خطبة بعنوان: أهمية العمل وأثره في بناء المجتمع، للدكتور خالد بدير
خطبة بعنوان: أهمية العمل وأثره في بناء المجتمع
لتحميل الخطبة أضغط هنا
============================
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية العمل والحث عليه في الإسلام
العنصر الثاني: الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله
العنصر الثالث: العمل ضرب من ضروب العبادة في الإسلام
العنصر الرابع: تحري الكسب الحلال
المقدمة: ………….. أما بعد:
العنصر الأول: أهمية العمل والحث عليه في الإسلام
————————————————-
لقد حث الإسلام على السعي والكسب من أجل الرزق؛ قال تعالي: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ( الملك: 15)؛ ويقرر الإسلام أن حياة الإيمان بدون عمل هي عقيم كحياة شجر بلا ثمر ، فهي حياة تثير المقت الكبير لدي واهب الحياة الذي يريدها خصبة منتجة كثيرة الثمرات.؛ فالإسلام لا يعرف سناً للتقاعد، بل يجب على المسلم أن يكون وحدة إنتاجية طالماً هو على قيد الحياة، ما دام قادراً على العمل، بل إن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بينه وبين القيام بعمل منتج، وفي ذلك يدفعنا النبي صلى الله عليه وسلم دفعاً إلى حقل العمل وعدم الركود والكسل فيقول: ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر” [ السلسلة الصحيحة – الألباني ]، كما حث الإسلام على اتخاذ المهنة للكسب مهما كانت دنيئة فهي خير من المسألة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” (الترمذي وحسنه)
لذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهتم بالعمل والترغيب فيه فيقول: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلىَّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري، وكان إذا رأي فتى أعجبه حاله سأل عنه: هل له من حرفة ؟ فإن قيل : لا. سقط من عينيه .وكان إذا مدح بحضرته أحد سأل عنه : هل له من عمل؟ فإن قيل : نعم .قال : إنه يستحق المدح . وإن قالوا : لا. قال : ليس بذاك . وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً بأن يتعلموا المهنة ويقول تبريرا لذلك:- فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنة، وإن كان من الأغنياء.
وكان كلما مر برجل جالس في الشارع أمام بيته لا عمل له أخذه وضربه بالدرة وساقه إلى العمل وهو يقول: إن الله يكره الرجل الفارغ لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.”(إحياء علوم الدين – الإمام أبو حامد الغزالي)، ومما أثر عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه :” يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما أفتقر أحد قط إلا أصابه ثلاثُ خصال: رقةُ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته”. ومما أوصى به قيس بن عاصم أولاده : “عليكم بالمال واصطناعه فإنه منبهةُ الكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل.”، وقال عمر رضي الله عنه: “مكسبةُ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس.” ، وعنه رضي الله عنه قال:” إن الله خلق الأيدي لتعمل فإن لم تجد في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا “. وكان سعيد بن المسيب رحمه الله يتاجر بالزيت ويقول: والله ما للرغبة في الدنيا ولكن أصونُ نفسي وأصل رحمي.”، وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له : كيف أنت ؟ قال : بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري.
عباد الله: إن أثر العمل ليس قاصراً على الكفاف والاغتناء عن الناس فقط، بل يعتبره الإسلام تكفيراً عن الذنوب، فقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة.
أحبتي في الله: إن أجسام الناس ما هي إلا آلات يجب إعمالها وعدم تعطيلها وإلا دمرها العجز والخور والشلل ، وصارت إلى الموت البطئ والاسترخاء والصدأ، وتحولت إلى أداة تعويق للحياة الاجتماعية ونموها، بدلاً من أن تكون أداة قوة ونماء وازدهار، وهذا ما كان يغرسه الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه حينما يتوجع أحدهم أو يتمارض أو يركن إلى الخمول والكسل، معتمدا في ذلك على صدقات المحسنين، مع قدرته على الكسب والعمل، فإذا جاءَ أحدُهم إليه صلى الله عليه وسلم يسألُه مالاً، وكانَ قوياً على العملِ وجهَّه إلى العملِ وحثَّه عليه، وبيَّن له أن العملَ مهما كانَ محتقراً في أعينِ الناسِ فهو أشرفُ للإنسانِ من التسولِ والمسألةِ، ومما يُروى في ذلكَ أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: «أما في بيتك شيءٌ؟» قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: «ائتني بهما»، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: «من يشتري هذين؟» قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: «من يزيدُ على درهمٍ؟» -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: «اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به»، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: «اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً»، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ» (رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه). فالرسول صلى الله عليه وسلم لقن هذا الرجل درساً لا ينساه ، وبهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم باباً من أبواب الكسل والتواكل، فلو أن الرسول أعطاه من الصدقة لفتح بذلك الباب على مصراعيه للكسالى والمتواكلين، ولأصبحت هذه مهنتهم كما هي مهنة الكثيرين في هذا العصر، وما يرى – من أمثال هؤلاء – في الموصلات والشوارع والطرقات لأقوى دليل على ذلك، لهذا كله حرم الإسلام البطالة والكسل والركود لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط في جميع مجالات الحياة، فإنه يؤدي إلى هبوط الإنتاج، وتخلف الأمة، وانتشار الفوضي، وكثرة المتواكلين، إضافة إلى المذاق الغير الطبيعي للقمة العيش وخاصة إذا حصل عليها الكسول من عرق جبين غيره، فينبغي على الفرد أن يعمل ليأكل من كسب يده لأنه أفضل أنواع الكسب، فقد أخرج البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده”.
عباد الله: إن القلب ليحزن حينما يري الشباب وهم في أعز قواهم العقلية والجسدية ومع ذلك يفني الشباب قوته وشبابه في الفراغ وفي كل ما حرم الله تبارك وتعالي من ملاهٍ ومشارب وخمور ومجون وغير ذلك؛ ولو لم يكن الإنسان في حاجة إلى للعمل، لا هو ولا أسرته، لكان عليه أن يعمل للمجتمع الذي يعيش فيه فإن المجتمع يعطيه، فلابد أن يأخذ منه، على قدر ما عنده. يُروى أن رجلاً مر على أبي الدرداء الصحابي الزاهد – رضي الله عنه- فوجده يغرس جوزة، وهو في شيخوخته وهرمه، فقال له: أتغرس هذه الجوزة وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا بعد كذا وكذا عاماً ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري!! وأكثر من ذلك أن المسلم لا يعمل لنفع المجتمع الإنساني فحسب، بل يعمل لنفع الأحياء، حتى الحيوان والطير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري]، وبذلك يعم الرخاء ليشمل البلاد والعباد والطيور والدواب.
العنصر الثاني: الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله
————————————————-
ينبغي على المسلم في عمله أن يأخذ بجميع الأسباب الموصلة إلى غايته وهدفه مع التوكل على الله تعالى؛ وهذا ما غرسه النبي في نفس الصحابي الذي أطلق الناقة متوكلا على الله؛ فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ:” اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ” (الترمذي وحسنه)
إن كثيرا من الناس يقعد في بيته وينتظر الرزق مع أنه لم يأخذ بالأسباب ولم يسع عليه فكيف يأتيه؟!! لذلك رأى عمر رضي – رضي الله عنه- قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10).
وروى ابن أبي الدنيا في “التوكل” بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتكلون، إنما « المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله ». وكان سفيانُ الثوريّ رحمه الله يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟! قال: اطلُبوا من فضلِ الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
أخي المسلم: إنك لو نظرت إلى الهجرة وسألت نفسك سؤالا: لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم سرا بينما هاجر عمر بن الخطاب فى وضح النهار..؟!! متحديا قريش بأسرها، وقال كلمته المشهورة التى سجلها التاريخ فى صفحات شرف وعز المسلمين وقال متحديا لهم : “من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي” فلم يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه، فهل كان عمر بن الخطاب أشجع من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؟!! نقول لا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق على الإطلاق، ولكن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب النجاة من التخطيط والتدبير والهجرة خفية واتخاذ دليل فى الصحراء، ليعطينا درسا بليغا في الأخذ بالأسباب مع الأمل والثقة في الله والتوكل عليه. أيعجز ربنا أن يحمل نبيه في سحابة من مكة إلى المدينة في طرفة عين كما في الإسراء والمعراج ؟!!
فما أجمل الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، فعن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ” لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ” [أخرجه الترمذي].
انظر إلى السيدة مريم عليها السلام قال الله فيها :{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم:23- 26)
تأملت في هذه الآية وقلت: امرأة جاءها المخاض ( طلق الولادة ) ومع ذلك أمرها الله بهز النخلة والأخذ بالأسباب، مع أنك لو جئت بعشرة رجال ذي جلد وقوة ما استطاعوا إلَّا رمياً بالحجارة، والله قادر على أن ينزل لها مائدة عليها أشهى المأكولات؛ ولكن الله أراد أن يعطينا درساً بليغاً في الأخذ بالأسباب مع الأمل والثقة في الله والتوكل عليه.
أحبتى في الله: أسوق لكم قصة جميلة عن سلفنا الصالح في الأخذ بالأسباب وعدم الكسل والركود والاعتماد على صدقات المحسنين: يروى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال إبراهيم: عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، وعاد إلى تجارته.
هؤلاء قد فهموا الإسلام، عملاً وتعباً، جهداً وبذلاً، لم يفهموا الإسلام تقاعساً ولا كسلاً، ولا دعة ولا خمولاً، وذلك لأن الإسلام رفع من شأن صاحب اليد العليا، ولا يريد لأتباعه أن يكونوا عالة على غيرهم.
العنصر الثالث: العمل ضرب من ضروب العبادة في الإسلام
———————————————————
من عظمة الإسلام وروحه أنه صبغ أعمال الإنسان – أياً كانت هذه الأعمال دنيوية أو أخروية – بصبغة العبادة إذا أخلص العبد فيها لله سبحانه وتعالي، فالرجل في حقله والصانع في مصنعه والتاجر في متجره ، والمدرس في مدرسته ، والزارع في مزرعته ،….. الخ كل هؤلاء يعتبرون في عبادة إذا ما أحسنوا واحتسبوا وأخلصوا النية لله تعالي في عملهم، فالفرد مع أنه يعمل من أجل العيش والبقاء والحصول على زاد يقيم صلبه إلا أنه في عبادة لله سبحانه وتعالي ، وهذا هو الفارق بين العامل المسلم الذي يرجو ثواب الآخرة قبل ثواب الدنيا؛ بل إن الله تعالي جعل الضرب والسعي في الأرض جهاداً في سبيل الله قال تعالي:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ) المزمل: 20) قال الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: “سوى الله تعالي في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله”
وهذا ما أكده الرسول – لأصحابه. فعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: ” مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ”. [ صحيح الترغيب والترهيب-الألباني ]، وقال لسيدنا سعد:” إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ”(البخاري)
بل إن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك فيعد المعاشرة الزوجية طاعة وقربة وعبادة مع أن فيها مآرب أخرى للزوجين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : “وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا”(مسلم) ، قال الإمام النووي: ” في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به ، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.”
إذن فالإسلام يعتبر سعى الإنسان على نفسه وولده جهاداً وعبادة يثاب عليها في الآخرة؛ ولو فطن كل فرد إلى هذه الحقيقة لما تواني لحظة في أداء عمله، بل إنه يسارع إلى أداء عمله بجودة وإتقان وإخلاص، لا من أجل الحصول على المال فسحب وإنما من أجل الثواب الجزيل والأجر العظيم الذي أعده الله له في الآخرة.
فالدين يجعل كل عمل يقوم به الإنسان عبادة، ما دام يلتزم فيه بما يرضي الله رب العالمين، فالتجارة مثلاً عبادة، إذا بعد الإنسان في أثناء مزاولتها عن الغش والكذب والاستغلال والربا، وكذلك سائر الأعمال الدنيوية الأخرى ما دام الإنسان يبتعد في أثناء مزاولتها عن مساوئ الأخلاق، وهذا حافز للإنسان على إتقان عمله وتحسين سلوكه في الحياة، وتقوية صلته بالله، لأن الدين يروى في سلوك المتدينين به، وهو الذي يعد الإنسان ويجعله صالحاً للسير في الحياة على صراط الله المستقيم، مما يجعله أهلاً لكي يكون خليفة الله في الأرض، فيؤدي رسالته لتعمير الأرض، وإقامة شريعة الله فيها.
يؤخذ من كل ما سبق أن العمل عبادة ، وهذه عبارة صحيحة في ميزان الشرع ولكن يضاف لها إضافة بسيطة: ( العمل عبادة في غير وقت العبادة )؛ لأن كثيراً من الناس يتركون الصلاة بحجة العمل عبادة، لذلك وقَّتَ الله الصلاة بوقت فقال تعالى:{ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103 )، وأمرك أن تترك تجارتك وعملك وتهرع إلى الصلاة، لأن هذا الوقت ملك لله ويحرم فيه بيع أو شراء أو عمل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }( الجمعة : 9 – 11 )
قال الإمام ابن كثير في تفسيره :”لَمَّا حَجَر الله عليهم في التصرف بعد النداء بيعاً وشراءً وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين، لهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني. واختلفوا: هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.” أ.ه
وكان أحد الصالحين يعمل حداداً فإذا سمع الأذان لا ينزل المطرقة على السندان حتى يستجيب لنداء الله، لأن المؤذن يقول: الله أكبر، أي أكبر مما في يدك.
وقد عاتب الله بعض الصحابة لما انشغلوا بالتجارة وتركوا سماع الخطبة، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب في الناس، إذ قدم المدينة عيرٌ تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها، وهم في المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالاً لما لا ينبغي أن يستعجل له، فأنزل الله: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، فلا ينبغي للعبد أن ينشغل بالدنيا وما فيها ويترك العبادة، لأن الله سخر كل هذه المخلوقات الكونية لخدمة الإنسان ليستعين بها على طاعة الله لا لتشغله عن عبادته!!!! وقد جاء في الأثر الإلهي: ” عبدي: خلقتك من أجلى، وخلقت الأشياء كلها من أجلك، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له.”، إذاً : ( العمل عبادة في غير وقت العبادة )
عباد الله: هذه رسالة أحببت أن أبلغها لإخواني وآبائي الذين يعملون في حقولهم وزراعاتهم وتجاراتهم – حبّا لهم وإشفاقاً عليهم – أن لا تشغلهم عن ربهم، اللهم إني قد بلَّغت اللهم فاشهد يا رب العالمين.
العنصر الرابع: تحري الكسب الحلال
———————————–
ينبغي على الإنسان أن يتحرى الحلال في كسبه ؛ ولقد أساءَ جمعٌ من أهل الإسلام – هداهم الله – جمعهم للمال؛ فترى الواحد من هؤلاء يحرصُ على جمع المال من أي وجه كان، فأمواله من كسِب الربا الخبيث، ومن الغش والمكر والاحتيال والرشوه وغيرها؛ قد سيطر الهلع والجبنُ والبخلُ على نفسه وامتلكت الدنيا قلبهُ فهو مجنون بحب المال وجمعه من أي مصدر كان فغضبه للمال إن ينقص، ورضاه للمال إن زاد، وأفكاره وأحاديثه حول كيفيه تضخيم الأرصدة، وزيادة الجمع والتنمية، دون النظر إلى الحل والحرمة؛ فهو جموعٌ منوع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم فهو عبدٌ للدنيا والدرهم والمنصب فتباً لهذا الصنف فما أبأس حاله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ؛ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ” (البخاري)
فيا سبحان الله كيف تفعل الدنيا بأهلها إذا خالطت شغاف القلب، واستهان المرء بقواعد الشرع الحنيف، وأصبح الفرد لا يبالي بأكل الحرام؟! فماذا يبقى له من حيلَ بينه وبين الرحمة، وانقطعتْ صلتُهُ بربه، وحُجِبَ وعِاؤه؟! أريتم – أيها الإخوة – ذلكَ الرجلُ الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: ” يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ” (رواه مسلم). لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال به المسير، وتغرّبت به الديار، وترِبت يداه، وأشعث رأسه، واغبرّت قدماه، ولكنه قد قطع بربه، وحُرِمَ نفسه من مداد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول.
بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟ لذلك قال بعض السلف: “لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك”.
عباد الله: إن طلب الحلال وتحريه أمر واجب، وحتم لازم، فلن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟! فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه؛ وعن شبابه فيما أبلاه؛ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؛ وعن علمه ماذا عمل فيه.” [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ]
أيها العمال والموظفون، أيها الصناع والتجار، أيها السماسرة والمقاولون، أيها المسلمون والمسلمات، إياكم أن يكون طلبكم للرزق مفضياً إلى الكسب الحرام من ربا أو غش أو خداع أو قمار أو نحوها مما يتحصل به على الحرام. وإياكم أن تكون هذه الأرزاق من الله لكم سبيلاً للفساد في الأرض أو الصدود عن سبيل الله، أو منع ما أوجب الله؛ ولتكن لكم القدوة في سلفنا الصالح في تحري الحلال، فقد ورد أن الصديق رضي الله عنه شرب لبناً من كسب عبده ثم سأل عبده فقال: تكهنت لقوم فأعطوني، فأدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظنَّ أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
ومن ذلك -أيضاً- ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر ، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقينى نارًا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها. فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر ، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة. انظر إلى ذلك وإلى حالنا كما وصفه نبينا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ” ( البخاري )
إن تحري الحلال له تأثير على نفسك وجميع جوارحك، قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم؛ ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات. وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر. (الإحياء : أبو حامد الغزالي)
عباد الله: أسوق قصص واقعية من أرض الواقع تؤيد هذا الكلام؛ فهذا رجل الأمن الذي يعمل في المراقبة الطرقية وتنظيم حركة المرور والسهر على سلامة المواطنين؛ لكن ما أن تقع يده على مخالفة ما حتى يحاول أن يضرب له بسهم منها ويأخذ عن ذلك رشوة من المواطنين وكأنه حقه الشرعي, فيجمع من خلال ذلك المال الحرام, لكنه المسكين كان له طفل كثير المرض ما أن يعافى من مرض حتى يسقط طريح الفراش مرة أخرى, وكأن الله يرسل إليه إنذارا لعله يقلع عن أكله أموال الناس بالباطل, استمر هذا الرجل على هذه الحال يأخذ من هنا ويمرض له ولده من هناك, حتى جاءت البشرى من عند الله حيث اشتكى حالة ابنه هذه لصديق له فكان خير صديق فنصحه بأن يقلع عن أخذ الرشوة كي يشافى ابنه, قبل هذه النصيحة وأصر على ألا يدخل على بيته فلسا من حرام, فاشترى لحما من خالص عمله وأدخله على بيته وحين تناوله ابنه تلفظ قائلا: يا أبي أول مرة في حياتي أتذوق لذة اللحم!!! ازدادت قناعته وإيمانه فتاب إلى الله توبة نصوحا فشفى الله ابنه من مرضه؛وهذا ليس قاصرا على شرطي المرور؛ ولكن قس على ذلك كل وزارات ومؤسسات الدولة.
إن تعجلك بجمع المال عن طريق الحرام كان سبباً في منع الحلال من الوصول إليك، فمن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلال.
وهذه قصة أخرى رائعة تؤيد هذا الكلام: رُوِي عن علي رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة فأعطى غلامًا دابته حتى يصلي، فلما فرغ من صلاته أخرج دينارًا ليعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خطام الدابة وانصرف، فأرسل رجلا ليشتري له خطامًا بدينار، فاشترى له الخطام، ثم أتى فلما رآه علي رضي الله عنه، قال سبحان الله! إنه خطام دابتي، فقال الرجل: اشتريته من غلام بدينار، فقال علي رضي الله عنه: سبحان الله! أردت أن أعطه إياه حلالا، فأبى إلا أن يأخذه حراما!!
هذا يذكرني بقوله صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ نَفَثَ في رَوْعِي : أنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حتى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها ، فَاتَّقُوا اللهَ وأَجْمِلوا في الطَلَبِ، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ ما عندَهُ إِلَّا بِطَاعَتِه” [ الصحيحة – الألباني ]، فالسارق رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! والمرتشي رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! والغاش في البيع والشراء رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام!! والذي حصل على وظيفة بالوساطة والمحسوبية رزقه كان سيأتيه عن طريق الحلال ولكنه تعجله بطريق الحرام! وقس على ذلك كل طرق الكسب المحرمة والمنتشرة في المجتمع!!
أختم بهذه القصة الجميلة – في تحرى أكل الحلال – جاء رجل إلى الإمام الشافعي يشكو له ضيق حاله وأخبره أنه يعمل أجيرا بخمسة دراهم؛ وأن أجره لا يكفيه؛ فما كان من الشافعي إلا أن أمره أن يذهب إلى صاحب العمل ويطالبه بإنقاص أجره إلى أربعة دراهم بدلا من خمسة؛ وامتثل الرجل لأمر الشافعي رغم أنه لم يفهم سببه!! وبعد فترة عاد الرجل إلى الشافعي وقال :لم يتحسن وضعي إنما مازالت المشكلة قائمة؛ فأمره الشافعي بالعودة إلى صاحب العمل وطلب إنقاص أجره إلى ثلاثة دراهم بدلا من أربعة دراهم.
ذهب الرجل ونفذ ما طلب منه الإمام الشافعي مندهشاً!!! وبعد فتره عاد الرجل إلى الشافعي وشكره على نصيحته؛ وأخبره أن الثلاثة دراهم أصبحت تغطي كل حوائجه وتفيض؛ بعدها سأله عن تفسير هذا الذي حدث معه؛ فأخبره الشافعي: أنه كان من البداية يعمل عملا لا يستحق عليه إلا ثلاثة دراهم وبالتالي الدرهمان الباقيان لم يكونا من حقه؛ وقد نزعا البركة عن بقية ماله عندما اختلط به.
وأنشد: جمع الحرام على الحلال ليكثره ……. دخل الحرام على الحلال فبعثره
فيا من همك التوقيع في سجل الحضور والانصراف!! ويا من همك الدراهم والدنانير دون النظر إلى مصدرها!! ويا من تطعم أولادك حرام!! ويا من تراشي وتحابي رئيسك ومديرك من أجل هروبك من العمل وتقصيرك فيه؛ أو من أجل الوصول إلى وظيفة أو جاه!!
عباد الله: حق عليكم تحري الحلال والبعد عن المتشابه والحرم، واتقوا الله جميعاً في أنفسكم وفي أولادكم لا تطعموهم الحرام فإنهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على حر النار، فكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به .
وبعد: فهذه رسالة أوجهها إلى جميع آبائي وإخواني وأحبابي؛ وكل أفراد المجتمع؛ حبا لهم وإشفاقا عليهم من عذاب الله؛ اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد يا رب العالمين.
أسأل الله العلي العظيم أن يطيب كسبنا وكسبكم، وأن يصلح نياتنا ونياتكم، وأن يرزقنا وإياكم الرزق الحلال ويبارك لنا فيه، إنه سميع قريب مجيب.
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي