خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبة الجمعة القادمة المال العام وحرمة التعدي عليه ، إعداد مكرم عبد اللطيف
بتاريخ 13 من جمادى الأولى لعام 1446 هـ. الموافق 15 شهر نوفمبر لعام 2024م
المال العام وحرمة التعدي عليه”================= خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 13 من جمادى الأولى لعام 1446 هـ.15الموافق شهر نوفمبر لعام 2024م ،إعداد مكرم عبداللطيف
محتوي الموضوع
المقدمة
١-الوسائل التي حافظ بها الإسلام على بَقَاء المال واستمراره؟
٢-خصائص المال العام و حق المسلمين فيه
٣- حكم الاعتداء على المال العام والممتلكات العامة
٤-سبب الاعتِداء على المال العام وواجبنا تجاهه
و كيفيَّة التوبة من سَرقة المال العام
٥-صور من التحايل لأكل المال العام
الشرح والبيان :-
إنَّ الإسلام هو دِين الفِطرة الذي يُبيح إشباعَها، ويُلَبِّي مَطالبها ضمن الحُدود التي حدَّها الشارع الحكيم، مع التهذيب والترشيد؛ حتى تستقيمَ وتُحقِّقَ الخير للإنسان، ولا تعود عليه بالشر، كان هذا شأْنه مع نزعة حبِّ التملُّك الأصيلة في الإنسان، فقد أباحَ الملكِيَّة الفرديَّة، وشرَع في ذات الوقت من النُّظم والتدابير ما يتداركُ الآثار الضارَّة التي قد تَنجم عن طُغيان هذه النزعة؛ من فقدان للتوازُن الاجتماعي، وتداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع؛ ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7].
ومن النُّظم التي وضَعَها لأجْل ذلك: نُظم الزكاة، والإرث، والضَّمان الاجتماعي، ومن ثَمَّ اعتبَرَ الإسلامُ المالَ ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانيَّة، وشرعَ من التشريعات والتوجيهات ما يشجِّع على اكْتِسَابه وتحصيله، ويَكْفُل صِيَانته وحِفْظه وتنميته،
العنصر الأول :
الوسائل التي حافظ بها الإسلام على بَقَاء المال واستمراره؟
1- ضَبَطَ الإسلام التصرُّف في المال بحدود المصلحة العامة، ومِن ثَمَّ حَرَّم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة، والتي تضرُّ بالآخرين، ومنها: الربا؛ لِمَا له من آثارٍ تُخِلُّ بالتوازن الاجتماعي؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وقال: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].
2- كما حرَّم الإسلام الاعتداء على مال الغير بالسرقة، أو السطو، أو التحايُل، وشَرَع العقوبة على ذلك؛ قال – تعالى -: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38].
وأوْجَبَ الضمانَ على مَن أتْلَفَ مالَ غيره؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمه، وماله، وعِرْضه))[رواه مسلم].
3- مَنَعَ الإسلام إنفاقَ المال في الوجوه غير المشروعة، وحثَّ على إنفاقه في سُبل الخير، وذلك مبنيٌّ على قاعدة من أهمِّ قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي، وهي أنَّ المال مالُ الله، وأنَّ الفردَ مستخلفٌ فيه ووكيلٌ؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33].
ومِن ثَمَّ كان على صاحب المال أنَّ يتصرَّفَ في ماله في حدود ما رَسَمه له الشرْعُ، فلا يجوز أن يُفْتَنَ بالمال، فيَطغى بسببه؛ لأنَّ ذلك عاملُ فسادٍ ودَمار؛ قال – تعالى -: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
ولا يجوز له أن يُبَذِّر في غير طائلٍ؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26 – 27].
4- سَنَّ الإسلامُ التشريعات الكفيلة بحِفْظ أموال القُصَّر، والذين لا يُحسنون التصرُّفَ في أموالهم مِن يَتَامى وصِغار، حتى يبلغوا سنَّ الرُّشْد، ومِن هنا شرَعَ تنصيب الوَصِي عليه؛ قال – تعالى -: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6].
وقال – تعالى -: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 220].
ومن ذلك الْحَجْر على البالغ إذا كان سيِّئ التصرُّف في ماله؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 5].
5- تنظيم التعامُل المالي على أساس من الرضا والعَدْل، ومِن ثَمَّ قرَّر الإسلام أنَّ العقود لا تَمضي على المتعاقدين، إلا إذا كانتْ عن تراضٍ وعَدْلٍ؛ ولذلك حرَّم القمار؛ قال – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].
6- الدعوة إلى تنمية المال واستثماره؛ حتى يؤدِّي وظيفته الاجتماعية، وبِناءً على ذلك حرَّم الإسلام حَبْسَ الأموال عن التداول، وحارَبَ ظاهرة الكَنْز؛ قال – تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].
وبهذه التشريعات كلِّها حفِظَ الإسلام المالَ وصانَه عن الفَساد؛ حتى يؤدِّي دورَه كقيمة لا غِنى عنها في حِفْظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضاريَّة والإنسانيَّة، شأْنه في ذلك شأن كل المصالح السابقة التي تمثِّل أساسَ الوُجُود الإنساني، وقِوَام الحياة الإنسانيَّة، ومركز الحضارة البشريَّة، والتي دون مراعاتها وحِفْظ نظامها يخرب العالَم، وتَستحيل الحياة الإنسانيَّة، ويَقف عطاؤها واستثمارُها في هذا الوجود.
أقسام المال:
فإنَّ العلماءَ يقَسِّمون المال قسمين: خاص وعام، ولكلٍّ منهما تعريفٌ عندهم.
المال الخاص: هو المال الذي يَملكه شخصٌ معيَّن، أو أشخاص محصورون، ومن أحكامه: جواز التصرُّف فيه بأصالة أو بوكالة أو بولاية، ويقطعُ سارقه بشروطه
المال العام: هو ما كان مُخَصَّصًا لمصلحة عموم الناس ومنافعهم، أو لمصلحة عامة، كالمساجد والرُّبُط، وأملاك بيت المال؛ حيث لا قطْعَ فيه عند الجمهور، ويذكره الفقهاءُ: في باب البيع، والرَّهْن، والإجارة، وفي جميع أبواب المعاملات، وفي باب السَّرقة
فعلى هذا التعريف قد يكون المال الخاصُّ مالاً عامًّا إذا ما وَقَف شخصٌ أرْضَه؛ لتكونَ مسجدًا أو على جهة برٍّ عامَّة، وكما إذا انتزعتِ الدولة عَقارًا من مالكه؛ لتوسيع مسجدٍ أو طريق لداعي المصلحة العامَّة، والمال العام قد يصير خاصًّا، كما إذا اقتضتِ المصلحةُ العامَّة بَيْعَ شيءٍ من أملاك بيت المال، أو مصلحة الوقف بَيْعه لِمَن يرغب في شِرائه، فإن هذا المبيع يُصبح مِلكًا لِمَن اشتراه، ومالاً خاصًّا به
و مِن مقاصِد شريعة الإسلام حِفْظ المال
فإنَّ منَ الضروريات التي أمَرَ الشرع بحِفْظها: “الدِّين، والنفس، والعقْل، والنَّسْل، والمال”، والمقصود بحفظ المال أنَّه راجِعٌ إلى مُرَاعاة دخوله في الأمْلاك، وكتنميته ألاَّ يَفِيَ، ومكمله دفْعُ العَوَارِض، وتلافي الأصْل بالزجر والْحَدِّ والضَّمان”.
العنصر الثاني : خصائص المال العام وحق المسلمين فيه:
يتَّسِم المال العام في الإسلام بخصائص مستنبطة من كلام الفقهاء تُميِّزه عن المال الخاصِّ، من أهمِّها ما يلي:
1- المالك الحقيقي لأعيان ما يقعُ في نطاق المال العام هو الله – سبحانه وتعالى – مِصداقًا لقول الله – تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29] وأن ما الأرض لأهْل الأرض.
2- إنَّ حقَّ الانتفاع والاستغلال في أعيان المال العام للجماعة، باعتبارها مؤلَّفَةً من أفراد ذَوِي أنْصبة أزَلَيَّة فيه، ولكلٍّ منهم كِيانه الإنساني، فلقد خَلَق الله ما على الأرض للناس جميعًا؛ لتقومَ حياتُهم؛ أفرادًا وجماعات.
3- إنَّ موضوع المال العام من صُنْع الإنسان الذي يعمل بأمْرِ الله – سبحانه وتعالى – وهو مسخَّر لجميع الناس بلا تمييزٍ لفردٍ عن فرد، أو لجيلٍ عن جِيل، ومن أمثلة ذلك البِحار والأنهار، والمعادن والماء.
4- يحصل الإنسان على مَنفعة المال العام عادة دون مَشقَّة أو تضْحِيَة؛ فهي مُسَخَّرة بإذن الله.
5- من حقِّ الناس جميعًا الانتفاعُ بالمال العام حسب الضوابط التي يضعها ولِيُّ الأمر، والمستنبَطَة من أحكام ومبادئ شريعة الإسلام
واما حق المسلمين في المال العام:
لا يشكُّ عاقلٌ في أنَّ المسلمين لهم حقٌّ في المال العام، وأنهم يعتبرونه مِلْكًا لهم، وأنَّ مَن اؤْتُمِنَ على هذا المال، فأخَذَ منه شيئًا، فلا شكَّ أنَّه مُعَرِّضٌ نفسَه لسَخَطِ الله.
وبيتُ مال المسلمين مِلْكٌ للمسلمين جميعًا، وليس مِلْكًا لفِئَة معيَّنة من الناس، والقائمون عليه إنَّما هم أُمَناء في حِفْظه وتحصيله، وصَرْفه لأهْله، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يعتديَ عليه، أو يأخُذَ منه ما لا يستحقُّ، ولو فُرِضَ وجودُ مَن يغُلُّ منه ويَعتدي، فإنَّ ذلك لا يُبيح مشاركته في هذا الذنب العظيم، ولو جَازَ نَهْبُ مال الدولة وسَرقتُها بحجة الأخْذ من بيت المال، لحصَل الشرُّ والفساد، وعَمَّ الظلمُ والبَغي، ولَبَاءَ الجميعُ بإثْمِ الخيانة؛ فالْحَذر الحذر من الخيانة في المال العام، فإنَّ هذا ظُلم واعتداء على المسلمين جميعًا.
عن خَوْلةَ الأنصاريَّة أنَّها سَمِعتْ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مالِ الله بغير حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامة))[رواه البخاري ].
قال ابن حجر في الفتْح: أي يَتَصرَّفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ من أنْ يكون بالقِسمة وبغيرها.
عن خَوْلَة بنت قيس أنَّها سَمِعتْ رسول لله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((إنَّ هذا المال خَضِرة حُلوة، مَن أصابَه بحقِّه، بُورِك له فيه، ورُبَّ متخوِّض فيما شاءَتْ به نفسُه من مالِ الله ورسوله، ليس له يومَ القيامة إلا النار))[رواه البخاري ].
وينبغي للقائم على بيت مال المسلمين أنْ يكونَ حافظًا لهذا المال، وأنْ يجعلَ قولَ عُمر بن الخطاب – رضي الله عنه – دليلَه في حِفْظ مال المسلمين: “إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم، إن استغنيتُ عنه استعففْتُ، وإن افْتَقَرتُ أكلتُ بالمعروف.
وهناك بعضُ الناس لَم يجعلْ قولَ عُمر دليلَه ومِنهاجَه، بل جَعَله خلفَ ظهْره، ويَزْعُم أنَّ له الحقَّ في التصرُّف في المال العام، ولو أتاه أحدٌ وأعطاه هَديَّة قَبِلَها؛ بحجَّة أنَّه صاحبُ حقٍّ في أخْذها، وليس كذلك، بل كلُّ ما يأْتي الإنسانَ من أموالٍ أو هدايا، وكان قائمًا أو عاملاً في عمل يخصُّ بيتَ المال، فإنَّ هَديَّته تُرَدُّ إلى بيت المال ولا يأْخُذها؛ إذ لو جَلَس في بيته ما حَصَل على هذه الهدايا والعطايا، وقد حَصَل على عهْد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قريبٌ من هذا، فقد أخْرَج الشيخان من حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – قال: “استعمَلَ النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً من الأزد يُقال له: ابْن اللُّتْبِيَّة على الصَّدَقة، فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم وهذا أُهْدِي إليّ، قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فهلاَّ جَلَس في بيت أبيه أو بيت أُمِّه، فينظر يُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئًا إلاَّ جاء به يومَ القيامة يَحمله على رَقَبته؛ إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاه تَيْعَر))، ثم رفَعَ يدَه؛ حتى رأْينا عُفْرَة إبطَيْه: ((اللهمَّ هل بلَّغْت، اللهم هل بلَّغْت ثلاثًا))”.
العنصر الثالث: حكم الاعتداء على المال العام والممتلكات العامة:
لا خِلافَ بين الفقهاء في أنَّ مَن أتْلفَ شيئًا من أموال بيت المال بغير حقٍّ، كان ضامِنًا لِمَا أتْلَفَه، وأنَّ مَن أخَذَ منه شيئًا بغير حقٍّ لَزِمَه ردُّه، أو ردُّ مِثْله إنْ كان مثليًّا، وقِيمته إنْ كان قِيميًّا،
ولأنَّ له في المال حقًّا، فيكون شُبهة تَمنع وجوبَ القَطْع، كما لو سَرَق من مالٍ له فيه شركة، ومَن سَرَق من الغنيمة ممن له فيها حقُّ، أو لولده أو لسَيِّده، أو لِمَن لا يُقْطَع بسرقة ماله، لَم يُقْطَع لذلك، وإنْ لَم يكنْ من الغانمين ولا أحدًا من هؤلاء الذين ذَكرنا، فسَرَق منها قبل إخراج الْخُمُس، لَمْ يُقْطَع؛ لأن له في الخمس حقًّا، وإنْ أخْرَجَ الخمس فسَرَق من الأربعة الأخماس، قُطِع، وإنْ سَرَق من الخمس لَمْ يُقْطَع، وإنْ قُسِّمَ الْخُمُس خمسةَ أقسامٍ، فسَرَق من خُمُس الله – تعالى – ورسوله، لَم يُقْطَع، وإنْ سَرَق من غيره، قُطِع، إلاَّ أنْ يكونَ من أهْل ذلك الْخُمُس.
وآخرهما: وإليه ذَهَب المالكية: أنَّ السارق من بيت المال تُقْطَع يدُه، واستدلُّوا على ذلك بعموم قول الله – تعالى -: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38].
فإنَّه عامٌّ يشمل السارقَ من بيت المال والسارقَ من غيره، وبأنَّ السارق قد أخَذَ مالاً مُحَرَّزًا، وليستْ له فيه شُبهة قويَّة، فتُقْطَع يده كما لو أخَذَ غيرَه من الأموال التي ليستْ له فيها شُبهة قويَّة.
ويجب على ولِيِّ الأمر أنْ يأخذَ على أيدي هؤلاء – سارقي المال العام – والمصيبة تَعْظُم إذا كان القائمون عليه سُرَّاقًا ولُصُوصًا، وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة – في بيان ما يجبُ على ولاة أمور المسلمين في الأموال العامة -: “وليس لولاة الأموال أنْ يَقْسموها بحسب أهوائهم، كما يَقسم المالك مِلْكَه، فإنَّما هم أُمَناء ونوَّاب ووُكلاء، ليسوا مُلاَّكًا؛ كما قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني والله، لا أُعطي ولا أمنعُ أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أضَعُ حيث أمرت))[رواه ]”، ثم قال: “فهذا رسول ربِّ العالمين، قد أخْبَرَ أنه ليس المنْعُ والعطاء بإرادته واختياره، كما يَفعل ذلك المالك الذي أُبيح له التصرُّف في ماله”.
والله – عزَّ وجلَّ – توعَّد بالوعيد الشديد لِمَن أخَذَ من المال العام شيئًا، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: “خرجْنا مع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يوم “خَيْبَر”، فلم نَغْنمْ ذهبًا ولا فِضَّة، إلاَّ الأموال والثياب والمتاع، فأهْدَى رجلٌ من بني الضُّبَيْب يُقال له: رِفَاعة بن زيد لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – غلامًا يُقال له: “مِدْعَم” فوجَّه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى وادي القُرى، حتى إذا كان بوادي القُرى، بينما “مِدْعَم” يحطُّ رحْلاً لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا سَهْمٌ عائِر فقَتَله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلَة التي أخَذَها يومَ “خَيْبَر” من المغانم لَم تُصِبْها المقاسِمُ، لتَشْتَعِلُ عليه نارًا))، فلمَّا سَمِع ذلك الناسُ، جاء رجلٌ بشِرَاكٍ أو شِرَاكين إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: ((شِرَاكٌ من نارٍ أو شِرَاكان من نار الشَّمْلَة التي غَلَّها لتَشتعِلُ عليها نارًا))].
حتى منَ قاتَلَ وأبْلَى بلاءً حسنًا في المعركة، ولكنَّه غلَّ من الغنيمة، فله عقوبة شديدة، حتى ولو ظنَّ الناسُ أنَّه في عِدَاد الشهداء، فالأمرُ ليس كذلك.
في الصحيحين عن عمر – رضي الله عنه -: “لَمَّا كان يوم “خَيْبر” أقْبَلَ نفرٌ من صحابة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجلٍ، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلاَّ؛ إني رأيْتُه في النار في بُرْدَة غَلَّها أو عَبَاءَة))، ثم قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا ابن الخطاب، اذْهَبْ فنادِ في الناس، أنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون))، قال: فخرجتُ، فناديتُ: ألاَ إنَّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون”.
والنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَه، مبيِّنًا لهم خُطورة هذا الأمر الشديد – الغُلُول والسرقة من الغنيمة، والتي تُعَدُّ بمثابة المال العام الذي يَنبغي أن يُحفَظَ من قِبَل أفراده.
فقد روى الشيخان] عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ” قام فينا النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَأمرَه، قال: ((لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق، فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك)).
وجوب حماية الممتلكات العامة
جاء في وصايا قادة الإسلام الإشارة إلى حظر أي اعتداء من الجيش الإسلامي على أي شكل من أشكال الممتلكات العامة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « ..ولا تحرقوا كنيسة ولا تعقروا نخلا » « ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ، ولا تهدموا بناءً » وقول أبي بكر رض الله عنه: « ولا تعقروا نخلا ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة » « ولا تغرقن نخلا ، ولا تحرقنها ولا تعقروا بهيمة ، ولا شجرة تثمر ، ولا تهدموا بيعة »
فهذه النصوص تعتبر أصولاً لحماية الممتلكات العامة وعدم التعرض لها بشيء أما عن التربية الإيمانية والفكرية الحاضنة للأصول السابقة فيمكن تفصيلها على النحو التالي :
أولاً : الشجر والدواب .
تنظر رسالة الإسلام للشجر والدواب على أنها جزء من الكون المسبح والساجد لله سبحانه وتعالى ، يقول الله سبحانه وتعالى : } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ { 41سورة النور } وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ { النور اية49 } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ { الحج الآية 18
وجاءت كثير من الآيات للدلالة على احترام هذه الموجودات منها ما يدل على بركة بعض الأنواع كالنخل الذي عبر عنه بالشجرة الطيبة وكالزيتون الذي صرحت الآيات بكونه شجرة مباركة ، بل بعض الآيات أقسم الله سبحانه وتعالى ببعض أنواع منها كالتين والزيتون … إلخ كذلك جاء ذكر الدواب على أنها نعم مسخرة للإنسان وجب على الإنسان شكر الله على هذه النعمة ، وبعض الآيات جاء فيها القسم ببعض الدواب كالخيل ، وبعضها اعتبرها موطن تفكر كالإبل ..إلخ
وفي تعاليم المصطفى وهديه جاء ما يشير إلى احترام هذه الموجودات وعدم الاستهانة بها أو امتهانها بما ليس فيه مصلحة ، بل بعض هذا الهدي اعتبر امتهان مثل هذه الموجودات بما لا يليق أو اتلافها يعرض صاحبه للمساءلة الربانية ، من هذه النصوص ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ عَبَثًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » (أخرجه ابوداود)
فالنص السابق صريح في تجريم من يقطع شجرة في فلاة ينتفع بها الغير عبثاً وظلماً ، وبالمقابل من يغرس غرساً فله بذلك أجر عند الله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « من يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ . » أخرجه البخاري
فالنصوص السابقة تشير إلى أن التربية الإيمانية تقتضي الاهتمام بالغطاء النباتي لا إتلافه أو تحريقه ، أما بخصوص الحيوان فقد جاءت التعاليم النبوية بنفس السياق منها قوله صل الله عليه وسلم :« مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ » أخرجه النسائي
، فالنص السابق لا يجيز للمسلم قتل عصفور عبثاً فكيف بما هو فوقه ، بل لا تجيز التعاليم إيذاء الحيوان فضلاً عن قتله ، عن جابر t : « أن النبي صلى الله عليه وسلم “مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ . » أخرجه مسلم
وليعزز النبي صلى الله عليه وسلم الإحساس بالمسئولية بين أن هذه العجماوات قد تكون أفضل من راكبها ، وقد تكون أكثر ذكراً لله منه . فقد مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم : « ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا ، هِيَ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ . » أخرجه أحمد في مسنده
بل رحمة تعاليم الرسالة وسمو أخلاقها تتعدى ذلك نحو الطير والحشرات بمنع كل أشكال الإيذاء لها مهما كان صغيراً ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَال : « كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صل الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صل الله عليه وسلم فَقَالَ : مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا : نَحْنُ . قَالَ : إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ . أخرجه أبو داود
هذه النصوص تشير إلى تلك التربية الحاضنة لأخلاقيات الحرب نحو الممتلكات العامة فيما يتعلق بالغطاء النباتي والثروة الحيوانية ويمكن أن نستنتج منها التالي :
1- إن جيشاً تربى على تعاليم رحيمة تمنع من التفريق بين طير وفراخه ، وتمنع من إيذاء حشرات كالنمل ، وتمنع من إتلاف شجرة غير مثمرة في جوف الصحراء لهو أولى باحترام ما هو أعظم من ذلك من حيوان أو نبات .
2- تعاليم الرسالة تنظر باحترام للموجودات التي سخرها الله سبحانه وتعالى ، وتعتبرها جزءً من الكون الساجد المسبح لله سبحانه وتعالى ، وهذا يجنب جيشهاً أي شكل لامتهان هذه الموجودات بإتلاف أو تحريق ونحوه وترى ذلك منافياً لشكر النعمة .
3- احترام الموجودات أمر حاضر في ذهن الجندي المسلم ، لذا لا مجال للتعاطي معها بحالة من عدم المبالاة والغفلة ، وحساسية المسئولية التي بثتها تعاليم الرسالة تحول دون غفلة الجيش الإسلامي وعدم مبالاته في التعامل مع هذه الموجودات ، كذلك وفرة التعاليم القاضية باحترام تلك الموجودات تحول دون انتقال حال العدائية بين المسلم وعدوه إلى ما يقتنيه العدو من ممتلكات ، والتربية النبوية والقرآنية قاضية بالفصل بين الأمرين ، وهذا ما لا تجده إلا في تعاليم رسالة الإسلام ، وفي غيره من الجيوش تجد حالة العداء لا تقتصر على العدو بل تنسحب نحو كل ممتلكاته .
يعتبر المحافظة على الممتلكات العامة وعلى وجه الخصوص الغطاء النباتي والحيواني أصل عام يحكم أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية ؛ لذا جاء التصريح به بإطلاق في وصايا النبي r وخليفته ، لكن هذا الأصل لها حالات استثنائية تقتضيها الضرورة الحربية في أضيق صورها وهو ما عبرت عنه الآيات في سورة الحشر في قوله سبحانه وتعالى : } مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ { (سورة الحشر آية 5]) فالجواز هنا في قطع أشجار بني النظير وزرعهم إنما اقتضته الضرورة الحربية لإلجائهم للاستسلام ، وهي هنا تخضع لفقه الأولويات ومن باب ارتكاب مفسدة لدرء ما هو أعظم منها ، وهي لا تمثل فكراً عاماً يقتضي حالة عدائية تدميرية لموجودات العدو و ممتلكاته ، وإنما تدل على أصل استثنائي محكوم بطبيعة العدو و مقتضيات المعركة وضروراتها .
الحِفَاظُ عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّة
حرمة التعدي عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّة
لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بِلَادِنا بِالعَدِيدِ مِنَ النِّعَمِ، وَالكَثِيرِنَ الْمِنَنِ، فَتَطَوَّرَتِ الخِدْمَاتُ وَنَمَتِ المُنْجَزَاتُ، وَيَكْفِي دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ: هَذِهِ الخِدْمَاتُ الطِّبِّيَّةُ المُتَمَثِّلَةُ بِدُورِ العِلَاجِ كَالْمُسْتَوْصَفَاتِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَهَذِهِ أَمَاكِنُ تَلَقِّي الْعِلْمِ بِالْمَجَّانِ كَالْمَدَارِسِ وَالْمَعَاهِدِ وَالْجَامِعَاتِ، وَهَذِهِ الطُّرُقَاتُ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ سَهْلَةً مَيْسُورَةً بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا إِعْنَاتٍ، وَهَذِهِ الْحَدَائِقُ وَالْمُتَنَزَّهَاتُ وَشَبَكَاتُ الْكَهْرَبَاءِ وَالْمِيَاهِ وَالاِتِّصَالَاتِ، فَكُلُّ هَذِهِ النِّعَمِ الْوَفِيرَةِ وَالْمِنَنِ الْكَثِيرَةِ تَحْتَاجُ مِنَّا إِلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَسْخِيرِهَا وَتَذْلِيلِهَا لَنَا، قَالَ تَعَالَى: )وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ([الجاثية:13].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ أَمَرَتِ الشَّرِيعَةُ بِحِفْظِ الْحُقُوقِ وَحَرَّمَتِ الإِضْرَارَ بِالآخَرِينَ، وَحَذَّرَتْ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ الإِضْرَارِ بِالآخَرِينَ: الاِعْتِدَاءَ علَى المُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ، وَالْحَيْلُولَةَ دُونَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: )وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا( [الأحزاب،58]، وَأَخَرَجَ الْإمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صل الله عليه وسلم قَالَ»: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ«.
وَمِنْ ذَلِكَ: تَكْسِيرُ مَصَابِيحِ الإِنَارَةِ فِي الشَّوَارِعِ العَامَّةِ، وَتَهْشِيمُ قَوَارِيرِ المَشْرُوبَاتِ الغَازِيَّةِ وَنَحْوِهَا فِي الطُّرُقِ وَالسَّاحَاتِ، وَرَمْيُ القُمَامَةِ وَالمُخَلَّفَاتِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ أَصْحَابِ السَّيَّارَاتِ فِي الشَّوَارِعِ، وَكَانَ حَرِيّاً بِهِمْ أَنْ يُخَصِّصُوا لَهَا مَكَاناً دَاخِلَ السَّيَّارَاتِ، وَمِنْها : تَرْكُ المُخَلَّفَاتِ فِي الْبَرِّ بَعْدَ فَتْرَةِ الرَّبِيعِ مِمَّا يُشَوِّهُ مَنْظَرَ الْبَرِّ، وَقَدْ يَجْلِبُ أَضْرَاراً صِحِّيَّةً وَبِيئِيَّةً عَلَى النَّاسِ. وَمِنْهَا: التَّعَدِّي عَلَى الأَمْلَاكِ العَامَّةِ أَمَامَ البُيُوتِ أَوْ بِجَوَانِبِهَا بِبِنَاءٍ إِضَافِيٍّ غَيْرِ مُرَخَّصٍ لَهُ, أَوْ بِمَزْرَعَةٍ وَأَشْجَارٍ وَسِيَاجَاتٍ ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ المَارَّةِ رَاجِلِينَ أَوْ رَاكِبِينَ ، حَتَّى إِنَّهُ فِي بَعْضِ الأَمَاكِنِ اسْتُخْدِمَتِ الأَرْصِفَةُ الجَانِبِيَّةُ لِلشَّوَارِعِ بِمِثْلِ هَذَا؛ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْمَارَّةِ طَرِيقٌ يَسِيرُونَ فِيهِ فَأَصْبَحُوا يَسِيرُونَ فِي الشَّوارِعِ المُخَصَّصَةِ لِلسَّيَّارَاتِ، لَا لِلْمُشَاةِ.
وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ: كِتَابَةُ عِبَارَاتٍ عَلَى جُدْرَانِ المَدَارِسِ وَالمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمُسْتَوْصَفَاتِ وَالأَبْنِيَةِ العَامَّةِ؛ تُشَوِّهُ مَنَاظِرَهَا وَتَذْهَبُ بِجَمَالِهَا وَنَظَافَتِهَا ، وَكَثِيراً مَا تَكُونُ عِبَارَاتٍ غَيْرَ مُنَاسِبَةٍ. وَمِنْهَا: التَّقْحِيصُ وَالتَّفْحِيطُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالسَّاحَاتِ العَامَّةِ، وَلَا يَخْفَى ضَرَرُهُ عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ، وَإِزْعَاجُهُ لِلنَّاسِ، وَخَطَرُهُ عَلَى الأَرْوَاحِ وَالآدَابِ العَامَّةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا يَحْصَلُ فِي المُتَنَزَّهَاتِ العَامَّةِ مِنْ رَمْيِ النُّفَايَاتِ فِيهَا وَتَكْسِيرٍ وَتَخْرِيبٍ لِتَوَابِعِهَا.
فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ حُرِمَ الاِسْتِفَادَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِسَبَبِ مَا أَصَابَهَا مِنْ تَخْرِيبٍ !! وَكَمْ مِنْ أُسْرَةٍ مُنِعَتْ مِنَ التَّنَـزُّهِ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ مِنَ التَّشْوِيهِ!! وَكَمْ مِنْ مَكَانٍ تَحَوَّلَ مِنَ النَّظَافَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلنُّفَايَاتِ!! وقَدْ تَنَاثَرَتِ الْأَطْعِمَةُ فِي جَنَبَاتِهِ وَأُلْقِيَتِ الْقُمَامَةُ فِي سَاحَاتِهِ.
إِخْوَانِيَ الْكرَامَ:
لَقَدْ جَعَلَ نَبِيُّكُمْ صل الله عليه وسلم حِفْظَ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا، قَالَ صل الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ« [رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ].
وَمِنْ فَضَائِلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنِ الطُّرُقَاتِ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ« .
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:
إِنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى( الحق العام) او المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ تَكْلِيفٌ شَرْعِيٌّ، وَوَاجِبٌ إِنْسَانِيٌّ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ، فَهَذِهِ المُمْتَلَكَاتُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلْجَمِيعِ، عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَيُرَاعُوهَا، وَيَقُومُوا بِزَجْرِ مَنْ يُحَاوِلُ تَخْرِيبَهَا وَالْعَبَثَ بِهَا ، فَإذاَ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ الْوَاحِدُ لَا يَجُوزُ الاِعْتِدَاءُ عَلَيهِ، فَكَيْفَ بِمَالِ النَّاسِ جَمِيعًا؟! وَلِهَذَا جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ لِلْمَالِ الْعَامِّ حُرْمَةً عَظِيمَةً لَا تُوَازِيهَا حُرْمَةُ مَالِ الْفَرْدِ، حَتَّى لَوْ كَانَ هَذَا الاِعْتِدَاءُ اعْتِدَاءً يَسِيرًا؛ قَالَ » صل الله عليه وسلم هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ «[أَخْرَجَهُ أَحَمْدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]، وَالْغُلُولُ هُوَ الْخِيَانَةُ وَالِاخْتِلَاسُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ .
وَصُوَرُ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ لَا تَقِفُ عِنْدَ التَّخْرِيبِ وَالْإِتْلَافِ، بَلْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى صُوَرِ الاِعْتِدَاءِ الْأُخْرَى: كَالِاخْتِلَاسِ وَالسَّرِقَةِ وَالرَّشْوَةِ وَالتَّسَاهُلِ فِي تَضْيِيعِ حُقُوقِ الدَّوْلَةِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، قَالَ تَعَالَى: ( وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( [البقرة:190]، وَقَالَ صل الله عليه وسلم«مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضَ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ].
#احبتي_الكرام
لقد فَشَتْ في دنيا الناس صُوَرٌ كثيرة في تَعَدِّيهم على المال العام، والقليل منهم الذي يَنتبه لهذه الصور، منها:
• التهرُّب من السداد للبنك – نوَّاب القروض – بحجَّة أنَّ له حقًّا في بيت المال.
• سرقة الكهرباء من الدولة بحجَّة أنَّها لا تُعطي المواطن حقَّه كاملاً.
• توقيف ساعة (عدَّاد) الكهرباء أو الماء في الدولة المسلمة؛ لأنَّ بعضَ الناس يَظنون أنَّ له الحقَّ في التهرُّب من ذلك لو كانت الدولة كافرة؛ بحجة إضعاف تلك الدولة، والله – عزَّ وجلَّ – يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
والنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمَنكَ، ولا تَخُنْ مَن خَانك))[رواه الترمذي والدارمي].
• استعمال الكمبيوتر أثناء العمل لأغراض شخصيَّة غير خاصَّة بالعمل.
• عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت، والتربُّح من الوظيفة، واستغلال المال العام لأغراضٍ سياسيَّة.
• السرقة، والغِش، وخيانة الأمانة، والغل، والرِّشوة.
• الاختلاس، وهو: استيلاء الموظَّفين والعاملين في مكانٍ ما على ما في أيديهم من أموال نقديَّة دون سندٍ شرعي.
• المجاملة في ترسِيَة العَطَاءات والمناقصات – عمْدًا – على شخصٍ بعينه، ويوجَد مِن بين المتقدِّمين مَن هو أفضلُ منه.
• الحصول على عمولة من المشتري أو من المورِّد أو مَن في حُكْمهم؛ نَظِير تسهيل بعض الأمور دون عِلْم المالك، وتُعَدُّ من قبيل الرِّشوة المحرَّمة أيضًا.
• الاعتداء على الممتلكات العامَّة – كالحدائق والمستشفيات والمتنزهات – التي ليس لها مالكٌ معيَّن.
• استخدام الممتلكات الخاصة بالعمل استخدامًا شخصيًّا؛ مثل: التلفاز والسيارة، وأدوات الكتابة، دون استئذانِ الجهة المالكة.
• الائْتِمَان على صندوق تبرُّعات خاصٍّ بالدولة، فيَأْخُذ منه، وهذه خِيانة للأمانة وتَعَدٍّ على المال العام.
• التصرُّف في المال الموقوف للمسجد، واستعماله في أغراض شخصيَّة.
• سرقة الأدوية والتلاعُب بها، مثل: أنْ يقومَ الطبيب بوصْف أدوية لا يحتاج إليها المريضُ من حيث النوعيَّة والكميَّة، وإعطاء هذه الأدوية للصيدلية المتعاملة بالمسروقات، فتُباع بسعرٍ أقلَّ من سعر التكلفة لدواءٍ مُشْتَرى بشكلٍ رَسْمي، ومدوَّن عليه التسعيرة (لاصق النقابة)، ويقوم الصيدلاني بتغيير كميَّة الأدوية المكتوبة في الوصفة بطُرق غير مكشوفة، كأنْ يكون مكتوب في الوصفة علبة واحدة، فيغيِّر الصيدلي الرقْم إلى علبتين، ويأخذ العلبة الأخرى له.
• الهروب والتخفِّي من مُحَصِّل سيارات هيئَة النقْل العام والقطارات، بل رُبَّما تعدَّى بعضُ الناس عليهما بالسباب والضرْب.
وهذه نماذج أخرى من المال العام في الإسلام:
رُبَّما يَعْلق بذِهْنِ القارئ ويقول: أنت لَم تُبَيِّنْ لنا صُوَر هذا المال، أعني: المال العام، فأقول: حَنَانَيك، وإليك ما تُريد:
1- دُور العبادة والتعليم والعلاج، والأيتام والمسنين والخدمات الاجتماعية المختلفة.
2- الطُّرق والجسور والمواني، والقناطر والمرافِق العامَّة.
3- مشروعات البِنْيَة الأساسية للمجتمع، مثل: المياه والكهرباء، والاتصالات والانتقالات، والصرف الصحي، والشوارع والطُّرق.
4- الأراضي المختلفة المخصَّصة لمنافع الدولة، مثل: الملاعب والساحات الرياضية.
5- المعادن المستخرَجة من الأرضٍ عامَّة.
6- البحار والأنهار ومصافي المياه، والتِّرَع والقَنَوات.
: الأسباب المؤدِّيَة إلى الاعتداء على المال العام. واجبنا تجاه المال العام
1- ضَعْف العقيدة عند المعتدي، ورِقَّة الدِّيَانة المفْضِية إلى ذلك.
2- سوءُ الْخُلق، وانعدام الْمُروءة.
3- الْجَهل بأحكام الله – عزَّ وجلَّ.
4- عدم مُراقبة المولَى – سبحانه وتعالى.
5- عدم تطبيق أحكام ومبادئ دين الإسلام العظيم.
6- ضَعْف النُّظم والأجهزة المنُوطَة بحمايته.
7- تقصير وَلِيِّ الأمر في القيام بالمسؤوليَّات التي حَمَّلَه الله إيَّاها، وفي هذا المقام نذكُر قولَ عمر – رضي الله عنه -: “لو أنَّ بَغْلَةً عَثرتْ في الطريق بالعراق، لسُئِل عنها عمر: لِمَ لَم تُمَهِّد لها الطريقَ؟”.
8- ضَعْف القِيَم الإيمانيَّة، وعدم الالتزام بالأمانة والصِّدق، والعِفَّة والنَّزَاهة.
9- ضَعْف رُوح الأخوَّة، وعدم وُجُود القُدوة الْحَسَنة.
10- تَفَشِّي المحسوبيَّة والمجاملات الشخصيَّة.
واجبنا تجاه المال العام؟وكيفيه التوبة لمن اعتدى على المال العام والحق العام
إنَّ الله – سبحانه – حرَّم الاعتِداء على مال الغير بأيِّ نوعٍ من العُدوان، وجعَلَه ظُلمًا يكون ظلمات يوم القيامة، ووضَعَ له عقوبات دنيويَّة بالحدِّ أو التعزير بما يتناسب وحَجْم الاعتداء وأهميَّته، فإنه حرَّم علينا الاعتداء على الممتلكات العامَّة، التي ليس لها مالِكٌ معيَّنٌ؛ فهي مِلْكٌ للجميع، ولكلٍّ فيها قدرٌ ما يجبُ احترامه، والظُّلم فيه ظُلمٌ للغير وللنفْس أيضًا، والله لا يحب الظالمين.
لقد قال الله في الغنائم التي هي مِلْك للعامَّة: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيمَن استغلَّ وظيفتَه ليكْسِبَ بها لنفسه، حينما جاء بما جَمَعه من الصَّدقات المفروضة، واحتجزَ لنفسه الهدايا التي قُدِّمَتْ إليه، قال: ((هلاَّ جَلَس في بيت أبيه وأُمِّه؛ حتى ينظرَ أيُهْدَى إليه أم لا))البخاري.
وحذَّر من مَجيء هذه الأموال المختلسة شاهِدَ إدانة عليه يوم القيامة يَحملها على ظَهْره، ولا مُجير له يدافعُ عنه، كما بيَّن أنَّ مَن وُلِّيَ على عملٍ وأخَذَ أَجْره، كان ما يأخذه بعد ذلك غُلولاً.
والخلفاء الراشدون والسلف الصالح كانوا قُدوة طيِّبة في التعفُّف عن الأموال العامَّة، التي هي حقُّ المسلمين جميعًا، فكانوا لا يأخذون من بيت المال إلاَّ حاجتهم الضروريَّة؛ كما قال أحدُهم: أنا في مال المسلمين كوَلِي اليتيم؛ حيث يقول الله – تعالى -: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾[النساء: 6].
لَمَّا قاتَلَ الصحابة الفُرس وهَزَموهم، وأخْمَدَ الله نارَ المجوس، وجدوا تاجَ كِسرى وبِسَاطه، واللآلئ والجواهر، ووجدوا دُورًا مَليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافورًا كثيرًا جدًّا، ظنُّوه مِلْحًا، خَلَطوه بالعجين، فصار العجينُ مُرًّا، فعَرَفوا أنه ليس بِمِلْحٍ.
لَمَّا قَسمَ سعد الغنائِمَ، حصَلَ الفارس على اثني عشر ألفًا، وكانوا كلُّهم فُرسانًا، كانوا في معركة بدرٍ ليس معهم إلا فارس، وبعضُهم يتعاقبون بعيرًا، وبعضهم مُشَاة، حتى عُقْلَة البعير لا يجدها، وبعَثَ سعد أربعةَ أخماس البِساط إلى عُمر، فلمَّا نَظر إليه عمر، قال: “إنَّ قومًا أدوا هذا لأُمَناء”، فقال عَلِي: “إنَّك عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا”، ثم قَسمَ عمر البِسَاط على المسلمين، فأصابَ عليًّا قطعةٌ من البِسَاط، فبَاعَها بعشرين ألفًا”.
ورَحِم الله عمر بن عبدالعزيز سليل الأماجِد الطاهرين، الذي كان ينظرُ في أمور الرعيَّة على ضوء مصباح في بيته، فلمَّا انتهى وبدأ النظرَ في أموره الخاصَّة، أطْفَأَ المصباح؛ حتى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين.
لقد كانتْ لهم مواقفُ رائعة في تعفُّفهم عن المال العام؛ ليَضربوا المثلَ لغيرهم على مدى التاريخ، ووقفوا بقوَّة أمام التصرُّفات التي يظنُّ أنَّ فيها مسَاسًا بأموال المسلمين، فصادروا ما رأوه من هذا القبيل، وأوْدَعوه بيت المال، إنه لا يعصم من الانحرافِ بخصوص المال العامِّ إلا رقابةُ الله – تعالى – الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، وإلاَّ الإيمانُ بأنَّ كلَّ لحمٍ نَبَت من سُحْتٍ، فالنارُ أوْلَى به، وإلاَّ حُسْنُ اختيار من تُوكَل إليهم الأمور على أساس الخبرة والأمانة؛ كما قال يوسف للعزيز: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].
واما كيفيَّة التوبة من سرقة المال العام:
أولاً: الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله – تعالى – وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ؛ لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام – ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشركات الخاصَّة – هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم؛ في وجوب المحافظة عليه، وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه، ويُستثنَى من ذلك ما تَعَارَف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكيَّة، فيُعْفَى عنه باعتباره مأْذونًا فيه ضِمنًا، على ألاَّ يتوسَّعَ في ذلك؛ مُرَاعاة لأصْل المنْع، على أنَّ الوَرَع أوْلَى بالمسلم الحريص على دينه؛ (ومَن اتَّقى الشُّبهات، فقدِ استبرَأَ لدينه وعِرْضه))[رواه مسلم ].
والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال – خزينة الدولة – لِمَا روى أحمد وأبو داود والترمذي عن سَمُرة بن جُنْدَب – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((على اليدِ ما أخَذَتْ، حتى تُؤَدِّيَه)).
قال ابن قُدامة – رحمه الله -: “إذا ثبَتَ هذا، فمَن غصب شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إنْ كان باقيًا بغير خِلافٍ نَعْلَمه”.
وهذا الردُّ مِن تمام التوبة، فإنه يُشترط لصحة التوبة رَدُّ المظالِم والحقوق إلى أهلها، مع الندَم والاستغفار، والعَزْم على عدم العود لذلك، لكن إذا تعذَّر الردُّ إلى بيت المال، فإنه يتصدَّق بما بَقِي من المال على الفقراء والمساكين، وإنْ كان هو فقيرًا، جازَ أن يأخذ منه قَدْرَ حاجته، وأمَّا ما سَبَق أكْلُه وإنفاقُه وصَرْفُه، فنرجو أنْ يعفوَ الله عنه.
ثانيًا: يَلزم مَن أخذَ شيئًا من المال العام من أيِّ طريقة أنْ يردَّه إلى مَحلِّه، ولو سبَّب ذلك حَرَجًا له، فإنْ عجَزَ الإنسان عن إرجاع ما أخَذَ أو سيُسبِّب حدوثَ مَفْسدة أكبر بإرجاعها، فإنها تُجْعَل في مَنْفعة عامَّة للمسلمين؛ قال النَّوَوي في “المجموع”: “قال الغزالي: إذا كان معه مالٌ حرامٌ وأرادَ التوبة والبراءَة منه، فإنْ كان له مالِكٌ مُعينٌ، وجَبَ صَرْفُه إليه أو إلى وَكيله، فإن كان مَيِّتًا وجَبَ دَفْعُه إلى وارِثه، وإنْ كان لمالكٍ لا يَعرفه، ويَئِس من معرفته، فينبغي أن يَصْرِفَه في مصالح المسلمين العامَّة؛ كالقناطر والرُّبُط، والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يَشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدَّق به على فقيرٍ أو فقراء، وينبغي أن يتولَّى ذلك القاضي إن كان عفيفًا، فإنْ لَم يكنْ عفيفًا، لَم يَجُز التسليم إليه، وإذا دَفَعه إلى الفقير لا يكون حرامًا على الفقير، بل يكون حَلالاً طيِّبًا، وله أن يتصدَّقَ به على نفسه وعِيَاله إذا كان فقيرًا؛ لأنَّ عِيَالَه إذا كانوا فقراءَ فالوصْفُ موجودٌ فيهم، بل هم أَوْلَى مَن يتصدَّقُ عليه، وله هو أنْ يأخذَ منه قَدْر حاجته؛ لأنَّه أيضًا فقيرٌ، وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرْع، ذَكَره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقَلَه الغزالي أيضًا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلَف، عن أحمد بن حنبل، والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهْل الوَرَع، والله – سبحانه وتعالى – أعلم”.
قال الغزالي: “إذا وقَعَ في يده مالٌ حرامٌ من يدِ السلطان، قال قوم: يردُّه إلى السلطان، فهو أعلمُ بما يملِك، ولا يتصدَّق به، واختار الحارث المحاسبي هذا، وقال آخرون: يتصدَّق به إذا عَلِم أنَّ السلطان لا يردُّه إلى المالك؛ لأن ردَّه إلى السلطان تكثيرٌ للظلم”، قال الغزالي: “والمختار أنَّه إنْ عَلِم أنه لا يردُّه على مالِكه، فيتصدَّق به عن مالكه”.
قلتُ – القائل الإمام النووي -: المختارُ أنَّه إنْ عَلِم أنَّ السلطان يَصْرِفَه في مَصْرف باطلٍ، أو ظنَّ ذلك ظنًّا ظاهِرًا، لَزِمَه هو أنْ يَصرِفه في مصالح المسلمين، مثل القناطر وغيرها، فإنْ عَجَز عن ذلك أو شقَّ عليه – لخوفٍ أو غيره – تصدَّق به على الأحوج، فالأحوج، وأهمُّ المحتاجين ضعافُ أجناد المسلمين، وإنْ لَم يَظنَّ صَرْفَ السلطان إيَّاه في باطلٍ، فليُعْطه إليه أو إلى نائبه، إنْ أَمْكَنَه ذلك من غير ضَررٍ؛ لأنَّ السلطان أعْرَفُ بالمصالح العامَّة وأقْدَرُ عليها، فإنْ خافَ مِن الصَّرْف إليه ضررًا، صَرَفه هو في المصارف التي ذَكَرناها، فيما إذا ظنَّ أنَّه يَصْرفه في باطلٍ”.
الخاتمة:
فإنَّ مِن أخطَر القضايا التي تُهدِّد الأمنَ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الاعتداء على المال العام، والتي أخَذتْ صُوَرًا شتَّى؛ منها: السَّرِقات، والاختِلاسات، والرِّشوة، والغلول، وخيانة الأمانة، والتعامل بالربا، فالله – عزَّ وجلَّ – حَذَّرنا من هَدْره وصَرْفه في غير حِلِّه؛ كما في الحديث الذي رواه البخاري عن المغيرة بن شُعْبة – رضي الله عنه – قال: قال: النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله حرَّم عليكم عقوقَ الأُمَّهات ووَأْدَ البَنَات، ومَنْعًا وهَات، وكَرِه لكم قِيل وقَال، وكَثرة السؤال، وإضاعة المال)).
وبيَّن ربُّنا – عزَّ وجلَّ – أنَّ الإنسان جَمُوع مَنوع، يحبُّ جَمْعَ المال، ويَبْخل بإخراجه؛ ففي التنْزِيل الحكيم: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].
لأنَّ الإنسان مركَّبٌ فيه صِفَتا الظُّلْم والجهل، فيَظلم نفسَه ويَجهل حقَّ غيرِه عليه؛ ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].
والإنسان مسؤول أمامَ الله – عزَّ وجلَّ – عن هذا المال: من أين اكْتَسَبه؟ وفيمَ أنْفَقَه؟ بهذا جاءَتِ الأحاديث الصحيحة عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
لماذا إذًا شدَّد الشرْعُ في حُرمة الأخْذ من المال العام (الغُلُول)؟ لأمور، منها:
1- لأنَّ المالَ العام تتعلَّق به ذِمَمُ جميع أفراد الأمة، فمَن أخَذَ شيئًا من المال العام – سَرِقة واغتصابًا ونَهبًا – فكأنَّما سَرَق من جميع أفراد الأمة.
2- لأنَّ الذي يَسْرق المال العام يَسْرق من الأصول التي بها حماية المجتمع من المجاعات والأَزَمات؛ لأنَّه يُخَرِّب في مال نفسه؛ لأنَّ المال العام كلُّ واحدٍ له نصيبٌ فيه، فمَن اعْتَدى على هذا المال وأخذَ منه شيئًا دون وجْه حقٍّ، فكأنَّما سَرَق مالَ نفسه.
صور من التحايل لأكل المال العام
اياك_____اخي المسلم _________والتحايل
______________________
ظهرت فى الآونة الأخيرة مظاهر للتحايل المحرم وللأسف الشديد يبرره الناس بتبريرات لا زمام لهه ولا خطام وحجتهم داحضه وواهيه:
والامثلة على ذلك مايلى.
1- طلاق الرجل لامرأته رسميا وردها عرفيا حتى يعفى الابن الأكبر من الخدمة العسكرية(دخول الجيش) وهذا تحايل وعمل باطل واذاتم بهذه الصورة فهو عمل غير شرعى ومعاشرة المرأة لزوجها بهذه الطريقة زنا لأن عقد الطلاق انفسخ بطريق صحيح ولابد وان يتم اعادته بطريق صحيح والتحايل بامرمشروع كالطلاق للوصول الى غرض مشروع لايجوز تماما كما فعل بنواسرائيل عندما تحايلوا لصيد السمك فى يوم السبت الذى حرم عليهم الصيد فيه بنصب الشباك فى يوم الجمعة ولم تنفعهم الحيلة فزمهم الله على فعلهم وعاقبهم لاعتدائهم بان مسخهم قردة وخنازير ويترتب عل هذ العمل ضياع الحقوق علما بان الخدمة العسكرية واجب وطنى وشرف لكل من يلتحق بهذه المؤسسة العملاقة التى جعلها الله سببا لحماية البلاد والعباد
2-زواج المرأة الأرملة او المطلقة والتى تتقاضى معاشا زواجاعرفيا بدون قسيمة(رسمية) حتى تظل محتفظة بالمعاش طبعا هذا تحايل وعمل عير مشروع لأن المرأة التى تتقاضى المعاش انما تأخذه اعانة من الدولة لأنه لا يوجدعائل لها ولا من ينفق عليها فاذا تزوجت اصبح لها عائل وقيم عليها وهو زوجها والا لماذا كانت القوامة للرجل على المراة قال الله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم..)فمن فعلت ذلك ومن رضى بذلك فقدتحايل لأكل المال العام الذى هو اشد حرمة من المال الخاص
صور من التحايل لأكل المال العام
نسألُ الله أن يُجَنِّبنا المكاسبَ
المحرَّمة، وأنْ يَحفظَنا عن الحرام أيًّا كان، وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصَحْبه وسلَّم.