة فى الأعمال الفنية، فالأزهر يرفض ذلك منذ 1926، ولكن هناك مَن يقول: إنه مع الإنترنت والفضائيات أصبح الشباب يُشاهدون أعمالاً غربية يُجسَّد فيها الأنبياء، مما يجعل من منطق عام 1926 منطقًا يحتاج للمراجعة؟
– للمرة تلو الأخرى نقولُ: إنَّ الأزهر يُبدى رأيًا بالاعتراض على تجسيد الأنبياء والرسل والخلفاء الراشدين وعدد من صحابة رسول الله- عليه أفضل الصلاة والسلام- لمكانتهم التى لا ينبغى أن تُمسَّ بأىِّ صورة فى الوجدان الدينى، وتجسيد شخصياتهم هو انتقاصٌ من هذه المكانة الروحية التى يجب الحفاظ عليها، ونزول بها من عليائها وكمالها الأخلاقى ومقامها العالى فى القلوب والنفوس إلى ما هو أدنى بالضرورة، وليست هناك ضرورة تقتضى ذلك، ولا نرى أنَّ هذا الأمر فى عام 1926 يختلف عنه الآن أو فى المستقبل.
أمَّا ما يرد إلينا من الغرب، فإن المشاهد العربى المسلم سوف ينظر إليه بالضرورة باعتباره منتجًا لثقافةٍ تصدر إلينا كثيرًا مما لا نقبله ولا يتَّفق معنا، ويختلف هذا تمامًا عن كون العمل الذى يُجسِّد الأنبياء والصحابة عملاً عربيًّا.
وكثير من المسيحيين المصريين ينظرون إلى الأعمال الغربية التى تجسد السيد المسيح- عليه السلام- نظرة غير راضية فى كثيرٍ من الأحيان، بما يعنى أن الأمر يتعلق بثقافة مجتمع، وليس برأى للأزهر فقط.
■ وماذا عن باقى الصحابة، وماذا لو وجه انتقاد لشخصيات مثل خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص فى عمل فنى؟
– كل هذه الانتقادات التى رأينا بعضها فى سيناريوهات الأفلام التاريخية، كانت فى الأغلب الأعم مبنية على أحداث تاريخية منحولة لا تثبت أمام النقد العلمى للروايات التاريخية، أما إذا التزم الكاتب بالمنهج العلمى السليم فى سرد الحوادث التاريخية، بأسلوب مهذب فى إطار الأدب المطلوب تجاه الصحابة رضى الله عنهم، فهذا أمر مقبول. وأعتقد أن طبيعة المصريين ومشاعرهم الدينية حساسة إزاء أى تجاوزات فى هذا النوع، وهو سياق اجتماعى تجب مراعاته.
■ لكن الصحابة ليست لهم قدسية الأنبياء؟
– نعم، لكننا نجلُّهم، والقرآن الكريم والنبى- صلى الله عليه وسلم- أثنى عليهم، ونحن مُلزَمون بتقديرهم، وأن ننأى بهم عن كلِّ ما يعرضهم للنيل منهم، وهناك فريقٌ من الناس يُعطى نفسه- تحت مسمى حرية الرأى- حقَّ الخوض فى سيرة الصحابة وسبهم، وهذا سوف يحاسبون عليه أمام الله، إننا ننظر إلى هذا الجيل الأول من المسلمين بما يستحقون من توقيرٍ وإجلال، ونتصدَّى بالرأى لكلِّ مَن يتجاوز فى حقِّهم بما لا يليق.
■ فضيلة الإمام، تحدثنا عن الأزهر وعلاقته بالثقافة والإبداع، دعنى أعرض على فضيلتكم ما يراه البعض من أنَّ الأزهر ضد العلوم والتقدم؟
– هذه أيضًا فِريةٌ وظلم للأزهر، الأزهر هو من حافظ على تراث المسلمين وطبهم وهندستهم وحضارتهم التى وصلت الى أوروبا.
■ لكن بعض رواد التنوير فى الأزهر الشريف اعتبروا تاريخيا من المارقين عليه؟
– ليس صحيحا، فالعلماء أمثال الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوى والشيخ العطار هم وغيرهم قادة التنوير لكنهم أيضا يقفون عند نقطة صغيرة من تاريخ الأزهر الطويل من العلم والتنوير وعمره الذى يصل إلى ألف وخمسين عاما.
■ لكن الأزهر وقَف لسنوات طويلة ضد قانون نقل الأعضاء حتى أُجيز مؤخرًا؟
– الأزهر لم يُحرِّم نقل الأعضاء، وقد أجاز شيخ الأزهر الراحل الشيخ محمد سيد طنطاوى- رحمه الله- نقل الأعضاء منذ وقت طويل، وأعلن أنه يتبرع بقرنيَّته بعد وفاته فى خطوة ذات دلالةٍ قاطعة فى هذا الشأن، وحين طلب منَّا قسم التشريع بمجلس الدولة الرأى فقد وافقنا على ذلك بذات الشروط التى صدَر بها القانون، وربما حدَث الخلط بسبب رأىٍ شهير للمرحوم الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى كان يُعارض فيه نقل الأعضاء، وهو اجتهادٌ لعالمٍ جليل خالَفَه فيه الأزهرُ، وصدَر القانون بموافقة الأزهر ووفقًا لرؤية الأزهر.
■ وماذا عن رفض أطباء الأزهر إجراء عمليات تغيير الجنس رغم وجاهة الأسباب العلمية فى كثيرٍ من الحالات؟
– هذا ليس صحيحًا أيضًا، فنحن لم نقف ضدَّ عمليات تحويل الجنس إذا كانت هناك دواعٍ شرعية وطبية مقنعة.
■ وقفتم ضد فكرة أطفال الأنابيب فى بداية طرح الأمر علميًّا؟
– كيف، ونحن لدينا مركز على بُعد خطوات من مشيخة الأزهر يرأسه الدكتور جمال أبوالسرور، يتمُّ فيه إجراء عمليات أطفال الأنابيب، وهو مركز عالمى، بل أعتقد أنه الوحيد فى الشرق الأوسط؟! وبشكلٍ شخصى، فإن أحد أقاربى لديه ابنة رزقه الله بها بعد عملية أطفال أنابيب، وهو يسعى إلى تكرار العملية.
الحقيقة أنه يوجد حملة تحريض وتشويه ضد الأزهر، والأزهر تعرض لما هو أشنع من ذلك وصمد.
■ لننتقل إلى القانون والتشريع.. البعض يرفض وصاية وسلطة الأزهر على القوانين وضرورة الحصول على موافقته لإجازتها؟
– قلت من قبلُ: إننا لا نمارس وصاية، ولسنا سلطة دينية، ونكتفى بالأمانة الثقيلة التى نحملُها، وندعو الله أن يُعيننا عليها، موقف الأزهر كان واضحاً معلناً فى لجنة وضع الدستور بأنَّ الأزهر يرفض أن يكون مرجعية مطلقة رغم إصرار الغالبية على ذلك، وطلبنا أن تكون الوصاية الدستورية للمحكمة الدستورية، ولها أن تطلب الاستعانة برأى الأزهر دون إلزامٍ لها بهذا الرأى أو ذاك.
■ سألته فى اندهاش وللتأكد مما سمعت.. الغالبية كانت تريد سلطة الأزهر على القوانين وأنتم من رفضتم؟!!
– نعم.. نحن الذين رفضنا هذه المرجعية، ومحاضر لجنة وضع الدستور ومضابطها موجودة يمكنكم الرجوع إليها.ويمكننى بعد كثير من التجارب أن أقول إن رأى الأزهر يكون من منطلق رحابة النظرة واتساعها بما لا يتوافر فى جهات أخرى يُفترض فيها أن تتسم بذلك.
■ أثار بيان الأزهر حول عدم تكفير داعش جدلاً كبيرًا، فما هو منطق الأزهر فى هذا الأمر؟
– كان مقصود الأزهر من بيانه الرافض لتكفير داعش درسًا لكل الأجيال ولكل العالم فى رفض الإسلام للتكفير، درسًا مستمدًّا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع أسامة بن زيد حين لحق بأحد المشركين مع أحد الأنصار وحين أدركه نطق بالشهادة ولكنه قتله، فكان رد الرسول الكريم: «هلا شققتَ عن قلبه؟!» وكان درسًا يتَّفِقُ مع وسطية الأزهر برفض التفتيش فى الضمائر والقلوب والنوايا، ولا يُريد للتكفير أن يكون سلاحًا يشهره كلُّ طرف تجاه الآخرين.. وقد كُنَّا واضحين، فقلنا: إنَّ داعش بُغاة يجب قتالهم، وهم على ضلال بيِّن، ويرتكبون فى حقِّ الإسلام والمسلمين أبشَعَ ما يرتكبُه إنسانٌ من جريمة.. كان هذا جليًّا فى البيان، وهو لا يحتاج إلى توضيحٍ أكثر.. وعلى ذلك راح البعض يتهم الأزهر بأنه يتعاطف مع داعش ويتفق معها.
■ فضيلة الإمام.. كيف للعقل أن يتفهم أن هناك إنسانًا ينطق الشهادتين وهو يجزُّ رقبة إنسان آخَر، ثم نقول: إنه مسلم ينتمى إلى الإسلام؟
– هذا أمرٌ له ضوابطه الشرعية، فهناك بابٌ فى كتب علم الكلام والتوحيد اسمه باب الأسماء والأحكام، وفيه أسماء شرعية محددة مثل مؤمن ومسلم وكافر وفاسق ومرتد، وكل اسم له حكمُه الشرعى أيضًا، فمثلاً لو اجتزَّ رجل مسلم رقبة مسلمٍ آخَر، فما الحكم عليه؟ الحكم هو القصاص، وقتله مثلما قتل، ولكن لا يكفر؛ لأنَّ الكفر شىء آخَر، إنَّ الذى يُؤمِن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر والقضاء والقدر هو مؤمنٌ ولا يمكن أن أُكفِّرَه.. فإذا ارتكب ذنبًا عظيمًا مثل القتل أو شرب الخمر فهل حكمه أنه يكفر؟! لا.. إنما حكمُه إذا قتل أن يُقتل قصاصًا، وأن يُكفَّن ويُغسَّل ويُدفن بمدافن المسلمين، وإذا كان له تركةٌ يُورث، شأنه شأن أى المسلم، وما حدث فى العراق بين الشيعة والسنة من قتلٍ تجاوز عدد ضحاياه مليون شخص، لم يطلب أحد تكفيرهم رغم ما حدث من ذبح وقطع للرقاب وقتل فى المساجد، والأمر نفسه حدث فى سوريا، فلو فتحنا باب التكفير فلن ينجو أحد.
■ هل ستلبى فضيلتكم دعوة إيران لزيارتها؟ وهل يمكن للخلاف السياسى بين البلدين أن يحول دون إتمام هذه الزيارة؟
– أقدِّرُ دعوة إيران لى لزيارتها، والأزهر بطبعه يتخذ موقفًا إيجابيًّا من كل جهدٍ فى طريق التقارب، لكن هذه الدعوة يجب أن يتبعها سلوك حقيقى وواقعى من جانب إيران لإيقاف ممارسات وتدخلات سياسية الطابع فى دول إسلامية عدة، وخصوصًا دول الخليج العربية.
■ لكن ما دخل الأزهر بالسياسة.. ألا ترى أنها شروطٌ سياسية والأجدى أن تربط الزيارة بحل الخلاف الدينى؟
– الأزهر ليس هيئة سياسية، وأنا لست رجل سياسة، ولكن زيارتى سوف يتمُّ توظيفها وتفسيرها سياسيًّا بالضرورة؛ ولذا فإنَّ البُعد السياسى حاضر بحكم طبيعة الأمور، ولا يمكننى تجاهله. والتدخُّل فى الشؤون الداخلية لدول إسلامية، وتعريض استقرار دول إسلامية وعربية للخطر هو مسألة تمسُّ وحدة المسلمين.. هو قضية دينية كما هو قضية سياسية.. أليست محاولات تغيير الأوضاع فى اليمن بالقوة والسلاح، وكذلك فى البحرين ولبنان وسوريا، ضربًا لاستقرار المسلمين ووحدتهم؟ هذه مشكلتى الأساسية.
يجب أن تتوقف الدول التى توظف الورقة المذهبية لإحراز مكاسب سياسية على حساب استقرار الوطن وولاء المواطنين، ومن مصلحة الجميع أن يُسهِم فى الاستقرار، لا أن تدعم تحركات وأفكارًا تسبب الشقاق والمواجهات.
■ هل أفهم من ذلك أن هذه شروطك لتلبية دعوة الذهاب إلى إيران؟
– هذه ليست شروطاً بالمعنى المفهوم، فأنا أُرحِّب بكل أشكال التقارب كما قلتُ، لكننى لا أريد أن تُستَغلَّ زيارتى سياسيًّا لتكريس صورة مُعيَّنة لصالح طرف أو آخَر، دون تحرُّكٍ حقيقى باتجاه الحل، واللغة الدبلوماسية الرقيقة التى يستخدمها بعض الأطراف أمر طيب وجيد، لكنها تفتقر إلى تطبيق عملى على أرض الواقع.