خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة 15 من شهر نوفمبر المال العام وحرمة التعدي عليه إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
المال العام وحرمة التعدي عليه» إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن خطبة الجمعة ١٥ من شهر نوفمبر لعام ٢٠٢٤م الموافق ١٣ من جمادى الأولى لعام ١٤٤٦هـ
المال العام وحرمة التعدي عليه»
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ١٥ من شهر نوفمبر لعام ٢٠٢٤م الموافق ١٣ من جمادى الأولى لعام ١٤٤٦هـ
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
لقد خلق الله تعالى الإنسانَ لخلافة الأرض، وأوجد له السبل التي تعينه على تحقيق تلك الخلافة، ومن ذلك “المال” الذي يستطيع أن يقوم به على عمارة الأرض، وهذا المال إما أن يكون خاصًا بالفرد ذاته، فتكون ملكيته له خاصة يتصرف فيه كيف ما شاء وبالضوابط التي وضعها له الشرع، وإما أن يكون هذا المال لمجموع أفراد الأمة ينتفعون به على السواء، ولا يستأثر به أحد دون غيره، وهذا هو المال العام. فيحصل على منفعته دون مَشقَّة؛ فهي مُسَخَّرة له بإذن الله.
وحتى لا يتشعب بنا الحديث وتتفتح أمامنا الموضوعات فسوف نتحدث إن شاء الله عن:
١- كيفية المحافظة على المال العام
٢- من صور الاعتداء على المال العام
٣- الأسباب المؤدِّيَة إلى الاعتداء على المال العام.
٤- خصائص المال العام في الإسلام
٤- الأسباب المؤدِّيَة إلى الاعتداء على المال العام
٥- حكم الاعتداء على المال العام
٦- كيفيَّة التوبة من سرقة المال العام
٧- كيفية المحافظة على المال العام؟
فنقول وبالله التوفيق:-
أولًا: يمكن تعريف المال العام بأنه: ما كان الانتفاع به لجميع أفراد المجتمع، ولا يختص أحد بملكيته دون الآخرين، وتقوم الدولة بإدارته. وقد اعتبر الإسلام الاعتداء عليه غلولًا وشدَّد في حرمته؛ لأمورٍ عدةٍ منها:
١- أنَّ المالَ العام تتعلَّق به ذِمَمُ جميع أفراد الأمة فلكلُّ واحدٍ حقٌ فيه ونصيبٌ، فمَن اعْتَدى على هذا المال وأخذَ منه شيئًا دون وجْه حقٍّ، فكأنَّما يُخَرِّب في مالَ نفسه، ويكون كمن سَرَق من جميع أفراد الأمة.
فعن عَدِي بن عُمَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله -ﷺ- يَقُول: “مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولا يَأْتِي بِهِ يوْم الْقِيامَةِ” فقَام إَلْيهِ رجُلٌ أَسْودُ مِنَ الأَنْصَارِ، كأَنِّي أَنْظرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: “يَا رَسُول الله اقْبل عني عملَكَ” قال: ومالكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُك تقُول كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتعْملْنَاهُ عَلَى عملٍ فلْيجِيء بقَلِيلهِ وَكِثيرِه، فمَا أُوتِي مِنْهُ أَخَذَ ومَا نُهِى عَنْهُ انتهى” رواه مسلم: ١٨٣٣
٢- الذي يعتدي أو يَسْرق من المال العام فإنما يَسْرق من الأصول التي بها حماية المجتمع من الأَزَمات.
فهؤلاء الذين يخوضون في مال الله لهم النار لقوله -ﷺ-: “إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ الله بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ” رواه البخاري: ٣١١٨
قال ابن حجر في الفتْح [٦/ ٢٤٤]: “أي يَتَصرَّفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ من أنْ يكون بالقِسمة وبغيرها، وفيه ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئًا بغير حق أو يمنعوه من أهله.” أ هـ
وفي الحديثِ: بَيانُ أنَّ الأموالَ العامَّةَ ليستْ مَرتَعًا أو كلأً مباحًا لِمَن ولَّاهُ اللهُ عليها؛ لأنَّه سيُحاسَبُ عليها يومَ القيامةِ،
وفيه: رَدْعٌ للولاةِ والأمراءِ ألَّا يَأخُذوا مِن مالِ اللهِ شيئًا بغيرِ حقِّه، ولا يَمْنَعوه مِن أهْلِه. فيحرم الأخذ من المال العام -والذي أُعدّ للصالح العام- بغير حق وهو ما يُسمى ب”الغلول” ففي حديث أبي هريرة قال: قام فينا النبي -ﷺ- فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك أو على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك” البخاري: ١٢٠١
وعن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: “من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا [أي: إبرة] فما فوقه؛ كان غلولًا يأتي به يوم القيامة” رواه مسلم.
وعليه حرّم -الشرع الحنيف- هدايا العمال والموظفين العموميين بسبب وظيفتهم، ففي حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال: بعث رَسولَ الله -ﷺ- اسْتَعْمَلَ عامِلًا، – على جمع الصدقات- وهو رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية- فَجاءَهُ العامِلُ حِينَ فَرَغَ مِن عَمَلِهِ، فقالَ: يا رَسولَ الله، هذا لَكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي. فقالَ له: أفَلا قَعَدْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أيُهْدَى لكَ أمْ لا؟! ثُمَّ قامَ رَسولُ الله -ﷺ- عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ، فَتَشَهَّدَ وأَثْنَى علَى الله بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ؛ “فَما بالُ العامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينا فيَقولُ: هذا مِن عَمَلِكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي؟! أفَلا قَعَدَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ فَنَظَرَ: هلْ يُهْدَى له أمْ لا؟! فَوالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَغُلُّ أحَدُكُمْ مِنْها شيئًا إلَّا جاءَ به يَومَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ؛ إنْ كانَ بَعِيرًا جاءَ به له رُغاءٌ، وإنْ كانَتْ بَقَرَةً جاءَ بها لها خُوارٌ، وإنْ كانَتْ شاةً جاءَ بها تَيْعَرُ، فقَدْ بَلَّغْتُ. فقالَ أبو حُمَيْدٍ: ثُمَّ رَفَعَ رَسولُ الله -ﷺ- يَدَهُ، حتَّى إنَّا لَنَنْظُرُ إلى عُفْرَةِ إبْطَيْهِ” السابق ١٢٠٢ ص ٣٩٧
ففي الحديث: أن من تولى ولاية وقدمت له هدية من أجل ولايته لم يجز له قبولها، لأنها كالرشوة. فالإسلام لا يجامل أحدًا على حساب الحق والحقيقة.
بل وشدد النبي -ﷺ- على ذلك ويخبرنا أنه خصيم من لم يوف الأجير أجره، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: “ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ”. رواه البخاري: ٢٧١٠
والحديث عام يشمل الشخص المعنوي والاعتباري، وهو القائم على أمر المرفق وتسيير مصالحه ومصلحته فيجب أن تسن التشريعات العادلة لإعطاء الموظف الأجر أو الراتب الذي يحيا به حياة كريمة
ويعتبر المال العام أكثر تعرضًا للاعتداء عليه من المال الخاص؛ ذلك أن المال الخاص يجتهد صاحبه في الدفاع عنه والاستماته في سبيل ذلك حتى ولو تعرض للقتل فإنه بذلك يكون شهيدًا تصديقًا لحديث سعيد بن زيد عن النبي -ﷺ-: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ” [رواه أبوداود والترمذي وقال: حديث حسن والنسائي وأحمد صحيح]، أما المال العام فلا يجد مثل هذه الحمية في نفوس الأفراد؛ لضعف الوازع الديني وغياب ثقافة حرمة المال العام في نفوس أفراد المجتمع،
وسوء التنشئة الاجتماعية التي لا تقدس أو تزرع في نفوس الناشئة احترام المال العام وحمايته، وتعتبره كلأً مباحًا لكل راتع.
٢- من صور الاعتداء على المال العام
ولا نستطيع حصر كافة صور الاعتداء على المال العام، ولكن سنشير فقط لبعضها.
وننبه بدايةً إلى أنه يجب على ولِيِّ الأمر أنْ يأخذَ على أيدي هؤلاء المعتدين على المال العام؛ صيانةً له من عبث العابثين، وطمع الطامعين، والطامة الكبرى وفاقرة الفواقر إذا كان القائمون عليه هم من يعتدون عليه، منها:
أولًا: المجاملة في ترسِيَة العَطَاءات والمناقصات -عمْدًا- على شخصٍ بعينه، ويوجَد مِن بين المتقدِّمين مَن هو أفضلُ منه؛ فتلك من خيانة الأمانة، فكم وكم من مناقصات وعطاءات هدرت وذهبت أدراج الرياح لأناس لا يستحقونها ولا يؤدون حقها فيكون ذلك إضاعة للمال العام. فالموظف المعين أيها الأحباب مؤْتمنٌ على هذا المال، فإن أخَذَ منه شيئًا، فلا شكَّ أنَّه يُعَرِّض نفسَه لسَخَطِ الله، وهو من صور الخيانة المذكورة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٢٧].
فعن الأَصمعي أن ابنًا لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه ولم يسمّه -لم يذكر اسمه- سأَله أن يعطيه من مالِه، أو مال المسلمين، فقالَ عمر: أرَدْتَ أن ألقى الله ملكًا خائنًا؟ هلا سألتني من مالي؟ ثم أعطاه كذا وكذا، شيئًا صالحا قد سمّاه من ماله.
وعن الحسن: أتى عمر رضي الله عنه مال كثير، فأتته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين، حق أقربيك، فقد أوصى الله بالأقربين، فقال يا حفصة، إنما حق أقربائي في مالي، فأما مال المسلمين فلا، يا حفصة نصحت قومك وغششت أباك. فقامت تجر ذيلها.
وعنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ صِهْرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَعَرَّضَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ وقَالَ لَهُ: «أَجِئْتَنِي لِأُعْطِيَكَ مَالَ اللَّهِ؟ مَا مَعْذِرَتِي إِلَى اللَّهِ – تَعَالَى- أَأَرَدْتَ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ مَلِكًا خَائِنًا. وَمَنَعَهُ وَأَخْرَجَهُ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، ثُمَّ لَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ سَأَلْتَنِي مِنْ مَالِي» وأَعْطَاهُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ عَشْرَةَ آلافِ دِرْهَم” [الطبقات الكبرى ط العلمية ٣/ ٢٣٠].
ثانيًا: الاختلاس:
وهو استيلاء الموظَّفين والعاملين في مكانٍ ما على ما في أيديهم من أموال نقديَّة دون سندٍ شرعي.، واختلاس المال العام جناية في جميع صوره، وهو أشد حرمة من أخذ المال الخاص؛ لأن الاختلاس اعتداء على حقوق المجتمع -كله- وأخذ المال الخاص اعتداء على حق فرد واحد، والمال الخاص له من يحميه، أما المال العام فحمايته مسؤولية المجتمع كله،
ثالثًا: الاعتداء على الطرقات والمنشئات العامة والترع وأملاك الدولة:
ومن الأمور التي انتشرت وشاعت، وأصبحنا لا نبالي بها الاعتداء على الطرقات والمنشئات وأملاك الدولة وكأنها مال سائب لا صاحب له ويظن إنسان أن ذلك من فطنته (كما يقولون) فنرى التعدي الواضح على الطريق دون خجل أو وجل ويظن المسكين أنه لن يحاسب على فعلته وما علم أن عقوبتها عظيمة؛ فالطريق مرفق عام لا يختص به أحد، ولا يستأثر به شخص، وإنّما هو لتحقيق الضروريات وقضاء الحوائج وتحصيل المنافع، ولما كان الأمر كذلك فقد وضع الشرع القواعد والأسس التي نظم بها أحكام الطريق، ومن ذلك؛ اعتبار المحافظة على الطريق شعبة من شعب الإيمان، وأن التعدي عليها منكر محرم مرفوض عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»[مسلم]. والمراد بإماطة الأذى؛ تنحيته وإبعاده، والأذى كل ما يؤذي من حجر أو شوك أو غيره.
رابعًا: عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت:
ومن صور التعدي على المال العام عدم إتقان العامل لعمله وإضاعة الوقت وذلك من ضعف الإيمان بالله تعالى وعدم مراقبته
خامسًا: التربُّح من الوظيفة:
ومن صور التعدي عل المال العام أن يتربح الموظف من الوظيفة واستغلالها لأغراضه الأساسية وهذا أيضا من خيانة الأمانة وإضاعة للمال العام. ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كيف كان يضيء شمعة من مال المسلمين لينظر في ضوئها في شئونهم، فإذا سئل عن أحواله الخاصة يطفئ الشمعة ويضيء غيرها، ويقول: كنت أضيء شمعة من مال المسلمين وأنا في مصالحهم، أما وأنتَ تريد أن تسأل عن أحوالي، فقد أضأت شمعة من مالي الخاص.
٣- الأسباب المؤدِّيَة إلى الاعتداء على المال العام.
١- ضَعْف العقيدة عند المعتدي، وسوءُ الْخُلق، وضَعْف القِيَم الإيمانيَّة والأخلاقية في نفوس المعتدين، وعدم الالتزام بها. وغياب مُراقبة الله -سبحانه وتعالى-، والْجَهل بأحكامه.
٢- ضَعْف النُّظم والأجهزة المنُوطَة بحمايته، وتَفَشِّي المحسوبية، والمجاملات الشخصيَّة، وعدم وُجُود القُدوة الْحَسَنة. وتقصير الرقابة في القيام بالمسؤوليَّات المنوطة بها، وفي هذا المقام نذكُر قولَ عمربن الخطاب -رضي الله عنه-: “لو أنَّ بَغْلَةً عَثرتْ في الطريق بالعراق، لسُئل عنها عمر: لِمَ لَم تُمَهِّد لها الطريقَ؟”.
سوء اختيار من يناط بهم حماية هذا المال العام؛ وعدم التثبت من حسنَ اختيار من تسند إليهم الأمور؛ فقد اهتم القرآن الكريم بمن يعملون بالأموال العامة وبين صفاتهم، وحذّر ممن يجب الابتعاد عن استعمالهم؛ لما يتصفون به من سيء الأخلاق وما يتنافى مع محاسن السلوك فقال جلا وعلا: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم عليم قيامًا” النساء: ٥
فقد حذّرت الآية الكريمة أن يتولى إدارة المال العام ناقصوا العقول قليلوا الخبرة بل يجب أن يكون الاختيار قائمًا على أساسٍ من العلم والأمانة والقوة والحفظ، كما قال يوسف عليه السلام -لملك مصر-: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) يوسف/٥٥،
وقول ابنة الرجل الصالح -لأبيها في حق موسى عليه السلام-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص/٢٦.
فالواجب على كل فردٍ أن يكون أمينًا وناصحًا للأمة؛ يحفظ أموال الدولة وأوقاتها بصدق وإخلاص وعناية؛ حتى تبرأ ذمته، ويطيب كسبه، ويُرضي ربه، وينصح لوطنه ولأمته، فهذا هو معنى الولاء لله.
#حتى منَ قاتَلَ وأبْلَى بلاءً حسنًا في المعركة، ولكنَّه غلَّ من الغنيمة، فله عقوبة شديدة، حتى ولو ظنَّ الناسُ أنَّه في عِدَاد الشهداء، فالأمرُ ليس كذلك.
ففي الصحيحين عن عمر -رضي الله عنه-: “لَمَّا كان يوم “خَيْبر” أقْبَلَ نفرٌ من صحابة النبي -ﷺ- فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجلٍ، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله -ﷺ-: (كلاَّ؛ إني رأيْتُه في النار في بُرْدَة غَلَّها أو عَبَاءَة)، ثم قال رسول الله -ﷺ-: (يا ابن الخطاب، اذْهَبْ فنادِ في الناس، أنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)، قال: فخرجتُ، فناديتُ: ألاَ إنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون” [متفق عليه].
وقد كان النبي -ﷺ- كثيرًا ما يحذر أصحابَه ويعظهم، ويبين لهم خُطورة هذا الأمر الشديد من مَجيء هذه الأموال المختلسة شاهِدَ إدانة عليه يوم القيامة يَحملها على ظَهْره، ولا مُجير له يدافعُ عنه، كما بيَّن أنَّ مَن وُلِّيَ على عملٍ وأخَذَ أَجْره، كان ما يأخذه بعد ذلك غُلولاً من الغنيمة، والتي تُعَدُّ بمثابة المال العام الذي يَنبغي أن يُحفَظَ من قِبَل أفراده.
روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “قام فينا النبي -ﷺ- فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَ أمرَه، قال: (لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك)
٤- خصائص المال العام في الإسلام
يتَّسِم المال العام في الإسلام بالعديد من الخصائص، من أهمِّها ما يلي:
١- المالك الحقيقي له هو الله -سبحانه وتعالى- مِصداقًا لقول الله -تعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩] وقوله تعالى: “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” الحديد: ٧
٢- إنَّ حقَّ الانتفاع والاستغلال في أعيان المال العام للجماعة، باعتبارها مؤلَّفَةً من أفراد ذَوِي أنْصبة أزَلَيَّة فيه، ولكلٍّ منهم كِيانه الإنساني، فلقد خَلَق الله ما على الأرض للناس جميعًا؛ لتقومَ حياتُهم؛ أفرادًا وجماعات.
٣- إنَّ موضوع المال العام من صُنْع الإنسان الذي يعمل بأمْرِ الله – سبحانه وتعالى – وهو مسخَّر لجميع الناس بلا تمييزٍ لفردٍ عن فرد، أو لجيلٍ عن جِيل، ومن أمثلة ذلك البِحار والأنهار، والمعادن والماء، فعلى المسلم أن يحسن استخدام هذه الموارد، ولا يتصرف فيها إلا بالضوابط الشرعية المنوطة به، وأن يجعل قول النبي -ﷺ- رائده. فعن خَوْلَة بنت قيس أنَّها سَمِعتْ رسول لله -ﷺ- يقول: “إنَّ هذا المال خَضِرة حُلوة، مَن أصابَه بحقِّه، بُورِك له فيه، ورُبَّ متخوِّض فيما شاءَتْ به نفسُه من مالِ الله ورسوله، ليس له يومَ القيامة إلا النار” [رواه الترمذي في سُننه، وقال: حَسن صحيح، ٢٣٧٤، وأحمد في مُسنده ٢٧٠٩٩، وابن حِبَّان في صحيحه، ٤٥١٢ بسندٍ صحيح].
وأنْ يجعلَ قولَ عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دليلَه في حِفْظ مال المسلمين: “إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم، إن استغنيتُ منه استعففت، وإن افْتَقَرتُ أكلتُ بالمعروف”؛ حيث يقول الله -تعالى-: “وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ”
[النساء: ٦].
فهناك من الناس من لَم يجعلْ قولَ عُمر مِنهاجَه ولا دليله، بل جَعَله خلفَ ظهْره، فزعم أنَّ له حقَّ التصرُّف في المال العام، ولو أتاه أحدٌ وأعطاه هَديَّة قَبِلَها؛ بحجَّة أنَّه صاحبُ حقٍّ في أخْذها، وليس الأمر كذلك، بل كلُّ ما يأْتي الإنسانَ من أموالٍ أو هدايا، -وكان قائمًا أو عاملًا في عمل يخصُّ بيتَ المال أو وظيفة عامة- فإنَّ هَديَّته تُرَدُّ إلى بيت المال –أو الخزانة العامة- ولا يأْخُذها؛ إذ لو جَلَس في بيته ما حَصَل على هذه الهدايا والعطايا
ولقد كان الخلفاء الراشدون والسلف الصالح قُدوة طيِّبة في التعفُّف عن الأموال العامَّة، التي هي حقُّ المسلمين جميعًا، فكانوا لا يأخذون من بيت المال إلاَّ حاجتهم الضروريَّة، وكانوا قممًا وقامةً في تعفُّفهم عن المال العام؛ ليَضربوا المثلَ لغيرهم على مدى التاريخ، فوقفوا بقوَّة أمام التصرُّفات التي يظنُّ أنَّ فيها مسَاسًا بأموال المسلمين، فصادروا ما رأوه من هذا القبيل، وأوْدَعوه بيت المال، إذ لا عاصم من الانحرافِ بخصوص المال العامِّ إلا رقابةُ الله – تعالى- الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء.
– ولَمَّا هزم المسلمون الفُرس، وجدوا تاجَ كِسرى وبِسَاطه، واللآلئ والجواهر، ووجدوا دُورًا مَليئة بأواني الذهب والفضة و….، فلَمَّا قَسمَ سعد بن أبي وقاص الغنائِمَ، حصَلَ الفارس على اثني عشر ألفًا، وكانوا كلُّهم فُرسانًا، وبعَثَ سعد أربعةَ أخماس بِساط كسرى إلى عُمر، فلمَّا نَظر إليه عمر، قال: “إنَّ قومًا أدوا هذا لأُمَناء”، فقال له عَلِي بن أبي طالب: “إنَّك عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا”، ثم قَسمَ عمر البِسَاط على المسلمين، فأصابَ عليًّا قطعةٌ من البِسَاط، فبَاعَها بعشرين ألفًا” [البداية والنهاية؛ لابن كثير، طبعة دار التقوى – مصر ط١ سنة ١٩٩٩ ج٧/ ص ٧٢].
وعمر بن عبدالعزيز الذي كان مضرب المثل في هذا الميدان فقد كان ينظرُ في أمور الرعيَّة على ضوء مصباح في بيته، فلمَّا انتهى وبدأ النظرَ في أموره الخاصَّة، أطْفَأَ المصباح؛ حتى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين.
٥- حكم الاعتداء على المال العام
لا خِلافَ بين الفقهاء في أنَّ مَن أتْلفَ شيئًا من أموال بيت المال بغير حقٍّ، كان ضامِنًا لِمَا أتْلَفَه، وأنَّ مَن أخَذَ منه شيئًا بغير حقٍّ لَزِمَه ردُّه، أو ردُّ مِثْله إنْ كان مثليًّا، وقِيمته إنْ كان قِيميًّا، فالسارق من بيت المال يعزر بما يراه الإمام، ويُلزم برد ما أخذه. وإنما الخلاف بينهم في قَطْع يدِ السارق من بيت المال،
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد
فمهما ارتكب الإنسان من أخطاء ومعاصي فإن الغفور الرحيم قد فتح باب التوبة أمام الجميع، وفي حالتنا يتساءل عن
٦- كيفيَّة التوبة من سرقة المال العام
إن الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله -تعالى- وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ؛ لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام -ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشركات الخاصَّة- هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم؛ في وجوب المحافظة عليه، وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه، ويُستثنَى من ذلك ما تَعَارَف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكيَّة، فيُعْفَى عنه باعتباره مأْذونًا فيه ضِمنًا، على ألاَّ يتوسَّعَ في ذلك؛ مُرَاعاة لأصْل المنْع، على أنَّ الوَرَع أوْلَى بالمسلم الحريص على دينه؛ (ومَن اتَّقى الشُّبهات، فقدِ استبرَأَ لدينه وعِرْضه) [متفق عليه].
والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال – خزينة الدولة – لِمَا روى أحمد وأبو داود والترمذي عن سَمُرة بن جُنْدَب -رضي الله عنه- عن النبي -ﷺ- قال: (على اليدِ ما أخَذَتْ، حتى تُؤَدِّيَه) [رواه أحمد في مُسنده، ٢٠٠٨٦، وأبو داود في سُننه ٣٥٦١، والترمذي في سُننه ١٢٦٦، وقال: حديث حَسنٌ صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند: حسن لغيره].
* يَلزم مَن أخذَ شيئًا من المال العام من أيِّ طريقة أنْ يردَّه إلى مَحلِّه، ولو سبَّب ذلك حَرَجًا له، فإنْ عجَزَ الإنسان عن إرجاع ما أخَذَ أو سيُسبِّب حدوثَ مَفْسدة أكبر بإرجاعها، فإنها تُجْعَل في مَنْفعة عامَّة للمسلمين.
قال النَّوَوي في “المجموع”: “
٧- كيفية المحافظة على المال العام
لقد نهجت الشريعة الإسلامية سبلًا ثلاثة في علاج أي خلل يطرأ على سلوك الأفراد يراها الباحث متدرجة من الأدنى فالأعلى؛ على حسب كل فرد، وهي: ١- الترغيب ٢- الترهيب ٣- الحل العملي
فمن الأفراد من يكفه الأجر الأخروي والبركة في الرزق على أن تمد يده للحرام بله المال العام،
ومنهم من يحتاج إلى مهماز الضمير والتذكير بالعذاب الأخروي ومناقشة الحساب فيرتدع، ويكف عن التفكير؛ لذلك ركزت الشريعة على الجانب الروحي والأخلاقي في علاج هذه الناحية، فكل فرد مسؤول عن نفسه باعتباره لبنة في صرح المجتمع المسلم، فإذا صلحت اللبنة صلح البناء، وأصبح شامخًا لا تؤثر فيه عوادي الزمن.
ومنهم من يحتاج إلى عصا القانون وتأديب السلطان؛ حتى يرتدع ويتراجع فيتراجع معه آخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم، فتكون عقوبة رادعة تحقق أثرها الفردي والجماعي والمجتمعي أو الردع العام والردع الخاص
ولا تثريب على المسلم من مراقبة رئيس أو تطبيق قانون ؛ لأنه مراقب لله تعالى في سره وعلانيته، فكل إنسانٍ في هذا المجتمع مسؤول عن المجتمع كله … عن الدولة ومرافقها العامة ومالها العام فلا يعتدي عليه، ولا يسكت على من يعتدي عليه؛ لأن السكوت في هذه الحالة يعتبر مشاركةً في الإثم مع المعتدي، ويعظم الإثم إذا كان هذا الشخص منوط به حماية هذا المال العام، فتتضخم المسؤولية كلما قويت شوكة المسؤول، وكيف يسكت وهو يتلو ويسمع قوله تعالى لنبيه ورسوله -ﷺ-: “قل إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يومٍ عظيمٍ” الزمر: ١٣
وتبدأ الرقابة للفرد المسلم بالرقابة الذاتية التي يمارسها الموظف المسلم على نفسه بدافع من ضميره الحي، غير أن الإنسان بشر معرض للخطأ وقليل من الناس من تردعه نفسه عن الزلل ولذلك فإن المرء يحتاج إلى رقابة عليه، ولقد جعل الله تعالى مسئولية الرقابة مسؤولية جماعية تقوم بها الدولة والمجتمع المسلم بأكمله، ويمكن الاستدلال على ذلك من قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (أرأيتم إن استعملت عليكم خير ما أعلم ثم أمرته بالعدل فيكم، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا. حتى أنظر في عمله أعَمِل بما أمرته أم لا). والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.