خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجل
خطبةالجمعة القادمة وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ،مكرم عبداللطيف
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ،خطبةالجمعة القادمة بتاريخ 29/ من شهر ربيع الآخر لعام 1446هـ الموافق/1 من شهر نوفمبر لعام 2024م اعداد مكرم عبداللطيف
عناصر الموضوع
1 -دعوة القرآن الي الأخذ بأسباب القوة لإعمار الكون
2/المبدأ القرآني في بناء الإنسان والحضارة
3/جريان السنن الكونية على الخلق جميعا والأمر باتخاذ أسباب القوة المادية والحرص على اكتسابها
المقدمة:
قال الله تعالي:
((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال:60).
الهدف من موضوع الخطبة
هو توعية الجمهور إلى أهمية الأخذ بجميع أسباب القوة البشرية والاقتصادية والعلمية في مواجهة التحديات
أهمية الإعداد:
الإعداد يسبق المعارك، ويتم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وإعداد العُدُد. وهي تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة ليتم اختيار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تتطلب من الإنسان البحث والصنعة.
أما المراد بالقوة في هذه الآية، فقد جمع ابن الجوزي أقوال العلماء فيها، فجاءت في أربعة أقوال،
الأول: أنها الرمي، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله ﷺ،
والثاني: الخيل، والثالث: السلاح، والرابع: أنه كل ما يُتقوَّى به على حرب العدو من آلة الجهاد.
وحديث عقبة الذي يشير إليه ابن الجوزي في القول الأول، هو حديثه في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله ﷺ وهو على المنبر يقول “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”. وإطلاق الرمي في الحديث كما يقول محمد رشيد رضا، يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك، وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره ﷺ، فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه.
أما قوله تعالى: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾، فالرباط والمرابطة ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا، كما جاء في لسان العرب لابن منظور. والمراد كما يقول ابن عجيبة في البحر المديد: “الحث على استعداد الخيل، التي تربط وتعلف بقصد الجهاد، وهو من جملة القوة، فهو من عطف الخاص على العام، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب”.
وجاءت كلمة ﴿قُوَّةٍ﴾ في الآية غير معرفة، وذلك يفتح المجال أمامها لتشمل كل قوة يستعان بها في المعركة، أي قوة عقلية، وبدنية، وسياسية، وصناعية، ومالية..
ومن خلال فهم المراد من الآية، فيمكن أن يدخل اليوم ضمن رباط الخيل، الأنفاق، والمواقع، ومنصات الصواريخ، والكاميرات التي ترصد تحركات العدو على الحدود، والطائرات بدون طيار، وغيرها مما يفتح الله به على عباده.
ومع وجاهة الأقوال التي جمعها ابن الجوزي، فإنها جميعا تظل محصورة في القوة البدنية “الرمي” وآلة الجهاد العسكري، وإذا عدنا إلى كلمة ﴿قُوَّةٍ﴾، في الآية الكريمة، نعلم أن مجيئها غير معرفة، يفتح المجال أمامها لتشمل كل قوة يستعان بها في المعركة مع العدو؛ لتحرير البلاد والعباد. فهي تتناول كل قوة عقلية، وبدنية، وسياسية، وصناعية، ومالية، ونحوها، وفق ما ذكره عبد الرحمن السعدي في تفسيره.
إننا مطالبون كما نعد قلوبنا عند الصلاة، خشوعا وذلة لله سبحانه، أن نعد كل قوة لمواجهة العدو : قوة عسكرية واقتصادية، سياسية وقانونية، علمية وإعلامية، اجتماعية ونفسية، ودليل ذلك ما جاء في سنن أبي داود، عندما عدد رسول الله ﷺ أشكال جهاد العدو، فقال: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم”،
أما قوة الإعلام على سبيل المثال، فقد ورد في صحيح البخاري، أن رسول الله ﷺ، قال لحسان بن ثابت: “اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك”.
وليكن معلوما أن أي قوة لن تؤتي ثمارها، إذا ظلت متناثرة متفرقة، فلابد من تعاضدها وتكاملها، وذلك على مستوى الأمة الإسلامية. ولو نظرنا إلى الحركة الصهيونية، وهي تسعى بجد للحصول على وعد بوطن قومي في فلسطين، ثم وهي تعمل بعد الوعد لإقامة الكيان؛ لوجدنا كل أشكال القوة عندها، ونحن ولا شك أولى بذلك منهم، سيما أن لدينا مصدرا صحيحا، لم يتطرق إليه التحريف والتبديل، إنه الإسلام، الذي يمكن أن يمدنا بطاقة إيجابية هائلة، لضمان ديمومة العطاء من أجل بلوغ الغاية، وهي استعادة فلسطين.. وطن الأمة الإسلامية
العصر الأول :دعوة القرآن الي الأخذ بأسباب القوة لإعمار الكون
=============
حين نتأمل في آيات القران الحكيم، نرى مجموعة كبيرة من الآيات الكريمة قد تصل إلى العشرات، تتحدث عن مهمة أساسية للإنسان في هذه الحياة، وهي مهمة اعمار الأرض، واستثمار الخيرات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الكون.
يقول الله سبحانه وتعالى ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها – هود، آية 61﴾ فالإنسان مخلوق من تراب الأرض، أما لماذا أنشأنا الله منها؟ وما هي مهمتنا في هذا الوجود؟ فالله تعالى يقول: ﴿استعمركم فيها﴾، يشير المفسرون، وتصرح بعض النصوص الواردة في هذا المجال أن المعنى “طلب منكم عمارة الأرض”، أي أن “تعمروها”.
وهنا نقف مع ملاحظة مهمة وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يقل انه عمر الأرض لكم، بل أنه سبحانه خلق هذا الكون وأودع فيه الثروات والخيرات والإمكانات، ثم فوض إلى الإنسان أن يستغل هذه الثروات والإمكانات من اجل اعمار الأرض.
أرأيت كيف أن المالك يأتي بمواد البناء، ويطلب من البناء أن يبني أرضه؟ يقول له تفضل، هذه الأرض، وهذه مواد البناء، وهذه أدوات التعمير جاهزة، وكل ما تحتاجه موجود، هيا قم ببناء مسكن أو عمارة.
هذا ما فعله الخالق سبحانه وله المثل الأعلى، فقد خلق الإنسان، وخلق له هذا الكون، ثم قال له: أيها الإنسان اعمر هذه الأرض بما مكناك من ثروات الكون وطاقاته.
بالعقل تستثمر ثروات الكون
الله سبحانه عندما طلب من الإنسان أن يعمر الأرض لم يتركه تائها، بل وفر له أهم المقومات وتتمثل في أمرين:
الأول: الإمكانات والوسائل التي يتمكن بها من عمارة الأرض.
الثاني: القدرة العقلية التي تجعله قادرا على الاستفادة من هذه الثروات، وهذه الإمكانات.
فالمقصود بقوله تعالى:
﴿واستعمركم فيها﴾ قال : (أما وجه العمارة فقوله ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾ فأعلمنا سبحانه انه قد أمرهم بالعمارة)
، يعني أنت مطلوب منك عمارة الأرض، وهذا ليس مسالة كمالية إضافية، بل هو أمر صادر من قبل الله تعالى.
ومما يدل على ذلك وجود عشرات الآيات الكريمة التي تتحدث عن تسخير الكون للإنسان، لماذا يقول الله تعالى: ﴿سخر لكم ما في السموات وما في الأرض﴾؟ إنما يقول ذلك ليبين للإنسان أن كل الإمكانيات تحت تصرفه، فيا أيها الإنسان استفد منها، اشتغل فيها، استخدمها من أجل إعمار الأرض.
في أكثر من عشرين آية القران الكريم يتحدث بهذا اللفظ (التسخير) وفي آيات أخرى يتحدث عن خلق الله لهذه الخيرات، ولهذا الوجود من اجل الإنسان، ﴿خلق لكم﴾ ماذا خلق؟ خلق سبحانه ما تستفيدون منه، بأن تستثمروه، وأن تسخروه لمصلحتكم، الله سبحانه يقول: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – إبراهيم، آية 33)﴾
وفي آيات أخرى الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ – لقمان، آية 20﴾؟. كل ما في السموات وما في الأرض سخره الله تعالى لكم ﴿وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا – البقرة، آية 296﴾، هذه الآيات جاءت موجهة للإنسان إلى هذه المهمة المطلوبة منه في هذه الحياة.
أين موقع المسلمين؟
لكن مما يؤسف له أن المسلمين غفلوا عن هذه الآيات، وخاصة في هذه العصور المتأخرة، ما عاد المسلم ملتفتاً ولا مهتما بعمارة الأرض، وكأنها أصبحت مهمة الأمم الأخرى، والأقوام الآخرين، وإما هو فكأن الله خلقه في هذه الأرض لكي يؤدي طقوسا عبادية فقط.
وقد قال أحد المنهزمين نفسيا : “إن الله سبحانه وتعالى سخر للمسلمين أمما أخرى، حتى يكتشفوا ويخترعوا، والمسلمون يستفيدون من ذلك ليتفرغوا لعبادة ربهم”، هكذا يتصور البعض أن الله خلقنا حتى نصلي ونصوم، والأمم الأخرى خلقها الله حتى تعمر الأرض من اجلنا.
هذا فهم سقيم، الله سبحانه وتعالى طلب منا، والقران الكريم موجه إلينا بشكل أساس، طلب منا أن نقوم بهذه المهمة وبمقتضى العبودية لله تعالى علينا أن نستجيب لهذا الأمر،
يجب على كل انسان ان يفكر في دوره في عمارة الارض، ويسأل نفسه: ماذا يستطيع أن يعمل في عمارة الحياة، وتنمية الحالة العمرانية والاقتصادية؟
بحيث يكون هناك حراك في هذه الحياة، وهذا ما تؤكد عليه كثير من النصوص.
إن المجتمع الإسلامي مهمته الكبيرة والأساسية هي القيام باعمار الأرض، ولكن ضمن سياق الخضوع لأوامر الله سبحانه وتعالى، واعمار الأرض في طليعة هذه الأوامر، وفي ظلال المبادئ، وفي إطار القيم التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
استثمار الثروات
من المؤسف جدا أن لا تستفيد البلدان الإسلامية من الإمكانات الهائلة الموجودة في بيئتها، بينما تجد الأمم الأخرى تستغل كل الثروات التي عندها، إنهم يستفيدون من وجود كل شيء، من وجود الأجواء الطبيعية، والبحر والأراضي الخصبة، والخيرات الموجودة في بيئتهم، وفي الطبيعة التي يعيشون فيها.
وماذا عنا نحن المسلمون؟
إننا ورغم أن الطبيعة في بلداننا زاخرة بالإمكانات والثروات، لكننا مع الأسف الشديد لا نستثمرها الاستثمار المناسب، ولا نستفيد منها في عمارة بلداننا.
التنمية مقياس أداء الحكومات
حينما نريد أن نقوّم أداء أي حكومة فبأي مقياس نقيّم؟
التنمية هي المقياس وهذا هو المعمول به عالميا اليوم، حينما تقاس الحكومات وأداءها يؤخذ بعين الاعتبار مدى التقدم الذي حققته في البلد، ومدى التنمية الذي صنعته، وهذا هو المقياس الصحيح.
وينبغي على المجتمعات المسلمة أن تتفاعل مع برامج التنمية ومشاريع الاعمار، وأن يتوجه كل مواطن للانجاز والفاعلية، من أجل بناء وطنه واعمار بلاده.
قد تفخر بعض المجتمعات الإسلامية بما حققته من إنجازات في الناحية الدينية، ونفخر بأن هذا المجتمع، وهذه البلاد بها كذا من المساجد، فيها كذا من دور العبادة ومكاتب التحفيظ ومابمعاد والمدارس القرآنية ، فيها كذا من الأعمال الدينية، هذه الأمور الدينية العبادية أمر مطلوب يُفخر به، لكن لابد أن يرتبط الفخر بمدى انعكاس هذه الأمور في حياة الناس، وهل تربي الإنسان ليقوم بالمهام التي أوكلها الله سبحانه إليه، اما في غير هذه الحالة فتكون طقوسا فارغة من المضمون، فارغة من المحتوى.
بعض المجتمعات تتباهى بالأنشطة الدينية والشعائرية، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن البال أن هذه الأنشطة الدينية ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي مقصودة للعطاء الذي تقدمه في حياة الإنسان، لذلك الآيات الكريمة حينما تتحدث عن الصلاة أو الصوم وكذلك عن الحج، فإنها تشير إلى النتائج التي تؤديها هذه العبادات في نفس وسلوك الإنسان، يقول تعالى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر – العنكبوت، آية 45﴾،
ويقول تعالى:﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون – البقرة، آية 21﴾، القرآن الكريم يتحدث عن مردود هذه العبادات، فما هو العطاء؟ وما هو التأثير الذي تتركه هذه العبادة على شخصية الإنسان؟
النصوص الدينية منظومة متكاملة
من ناحية أخرى النصوص الدينية تشكل منظومة متكاملة، لا ينبغي لنا أن نركز على النصوص التي توجهنا إلى هذه الأمور الشعائرية، ونغفل عن النصوص التي توجهنا إلى اعمار الأرض، وإلى التنمية، وإلى العمل الجاد في مختلف المجالات والحقول، نحن نجد في النصوص الواردة عن رسول الله وعن الأئمة ما يؤكد هذا الأمر، فالنبي صل الله عليه وسلم يقول موجها الدعوة للعمل حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا: (إن قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة يريد أن يغرسها فليغرسها ولا يقول قد قامت الساعة) ، وورد عنه انه قال: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة).
إننا مطالبون ببث ثقافة الاعمار والتنمية، لا ينبغي أن يعيش المسلم انفصالا بين الحالة الدنيوية التي يعيشها، والخطاب الديني الذي يسمعه، وبين المهام الموكلة إليه كانسان في هذه الحياة.
حينما نقرأ النصوص التي تأمرنا بالدعاء، وتلاوة القران، والصلاة والزيارة، وسائر العبادات، ينبغي ألا نعرض عن النصوص الأخرى التي تأمرنا بالتجارة، وبالزراعة وبطلب العلم، وباعمار الكون، وتأمرنا بالعمل والتحرك، لماذا نعيش ازدواجية فنغض الطرف عن هذه النصوص ونتمسك بتلك؟ النصوص الدينية منظومة متكاملة، ولا بد من العمل بمجمل النصوص.
إن كل إنسان في أي ارض، وفي أي وطن، ومجتمع ينبغي أن يفتح ذهنه، وان يفكر في استغلال الثروات الموجودة في بلاده، من الأرض والمياه والثروات المعدنية، وهذه الطبيعة التي مكننا الله منها، وأن يتساءل: كيف نستغلها؟ كيف نستفيد منها؟ لا ينبغي لك أن تعزف عن هذا الأمر، بل لابد أن تفكر في ما تضيف إلى مجتمعك، إلى وطنك، في مجال الاعمار، والتنمية الاقتصادية.
لو أن كل إنسان فكر على هذا الصعيد، كيف نقوى الزراعة في بلادنا؟ كيف نقوى الصناعة في بلادنا؟ كيف نقوى التجارة في بلادنا؟ كيف نقوى الحركة الاقتصادية والتنمية في بلادنا؟
لو أن كل إنسان شغل ذهنه بهذا الأمر، لكانت النتيجة بان يكون عندنا اهتمام عام، ونحن نرى في المجتمعات الأخرى كيف أن هذا هو ما يشغل أذهانهم، نحن نأخذ عليهم أن الاهتمامات الروحية ضعيفة عندهم، ولكن في المقابل يؤخذ علينا اهتمامات الاعمار، واهتمامات النشاط والتنمية ضعيفة عندنا، ما أحوجنا أن نستفيد من همتهم في مجال العمل، وان نعطيهم شيئا مما لدينا في مجال التنمية الروحية والمعنوية.
بالطبع إن اعمار الأرض وتنميتها في أي مجتمع يحتاج إلى منظومة متكاملة، الأمر يرتبط بالوضع السياسي، وبالمستوى العلمي المعرفي، ويرتبط بالبيئة المشجعة، ولكن كل إنسان منا يستطيع أن يقوم بدورٍ ما على هذا الصعيد.
العنصرالثاني :
المبدأ القرآني في بناء الإنسان والحضارة
ذات يوم كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقيم حياتها على أساس الإيمان بالله، ودعوة الناس إلى الإيمان قولاً وفعلاً بالحكمة وبكل وسائل الدعوة الحسنة.
وكان المسلمون في ذلك يستجيبون لأمر الله الذي يخاطبهم كأمة تمثل الوسطية والشهادة على الناس، ولم يُعرف في تاريخنا أن الخطاب الإسلامي اتجه لجماعة أو هيئة أو جامعة أو مدرسة…اومنظمة بعينها
اومجتمع بعينه
كما لم يعرف أن هناك طبقة بعينها تتخصص في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، وأن الطبقات الأخرى لا علاقة لها بالدعوة ونشرها.. بل الذي عُرف وآمن به الناس أن هناك متخصصين في العلوم الشرعية يسمون (العلماء) أو (الفقهاء) وهم الذين يملكون مؤهلات التعليم المستوعب لعلم من العلوم لا سيما الفتوى في الفقه، والتبصير بحقائق التفسير، وتوجيه الأمة إلى الحديث الذي صحَّ عن رسول الله، أو الحديث الذي لم يصح، أو الحديث الذي صح رواية وسندًا ولم يصح دراية ومتنًا، أو العكس.
أما شأن الهّم الدعوى الإسلامي فهو شأن الأمة كلها، وهو هَمُّ مهندسها وطبيبها وعالمها الاجتماعي والنفسي، بل هو كذلك همّ الزراع والصناع والتجار كل حسب طاقته من الفقه بالإسلام، والقدرة على تمثيله قولاً وعملاً؛ فالدعوة بالقول والعمل، والنفس والمال والعلم.
ولم يعرف كل هؤلاء أن همّ الدعوة إلى الله ونشر الإسلام هو شأن خاص بالرجل، أو المرأة، أو المثقف وغير المثقف بالمعنى الثقافى المعروف.
كما لم يعرف هؤلاء أن نشر الإسلام ودعوة الناس إليه إنما يعنى فقط تربية الناس على العبادة لله والإخلاص لدينه، والتوحيد الكامل به والالتزام بعقائده وأخلاقه!!
وإنما عرفوا أن كل ذلك تندمج فيه هذه القيم الربانية والأخروية بوسائل تؤدي إلى بناء الحياة الدنيا، وتفعيل جوانبها المختلفة وفق منهج الله للحياة.. فما يقوم به المسلم من تحقيق (الصلة بالله) إلا ليحسن تحقيق (الصلة بين الناس) أفرادًا وجماعات، وبذلك تصبح التعليمات المتصلة بالآخرة تنظيمًا وتكييفًا للتعليمات التي يجب أن تسود في الدنيا؛ وذلك كي يبني الناس منهاج حياتهم بناءً تمتزج فيه الدنيا بالآخرة، وتنجح تعليمات الآخرة في تكييف أركان الدنيا تكييفًا إيمانيًّا، وتمدها بالوقود الذي يحقق لها الصلة المثلى بالله، والسعادة وبناء الحضارة الإنسانية القويمة اللائقة بإنسانيته في هذه الدنيا!!
فما جاء الإسلام (لاهوتًا) يُريد من الناس أن ينسوا دنياهم، وأن يعيشوا في (ملكوت السماء)، وإنما جاء الإسلام مُعلِّمًا للناس كيف يعيشون في الدنيا بقيم السماء، محققين التواصل الكامل (الذي عجزت عنه كل الأديان) بين الدنيا والآخرة، وهذا يتجلى في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
وحتى المساجد (وهي بيوت الله) التي ينصرف الذهن إلى أنها متخصصة في العبادة.. حتى هذه البيوت (بيوت الله) اجتمعت فيها التربية الإيمانية الأخروية الروحية والوجدانية، والتربية العملية الدنيوية القائمة على حُسن التكامل مع التربية الأخروية.
ولهذا رأينا في بيوت الله عالم التفسير، وعالم الحديث، وعالم الفقه والأصول، يتجاور في بيت الله نفسه مع عالم الفيزياء والفلك والطب والهندسة وغيرها.. وكل من هؤلاء وأولئك من علماء الدين وعلماء الدنيا يؤمنون بأنهم يتعبدون لله بكل ما يقدمونه من علوم دينية ودنيوية وطبيعية في سبيل بناء حياة يرضى الله عنها، وتتحقق للمسلمين بها آفاق التقدم والنهضة والحضارة التي تضمن لهم السعادة في الدارين، وتحقق القدرة على منافسة القوى العالمية في عصورهم.
الفصام المدمر:
ثم وقعت الواقعة، فظهرت عصور غلبت فيها العلوم التي تسمى (بالعلوم الأخروية)، وانسحبت -تقريبًا- العلوم التي أطلقوا عليها -ازدراءً لها وحطًّا من شأنها- مصطلح (العلوم الدنيوية).
وعندما جاء عصرنا الحديث ظهر قادة الفكر المستنير وهم يحملون هذه الأفكار المزدرية للعلوم الدنيوية، والتي تنصرف فيها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} إلى العلوم العسكرية، وما يتصل بالجهاد من قوة نفسية ومعنوية.
بل اتجه بعضهم إلى أن نصر الله ورضاه يتحققان -فقط- بالجهاد الحربي وتحصيل العلوم الشرعية، لدرجة أننا منذ نحو خمسين سنة تفشت في شبابنا ظاهرة سلبية أسيفة.. فقد وجدنا بعض الشباب المتدين يجنح إلى العلوم الشرعية، بعد أن يكون قد تفوق في تخصص من التخصصات العلمية مثل الصيدلة والكيمياء والطب والفيزياء والهندسة، ومع ذلك يترك كل ذلك، وينصرف إلى دراسة العلوم الشرعية مدَّعيًا أنها التي ستنصر الإسلام، وتحقق رضا الله وحدها، مُهمِلاً ما حصل عليه من شهادات في النواحى العلمية. وقد أصبحت هذه الظاهرة السلبية في فترة ما، أفيونًا مخدرًا مبددًا لطاقة الأمة.
تجربة شخصية:
ويحكى الأستاذ الدكتور (سيد دسوقى حسن) أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة (كلية الهندسة) تلك التجربة الشخصية الخاصة به فيقول:
كانت تتملكني الرغبة للدراسة في كلية الحقوق أو دار العلوم حين حصلت على الثانوية العامة، حتى لقيت أستاذًا لي في مجال الدعوة هو الأستاذ محمد يونس (رحمه الله تعالى)، فقال لي: نحن في حاجة إلى مهندسين يصنعون لنا طائرات وصواريخ.. فكِّر في الهندسة، فذلك خير لك ولأمتك.
وكان أن توجهتُ إلى الهندسة التي لم تخطر لي على بال قبل ذلك، ثم إلى الطيران والصواريخ..!!
ويقول الدكتور أيضًا: نحن في حاجة ماسة إلى استنارة بطبيعة (الفروض الحضارية) حتى يتدافع إليها الناس، وحتى لا يتدافع ذوو التوجهات الإصلاحية والدعوية في بلادنا إلى أعمال تأتي في نهاية الخريطة، وينسون أعمالاً تأتي في أعلاها؛ لأنها فرض الكفاية الذي تحول فأصبح (فرض عين) في ظل الواقع المريض!!
المبدأ القرآني للبناء الإنساني والحضاري:
ونحن نجد بين أيدينا نماذج لمواقف بعث حضاري إسلامي قام بها علماء (شيوخ) ودعاة مصلحون.. مهندسون ومربون.. عرفوا كيف يمزجون في بعثهم للأمة، وإحيائهم لها، وإخراجها من مرحلة الاستعمار أو القابلية للاستعمار إلى مرحلة القيادة الحضارية التي تمزج بين العمل الحضاري والتوجيه القرآني..
ففي مواجهة إعلان الحاكم الفرنسي العام للجزائر (موت الإسلام في الجزائر) بمناسبة مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر، وترويعه للشعب الجزائري بقوله: لقد حمل محمد عصاه من الجزائر ورحل إلى الأبد..
في مواجهة هذا الإعلان المشبع بروح الحقد الصليبي قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بإنشاء حركة إصلاح من العلماء الجزائريين.. وبدأها بتلقين الشعب الجزائري دروس تفسير القرآن في مسجد قسنطينية، وأتم تفسير القرآن المسمى (مجالس التذكير)، قاصدًا بعث الشعب الجزائري بالتربية القرآنية القائمة على العلم والعمل..
وقد كانت هذه الدعوة الأقرب إلى النفوس وأقواها في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وأدخلها في القلوب؛ إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
فأصبحت هذه الآية شعار كل من ينخرط في سلك الإصلاح في مدرسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وكانت أساسًا لكل تفكير وتغيير ونهضة… فظهرت آثارها في كل خطوة، وفي كل مقال، حتى أُشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير، بدءًا من تغيير النفس.. وصولاً إلى تغيير الواقع.. تطبيقًا للمنهج القرآنى في التاريخ.
وبالتالي أصبحت أحاديث الشعب، تتخذ الآية القرآنية ومنهجها الإسلامي شرعة ومنهاجًا.
فهذا يقول: لا بد من تبليغ الإسلام إلى المسلمين. وذاك يعظ قائلاً: فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطخت الدين، ولنترك هذه الأوثان. وذلك يلح: يجب أن نعمل.. يجب أن نتعلم… يجب أن نجدد صلتنا بالسلف الصالح، ونحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول.. الذي أقام حضارة إنسانية عالمية، ونشر دينًا.. وصنع خير أمة.
لقد انطلقت الأفكار، ثم تلاقت وتصارعت… وظهرت آثارها في صورة مدرسة، أو مسجد، أو مؤسسة إصلاحية.
معادلة مالك بن نبي :
ويعلق المهندس الجزائري مالك بن نبي على الطرح الذي طرحته أفكار ابن باديس وقيمتها في إحداث التحول الحضاري في الجزائر، فيقول:
لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات “الشيخ عبد الحميد بن باديس”، فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدَّر يتحرك.. ويا لها من يقظة جميلة مباركة.
وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحولت (مناجاة الفرد) إلى (حديث الشعب)، فتساءل الناس: كيف نمنا طويلاً؟ وهل استيقظنا حقًّا؟ وماذا يجب أن نفعل الآن؟
لقد فهم ابن باديس -وخلفه الشعب الجزائري- معادلات التغيير الأساسية الصالحة لبناء مجتمع حر متحضر.. لقد فهموا أن الحقوق نتيجة حتمية للقيام بالواجبات.. والواجبات أولاً.. والتلازم قائم لا ينفصل بين الواجبات والحقوق.. والحقوق تُؤخذ ولا تمنح، وتفرض بالإرادة القرآنية الحضارية ولا تُتسول ولا تُهدى.. ولا تُغتصب كما تغتصب الغنائم والأشياء، بل هي نتيجة طبيعية للقيام بالواجب.. مثلما أدى المسلمون واجبهم في مكة خير قيام، فظهرت دولة الواجبات والحقوق في المدينة.
إن الشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عَدّل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي.. وإنها لشرعة السماء وقانون الله وسنته الاجتماعية: (غيِّر نفسك.. تغيِّر التاريخ).
فهل استوعب الدعاة والمصلحون هذه القوانين؟ وهل يجاهدون في سبيل تغيير النفوس وصولاً لتغيير المجتمع وبناء الحضارة؟ هل يدركون ضرورة المزج بين الفقه بالعلوم الشرعية والإنسانية والكونية؟
وبالتالي هل يقومون بهذه الوظيفة المزدوجة من خلال منابر التربية والتأثير المختلفة، فيعلّمون الأمة العلوم الشرعية والإنسانية والكونية انطلاقًا من أن كتاب الله يتضمن تعليم العلوم الشرعية والتوجيهات الواضحة إلى القوانين النفسية والاجتماعية، كما أن القرآن بسط القول في الحديث عن آيات الله في الكون والآفاق في عشرات من سور القرآن.
يا أيها الدعاة، ويا معلمي الأمة في بيوت الله، قدموا القرآن كله للناس، وعلِّموهم ما فيه من شريعة الله ومن آيات الله في الأنفس والآفاق… فهذه هي تحديات العصر،
العصرالثالث :
جريان السنن الكونية على الخلق جميعا والأمر باتخاذ أسباب القوة المادية والحرص على اكتسابها
إن مفهوم الإسلام للقوة المادية قائم على لزوم جريان السنن الكونية؛ كما قدر الله في خلقه؛ ففي الوضع الطبيعي قدر الله –تعالى- في سنن الكون أن القوي يهزم الضعيف، والغني يستأجر الفقير، والحاكم يملك السلطة
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: “أَنَّ قُرَيْشًا، قَالَتْ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ! فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَامِهِ الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ –عمرة القضاء-، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: “ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثلاثا –أي في الثلاثة أشواط الأولى- لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَكُمْ” فَلَمَّا رَمَلُوا، قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا وَهَنَتْهُمْ –يعني حمى يثرب- “
رمل إذا أسرع في مشيته، وهز منكبيه، وهو في ذلك لا يجري، الرمل: المشي السريع.
وفي رواية لأحمد: “فقال المشركون: أهؤلاء الذين نتحدث أن بهم هزلا! ما رضي هؤلاء بالمشي حتى سعوا سعيا!”.
وفي روية: فقال المشركون: “كأنهم الغزلان”.
أيها الإخوة: إن من السياسة الشرعية الحكيمة التي يعلمنا إياها نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا المشهد إظهار القوة أمام الأعداء، ولئن كانت القوة هي عنصر الحسم الأول في زمان مضى، فإنها اليوم بلا شك أظهر.
يقول الله –تعالى- في سياق هذه الحقيقة: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].
وهي سنة من سنن الكون، فالقوة بمعناها الشامل الذي يؤدي إلى جلب المصالح الشرعية، ودفع المفاسد؛ مطلب إسلامي أصيل.
بل إن القوة صفة يحبها الله -تعالى- في الأمة أفراداً وجماعات؛ ففي صحيح مسلم وفي السنن بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل الخير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدرُ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”.
وفي رواية: “قّدر الله وما شاء فعل”.
كما يجب عدم إهمال جانب القوة المادية على حساب القوة الإيمانية
فمن المفاهيم الدارجة التي تحتاج إلى تهذيب: إهمال جانب القوة المادية في مقابل القوة الإيمانية في واقع الحياة، وتهذيب هذا المفهوم لا يتم بالمنطق العقلاني الفلسفي؛ نأتي على النصوص الشرعية ثم نلويها، أو نحرف معناها، حتى يوافق المعنى عقولنا وأذواقنا -أعوذ بالله من هذا المنهج-.
لا أبداً، التهذيب يكون من خلال النصوص ذاتها، ومن خلال فهم الصحابة وسلفهم من الأئمة لتلك النصوص.
كما يجب الجمع بين نصوص ظاهرها الحث على القوة المادية وأخرى تهون منها:
فعندما نستعرض ما ورد في القرآن، أو السنة، حول موضوع القوة، قد يرد على البعض شبهة التعارض، ففي آية يذكر الله فيها نعمة القوة المادية، فيقول تعالى فيما يعد فيه هود -عليه السلام- قومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52] نعمة من نعم الله -تعالى-.
ويقول تعالى -كما تقدم-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).
ففي هاتين الآيتين: ذكرا لأهمية القوة المادية، وأمراً بأخذها في الاعتبار، والسعي إلى تحقيقها.
وفي آية أخرى تشير في الظاهر إلى التهوين من تلك القوة، وضعف الاعتماد عليها؛ يقول سبحانه: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
وفي آية أخرى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران: 123].
إن مفهوم الإسلام للقوة المادية قائم على لزوم جريان السنن الكونية؛ كما قدر الله في خلقه؛ ففي الوضع الطبيعي قدر الله –تعالى- في سنن الكون أن القوي يهزم الضعيف، والغني يستأجر الفقير، والحاكم يملك السلطة، والجد ينتج ويورث الثمر، والكسل يقعد، وينتج كسلا.
فالله -تعالى- لم يخلق سننه في الكون عبثا، بل لتنتظم الحياة، ولم يقصر تلك السنن على أناس آخرين، بل جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تجري عليهم السنن: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62].
ففي سنن الكون أثر القوة المادية قوي وفاصل في الحياة؛ كيفما كانت القوة عسكرية، أو صناعية، أو اقتصادية، أو علمية، أو سياسية.
ومن مبدأ هذه الحقيقة الكونية جاءت النصوص تحث على السعي إلى تقوية الأمة ماديا، ولكن في نفس الوقت هناك حقيقة أخرى، هناك سنن إلاهية لا يدركها سوى المؤمن، سنن تكمل النقص المادي، إذا بذل المستطاع، ولو كان المستطاع قليلا.
كما في ما حدث في معركة بدر عندما جمع الله المسلمين مع عدوهم من غير ميعاد، وكان المسلمون قلة، غير مهيئة للمعركة، فوقعت سنة من نوع آخر، وقعت سنة التأييد الإلهي لعباده الصالحين، في حال الاضطرار والشدة، وأوحى الله للملائكة أن تقاتل معهم، وقذف في قلوب الذين كفروا الرعب: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) [آل عمران: 151].
فكان النصر للمسلمين.
إنها سنة التأييد الإلهي حين تضيق بالمؤمنين السبل، وتنعدم الحيل، إلا من اللجوء إلى الله -جل وعلا-.
إنها بركة العمل التي تقلب الموازين المادية، وتكسر لغة الأرقام، ومن هذا المبدأ جاءت النصوص الأخرى التي تشير إلى قطع الاعتماد على الأسباب المادية.
ولهذا نقول: إن السبب المادي مهم جدا لتحقيق الأهداف، لكن مع اليقين بالله، والتوكل عليه.
وقد جاء في صحيح الجامع بإسناد حسن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الناقة: “اعقلها وتوكل”.
وجاء في سنن ابن ماجة في بإسناد صحيح من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو على المنبر، يقول: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”.
القوة المادية التي ينادي بها صلى الله عليه وسلم هي قوة الرمي، يعتبرها قوة مهمة: “ألا إن القوة الرمي” بل يؤكد عليها صلى الله عليه وسلم بترديدها ثلاثا.
بل صح في مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: “من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى”.
الشاهد: أن السبب المادي كما ترون مهم، ومأمور باتخاذه.
إذاً لماذا هونت نصوص أخرى من أثره؟!
والحقيقة أنها لم تهون من أثره، بل هذبت علاقة القلب بها؛ لأن المؤمن مأمور بالتوكل لا على السبب المادي، وإنما على خالق السبب -جل وعلا-.
ولو تأملنا في بعض الآيات التي تناولت معركة بدر ذاتها؛ لعلمنا هذا التوجيه حين النظر في تلك الأسباب المادية.
ولعلمنا التوجيه بربط القلب بالله -تعالى- لا بالأسباب حين أنزل سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) [الأنفال: 17].
في مجمع الزوائد بإسناد صحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: “ناولني كفاً من حصى، فناوله فرمى به وجوه القوم، فما بقى أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17].
فسواء كان الأثر أو الفعل خارقا للعادة، أو كان عاديا، فإنه ما كان ليكون إلا بأمر الله -تعالى-، ولهذا ربط النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته هدايتهم وصدقتهم وصلاتهم بأمر الله، عندما كانوا يحفرون الخندق.
فقد صح في البخاري عن البراء -رضي الله عنه- قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ التُّرَابَ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعْرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ رَجُلا كَثِيرَ الشَّعْرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى بَغَوْا عَلَيْنَا *** وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ”.
إذاً لولا الله ما وقع شيء، وهذا لا يعني الاتكال على القدر، فكل ميسر لما خلق له، ولهذا جاء في النصوص الأخرى الأمر باتخاذ السبب المادي، والعناية به.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: “فالعبد لا يسلب الفعل، بل يضاف إليه”.
فالعبد هو الفاعل لكن الله هو الخالق، وكما قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 14].
فلا تعارض بين النصوص، بل هو تنوع، وفي هذا التنوع إرشادا إلى التعامل مع الحياة بمنطقية عملية مادية، وفي الوقت ذاته يحث على تعلق القلب أثناء ذلك لخالق الأمر، ومدبره سبحانه وتعالى.
إن المسلم ليتحسر عندما يرى من حوله من الأمم أحرص منا على اكتساب القوة بجميع أشكالها، وبالذات القوة العلمية، والعسكرية، والصناعية.
فالنصارى من قبل تحركوا، والوثنيون في اليابان تحركوا، والبوذيون في الصين تحركوا، والهندوس في الهند تحركوا، بل حتى المجوس في الجوار بدئوا يتحركون، ونحن مع الأسف ما زلنا نزحف زحف السلحفاة.
فلا يصح من أمة التوحيد التي أخرجت للناس أن تكون آخر الناس، هابطة الهمة، تابعة لا متبوعة، متخلفة لا متقدمة، ضعيفة لا قوية.
فما الحل إذاً؟
إن الخطوة الأولى من خطوات مباشرة الحل تبدأ بالفرد، وتنتهي بالجماعة، كما بدأت خطوة الإسلام الأولى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فرداً، وانتهت بالأمة كلها.
يجب أن نحيي مفهوم المسئولية في قلوبنا، نحن أولا، وقلوب من حولنا من الناس، وإذا كنا سنبادر إلى ذلك يوما ما، فاليوم بلا أدنى شك أوجد أزمة مالية، ما زالت تبعاتها مشتعلة، وخطر قريب جاثم على صدورنا، لديه من الأطماع ما الله به عليم، والمنافقون بين أظهرنا يدينون له بالولاء.