خطبة الأسبوعخطبة الجمعةعاجلمصــر
وَقُــولُــوا لِـلنــَّاسِ حُسْــنــًا ، خطبة الجمعة مكرم عبد اللطيف
وَقُــولُــوا لِـلنــَّاسِ حُسْــنــًا. ))
==================خطبة الجمعة القادمة بإذن الله تعالى
بتاريخ/٢٢ من ربيع الآخر ١٤٤٦هجرية
الموافق ٢٥من أكتوبر. ٢٠٢٤م اعداد مكرم عبداللطيف
عناصر الخطبة
1-((وَقُــولُــوا لِـلنــَّاسِ حُسْــنــًا))
2-((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ…))
3- عِظَمُ شأن الكلمة ووجوب حفظ اللسان
4- آداب الكلام إذ المرء مخبوء تحت لسانه
البيان والتوضيح
العنصر الأول وَقُــولُــوا لِـلنــَّاسِ حُسْــنــًا
===============
إن من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان هي نعمة الإفصاح والبيان فقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]
فالبيان: هو الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم، وأجلها وأكبرها عليه(انظر التحرير والتنوير لابن عاشور (27/ 233)، وتفسير السعدي (ص: 828).) .
ولقد خلق الله للبيان آلة وهي اللسان به ينطق ويتخاطب مع أبناء جنسه، فمن استعمل لسانه في القول النافع وقضاء الحوائج وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة وأدى شكرها، ومن أطلق لسانه وأهمله، سلك به الشيطان كل طريق شر وسوء حتي يكبَّه في النار على مناخِره، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: “وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ”(أخرجه الترمذي وصححه الألباني ) .
فلسان المرء سلاح ذو حدين إما أن يستعمله في ما يرضي الله وما طاب من الأقوال فيغرس شجرة تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها، وإما أن يستعمله فيما يورث سَخطَ الله فيكون سبب في هلاكه ودخوله النار. ولقد أحسن من قال:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهلُ وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مَقتَلُ
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه إذا لم يكن قفلٌ على فِيهِ مُقفَلُ
إذا ما لسان المرء أكثر هَذْرَهُ فذاك لسانٌ بالبلاءِ مُوَكَّلُ
إذا شئت أن تحيا سعيداً مُسَلَّماً فدبّر وميّز ما تقولُ وتَفعَلُ.
الكلام مسطور ومحفوظ:
لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى أن على الناس ملائكة يحفظونَ عليهم أعمالَهم ويلازمونَهم أينَما كانُوا، ويكتبونَ كلَّ ما صدرَ عنهُم من الأفعال والأقوال فقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]
وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
{ما يلفظ} أي: ابن آدم {من قول} أي: ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلمة {إلا لديه رقيب عتيد} أي: ملكًا مراقبًا لأعماله حافظًا لها شاهدًا عليها لا يفوته منها شيء.
عتيد: أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}[الانفطار: 10 – 12]
قال ابن بطال: ما أحق من علم أن عليه حفظةً موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنَه ويُقلَ كلامه فيما لا يعنيه.
فينبغي على المرء أن يحفظ لسانه وأن ينتقي كلامه وألا يتكلم إلا بالخير، فربَّ كلمة لا ترضي الله تُوبِقُ على المرء دنياه وآخرته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)) اخرجه البخاري ومسلم.
قال النووي: في شرح صحيح مسلم “ومعناه لا يتدبرها ويفكر فى قبحها ولا يخاف ما يترتب عليها، وفي هذا كله حث على حفظ اللسان فينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك”.
وقال ابن القيم: في كتابه القيم الداء والدواء “وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ” .
عوِّد لسانك على الخير:
عَن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاص-رضي الله عنه- أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: ((مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ))(أخرجه مسلم)
. فلم يقل النبي-صلى الله عليه وسلم- إن خير المسلمين من قام الليل أو صام النهار أو من حج أو اعتمر، بل ترك كل هذه الفضائل مع حسنها وقال: ” خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده”، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة، وإن أذى المسلم حرام باللسان وباليد، فأذى اليد: الفعل، وأذى اللسان القول. ومَنْ كانتْ هذه حالُهُ، كان أحقَّ بهذا الاسمِ، وأمكنَهُمْ فيه. ومَنْ كان كذلك، فهو المسلمُ الكامل، والمتَّقي الفاضل .
وقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بحسن القول في غير موضع من كتابه فقال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]
و “الحُسن” هو الاسم العام الجامع لجميع معاني الحسن. فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلةً تحت قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } .
وقال سبحانه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج: 24]
ومعناه أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يلهمهم أقوالًا حسنة يقولونها بينهم . فالكلمة الطيبة والقول الحسن هداية الله وفضله لعباده.
وقال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [الإسراء: 53]
قال السعدي: “وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما. والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره” .
فالقول الحسن والكلمة الطيبة وقاية من النار كما أخبر بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ))(أخرجه البخاري )
. وخير كلمة وأحسن قول هي كلمة التوحيد كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))((أخرجه الترمذي وحسنه الالباني).
) . فما من أحد أحسن قولًا ممن دعا إلي توحيد الله وعبادته كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]
قال السعدي: “هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلامًا وطريقة، وحالة {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها”
ومن ذلك حديث(( مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَليق لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ))
“(أخرجه الترمذي وحسنه الالباني).
وحديث… ((من عاد مريضًا فليدع وليقل “لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ”(أخرجه البخاري) .
وحديث….(( وإن أصابه كرب أو ابتلي فليحمد الله وليقل: “لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ)) “(أخرجه البخاري ومسلم ) .
وفي السنة أمثلة كثيرة على ذلك.
من أحق الناس بحسن القول:
إن القول الحسن والكلام الطيب شعار لقائلهما ودليل على طيب نفسه، فقد تستطيع بقولك الحسن أن تحول العدو بإذن الله إلي صديق وتقلب الضغائن التي في القلوب إلي محبة ومودة. وكم من مُشكلات حُلَّت، وكم من صِلات قَويَت، وكم من خُصُومات زالت بكلمة طيبة.
وأحق الناس بحُسنِ المَنطِقِ هُم:
1-الوالدان:
فهما وصية الرحمن كما قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [العنكبوت: 8]
وقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23] أي: وقل لهما قولًا جميلًا حسنًا ليِّنًا سهلًا من أحسن ما تجد من القول.
ومن العجيب أن ترى بعض الشباب والفتيات يتعاملون مع آبائهم معاملة فظة فيرفعون أصواتهم وينهرونهم ويسيئون إليهم ويؤذونهم بمنطقهم السيئ حتى لو أن إنسانًا رآهم ولم يكن يعلم أن هذا هو الوالد أو أن هذه هي الأم لظن أنهما خادمان يعملان لدى
الأبناء من شدة غلظة وقسوة الألفاظ التي يستخدمها بعض الأبناء مع الوالدين.
2-القرابات:
وإنما سميت القرابات بهذا الاسم لتقاربهم وتلاصقهم بعضهم ببعض، وهم أصول الرجل وأرحامه، فمن وصلهم وصله الله، وبارك له في رزقه، ووسَّع له في عيشه، كما أخبر بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))(أخرجه البخاري ) . فقرابة المرء هم أولى الناس بحسن القول والمعاملة.
3-العلماء:
فهم ورثة الأنبياء كما أخبر بذلك الصادق-صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى بقوله: ((إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))(أخرجه الترمذي وحسنه الألباني )
قال ابن جماعة الكناني: ” وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا، فكما لا رتبة فوق النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة”تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة(ص: 18).
).
ولهذه المنزلة ينبغي المرء أن يحسن القول مع أهل العلم، وأن يتلطف في سؤاله إليهم.
4-الزوجان:
لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى في كتابه عن الأساس الذي تبنى عليه البيوت فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21] فيحتاج كلًا من الزوجين لاختيار أفضل الألفاظ وأحسنها للتخاطب في ما بينهم وإبداء مشاعر الحب والمودة والرحمة، وإنَّ في هدي نبينا-صلى الله عليه وسلم- خيرَ مثال على ذلك وأفضلَ دليل، فَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)) قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ” أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ” قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ(أخرجه البخاري ومسلم.) . هكذا كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يعامل أهله فلنقتدي به فإن لنا فيه أسوة، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].
5-غير المسلمين:
إن الله عز وجل أمر بالإحسان إلى الناس عمومًا فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }، فظاهر هذه الآية يدل على العموم كما قال عطاء بن أبي رباح أي: “للناس كلهم”.
ومن القول الحسن أمرُهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار.
ولله در القائل:
أحسن إلى الناس تَستَعبِدْ قُلُوبَهم فَطَالمَا استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكن على الدهر معوانا لذي أمل يرجو نداك فإن الحر معوانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له عند الحقيقة إخوانٌ وأخدان.
وقَالَ أَحْمد بن الخصيب للمُنتصِر: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ: أحسنْ إِلَى النَّاس يُحبُّوكَ، وأفْشِ فيهْم العدْل يحمدوك، وَلَا تُطْلِق لغيرْك عَلَيْهِم لِساناً وَلَا بدا فيَذمُّوك .
العنصر الثاني
((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ…))
يقول الله تَعَالَى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 24]؛ فَمَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ الْخَيْرَ هَدَاهُ إِلَى أَفْضَلِ الْكَلَامِ وَأَطْيَبِهِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرُ اللهِ، وَتِلَاوَةُ كِتَابِهِ. إِنَّ الإِنْسَانَ الْمُوُفَّقَ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِي الطَّيِّبَ مِنَ الْقَوْلِ؛ كَمَا يَنْتَقِي أَطَايِبَ الثِّمَارِ؛ اِسْتِجَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 36]، فَمَا أَعْظَمَ هَذِهِ الآيَةَ وَأَعْجَبَهَا!
فَالْخِطَابُ هُنَا مُوَجَّهٌ لِمَنْ عَبَدُوا اللهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ؛ الذِينَ تَخْشَعُ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لأَمْرِهِ؛ وَيَخْتَارُونَ أَحْسَنَ مَا يُقَالُ حِينَمَا يُخَاطِبُونَ غَيْرَهُمْ، سَوَاءً أَكَانُوا أَعْلَى مِنْهُمْ أَوْ أَدْنَى، فَيخْتَارُونَ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَأْسِرُ القُلُوبَ، وَتُجَمِّعُ الأَفْئِدَةَ، وَيَحْذَرُونَ سَقَطَاتِ الْكَلَامِ، وَعَثَرَاتِ اللِّسَانِ.
إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ اللَّيِّنِ؛ أَلَّا تَقُولَ أَثْنَاءَ الْمُنَاقَشَةِ وَالْمُجَادَلَةِ كَلَامًا قَاسِيًا تَجْرَحُ بِهِ مُنَاقِشَكَ، فَلَا تَحْقِرْهُ، وَلَا تَجْرَحْهُ، وَلَا تُسَفِّهْ رَأْيَهُ، وَلَا تَسْتَعْلِي عَلَيهِ؛ فَالْكَلِمَةُ الْقَاسِيَةُ، وَالْجَافِيَةُ، وَالْجَارِحَةُ؛ قَدْ تَجْعَلُ مُنَاقِشَكَ مِمَّنْ تَأْخُذُهُمْ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ، فَتَزْرَعُ بَيْنَكُمَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَتَجْعَلُ هَذَا الْحِوَارَ مَوْطِنًا يَنْزَغُ فِيهِ الشَّيْطَانُ بَيْنَكُمَا، وَتُنَفِّرُ الْمُسْتَمِعِينَ مِنْكَ، بَلْ وَتَجْعَلُ بَعْضَ أَهْلِ الْحَقِّ يَمِيلُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَاطِلِ بِسَبَبِكَ، وَتَزْرَعُ لَكَ الأَعْدَاءَ، فَقُلِ الْكَلِمَةَ الأَحْسَنَ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ، فِي أَيِّ حِوَارٍ لَكَ مَعَ الآخَرِينَ، سَوَاءَ مَنْ هُمْ دُونَكَ، أَوْ مَنْ هُمْ فَوْقَكَ بِالعِلْمِ أَوِ الْمَكَانَةِ؛ فَمَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ.
فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ، يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ؛ يبحثُ عنِ الكلمةِ الطيبةِ، واللفظةِ اللطيفةِ، التي تُجَمِّعُ وَلَا تُفَرِّقُ، وتُقَرِّبُ ولا تُبْعِدُ، وَتُلَيِّنُ القلوبَ، وفِي الأمرِ بالمعروفِ والنهيِّ عنِ المنكرِ؛ لا ينجحُ مِنْهُمْ إلا اللَّيِّنُ مَعَ النَّاسِ فِي الكَلَامِ، طَلْقُ الْمُحَيَّا، مُبتسمُ الوجْهِ، نَقِيُّ الألفاظِ، فكمْ مِنْ آمِرٍ بِمعروفٍ وَنَاهٍ عَنْ مُنْكَرٍ خَذَلَهُ لِسَانُهُ! وَكَمْ مِنْ عَالِمٍ فِي كَافَّةِ مَجَالَاتِ الْعِلْمِ وَالتَّخَصُّصَاتِ؛ حَرَمَتْ حِدَّتُهُ النَّاسَ مِنْ عِلْمِهِ.
وكَمْ مِنْ شَرِكَةٍ فيهَا خيرٌ عظيمٌ، ومالٌ وفيرٌ، ورزقٌ كثيرٌ؛ فَتَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ كَلِمَةٍ نَابِيَةٍ، قَالَهَا شَرِيكٌ لِشَرِيكِهِ، صَعُبَ بَعْدَهَا اندِمَالُ الْجُرُوحِ فِي ظَنَّهِمْ وَزَعْمِهِمْ!
وَكَمْ مِنْ مَشْرُوعٍ يُرْجَى لَهُ النَّجَاحُ؛ تَرَاجَعَ وَتَقَهْقَرَ وَاِنْدَثَرَ؛ بِسَبَبِ لَفْظَةٍ لَمْ يَحْسِبْ قَائِلُهَا لَهَا حِسابًا! فَالْكَلِمَةُ أَنْتَ مَالِكُهَا قَبْلَ أَنْ تُطْلِقَهَا، وَإِذَا أَطْلَقْتَهَا مَلَكَتْكَ:
احفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الإنسانُ *** لَا يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ *** كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ!
إِنَّ الكلمةَ القاسِيَةَ، والألفَاظَ الجارِحَةَ تُفَتِّتُ الأُسَرَ، واَلأحيَاءَ، والقُرَى، وتُقَطِّعُ أَوَاصِرَ الصَّدَاقَةِ وَالْقَرَابَةِ.
عِبَادَ اللهِ، مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُقَسِّمُ النَّاسَ عِنْدَ الْكَلَامِ إِلَى أَقْسَامٍ، فَيَنْتَقِي أَفْضَلَهُ، إِذَا كَانَ يُخَاطِبُ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، أَوْ مَنْ يَخْشَى شَرَّهُ، أَوْ يَرْجُو خَيْرَهُ، أَمَّا إِذَا خَاطَبَ الأَقَلَّ مِنْهُ مَكَانًا، أَوْ مَنْ لَا يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا، أَوْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ فَيُخَاطِبُهُمْ بِأَسوَأ الْكَلَامِ، وَأَخْشَنِ الأَلْفَاظِ، بَلْ وَيَكُونُ مَعَهُمْ سَلِيطَ اللِّسَانِ، بَذِيءَ الألفَاظِ؛ فَلا يُنَادِيهِمْ إِلَّا بِالأَلْفَاظِ الْحَيَوانِيَّةِ الْمُسْتَكْرَهَةِ، أَوْ بِالعِبَارَاتِ الْقَاهِرَةِ الْجَارِحَةِ الْمُحْرِجَةِ، أَوْ بالأَوْصَافِ الْمُحَطِّمَةِ، الَّتِي يَرْمِيهَا عَلَيْهِمِ كَالْجَمْرِ.
فَلَا يَخَاطِبُهُمْ إِلَّا بِوَصْفِ الْغَبِيِّ، أَوْ بِمُسَمَّيَاتِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ بِمُسَمَّيَاتٍ تَعْفُّ أَلْسِنَةُ الأتْقِيَاءِ عَنْ ذِكْرِهَا، وَبَعْضُهُمْ يُخَاطِبُ زَوْجَتَهُ وَأَبْنَاءَهُ – لِسُلْطَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِخَوْفِهِمْ مِنْهُ- بِالأَلْفَاظِ الْمُحْزِنَةِ الْمُخْزِيَةِ؛ فَيُنَادِي زَوْجَتَهُ بِاسِمِ بَهِيمَةٍ، وَابنَهُ باسمِ بهيمةٍ أُخْرَى، وابنَتَهُ باسمِ بهيمةٍ ثالثةٍ؛ فَلَمْ يُبْقِ حَيَوَانًا إِلَّا وَأَطْلَقَهُ عَلَى أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ؛ حَتَّى كَأَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ فِي مَنْزِلِهِ؛ فَهَذَا حِمَارٌ، وَذَاكَ قِرْدُ، وَتِلْكَ بَقَرَةٌ، وَذَاكَ خِنْزِيرٌ، يَقْهَرُهُمْ، وَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ، وَيُؤْذِيهِمْ بِكَلَامِهِ، شَعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّ هَذَا إِيذَاءٌ، وَتَعْذِيبٌ نَفْسِيٌّ مُؤْلِمٌ.
فَكَمْ مِنْ أَبٍ حَطَّمَ أَوُلَادَهُ، وَدَمَّرَ أُسْرَتَهُ، يَصِفُ هَذَا بِالفَاشِلِ، وَذَاكَ بِالخائِبِ، وَقَدْ صَحَّتِ الآثَارُ بِأنَّ البَلَاءَ مُوكَلٌ بالمنِطِق! كَمْ قَالَ أَبٌ لأَحَدِ أَوْلَادِهِ كَلِمَاتٍ قَاسِيَةٍ جَارِحَةٍ، نَفَّرَتِ الابْنَ مِنْ أَبِيهِ، وَالأَخَ مِنْ أَخِيهِ! فَفَرَّقَتْ شَمْلَ الأُسْرَةِ، كَمْ مِنْ أُمٍّ حَطَّمَتْ ابنَتَهَا، وَدَمَّرَتْ بَيْتَهَا وَبَيْتَ زَوْجِهَا، بِنَقْدٍ لاَذِعٍ، وَحِدَّةٍ باللِّسَانِ مُنَفِّرَةٍ، وَأَلْفَاظٍ قَذِرَةٍ!
وقدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ» رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وكَمْ دَمَّرَتِ الكَلِمَةُ الْقَاسِيَةُ مِنْ بُيُوتٍ! وَفَرَّقَتْ أُسَرًا! وَأَشْعَلَتْ حُرُوبًا! َكْم حَالَاتِ طَلَاقٍ وَقَعَتْ بِسَبَبِ سُوءِ الأَلْفَاظِ، إِمَّا مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الزَّوْجَةِ! وَالْعَجِيبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَلَى سُوءِ أَلْفَاظِهِ مَعَ أَهْلِهِ؛ يَنْتَقِي مَعَ ضُيُوفِهِ، وَمَعَ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَ الأَلْفَاظِ، وَأَرَقَّ الْعِبَارَاتِ.
أَمَّا الْكَلِمَةُ الطَّيبةُ فَبِيْنَ أَنْ يَسْمَعَهَا أَهْلُ بَيْتِهِ وَبَينَهُمْ خَرْطُ الْقَتَادِ، وَمَفَاوِزُ وِبِحَارٌ. فَلِمَاذَا الْقَسِوَةُ أَصْلاً؟ فَهِيَ مَمْجُوجَةٌ مَعَ الْجَمِيعِ، لَا تَلِيقُ أَنْ تَكُونَ لَا مَعَ الْقَرِيبِ، وَلَا مَعَ الْبَعِيدِ، وَلَا مَعَ الصَّغِيرِ، وَلَا مَعَ الْكَبِيرِ. فَكَيْفَ مَعَ الأَهْلِ؟
عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ مَنْ يَظُنُّ عِرْضَ زَوْجِتِهِ وَأَوْلَادِهِ كَلأً مُبَاحًا لَهُ، يَرْتَعُ فِيهِ حَيْثُ شَاءَ، ظَانًّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِسَبَبِهِمْ، أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمِ، أَوْ سَبَّهُمْ؛ سُبْحَانَ اللهِ! مَا هَذَا الْفِقْهُ الْعَجِيبُ؟! أَنَسِيَ أَمْ تَنَاسَى قَوْل َاللهِ تَعَالَى: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)؟ [المجادلة: 6] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. وَهَذَا أَيْضًا يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ بِاتِّجَاهِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَأَهْلِ بَيتِهِنَّ.
عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ أَهْلُ بِيتِهِ أَيَّ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ؛ حَتَّى لَوْ لَقِيَهُمْ بَعْدَ سَفَرٍ؛ فَلَا يُرَحِّبُ لَا بِزَوْجَتِهِ، وَلَا بِبَنَاتِهِ، وَلَا بِأَبْنَائِهِ، وَلَا يُخَاطِبُهُمْ بالأَلْفَاظِ الطَّيِّبَةِ، حَتَّى لَوْ طَالَ زَمَنُ الْفِرَاقِ بَيْنَهُمْ، وكَذَلِكَ يَحْدُثُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ. وَهَذَا – وَرَبي- مِنَ الْحِرْمَانِ الْعَظِيمِ، وَالْخُذْلَانِ الْمُبِينِ، وَمِنْ تَلْبيسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي”، (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
فَلَنَا فِيهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: «مَرْحَبًا بِابْنَتِي» وَقَالَتْ ابْنَةُ عَمِّهِ أُمُّ هَانِئٍ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَوْمَ الْفَتْحِ؛ فَقَالَ: مَنْ؟ فَقُلْتُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ صَاحِبَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالرِّفْقِ الْبَيِّنِ؛ قَدْ أَتَى بِخِصَالِ الإِيمَانِ؛ فَالرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ” (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
بَلْ وَمِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا الرَّفِيقُ،
وَهُوَ الرَّفِيقُ يُحِبُّ أَهْلَ الرِّفْقِ *** يُعْطِيهِمْ بالرِّفْقِ فَوْقَ أَمَانِ
فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرْفُقُ بِعِبَادِهِ، وَيُخَاطِبُهُمْ بِأَحَبِّ الْمُخَاطَبَاتِ إِلَيْهِمْ؛ فَيَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قُلْ يا عِبادِيَ)، وَيَقُولُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَرْفَقِ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ، وَبِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَلِم لَا وَقَدْ قالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ” (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَنْ هُمْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، فَيَرْفُقُ بَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَبِخَدَمِهِ وَبِعُمَّالِهِ، وَبِأَوْلَادِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ بِطُلَّابِهِ، وَالرَّئِيسُ بِمَرْؤُوسِيهِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ بِعُمَّالِهِ؛ فَلَا يَحَمِّلْهُمْ مَا لَا يَطِيقُونُ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الرِّفْقَ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ الأُمُورِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَنْهَجًا لَهُ في الحياةِ. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ)
وقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” (رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
فَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الأَخْلَاقُ، وَهِيَ سَبَبٌ لِلْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومَ القِيَامَةِ قَالَ: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا، قُلْنَا بَلَى يَا رَسُول الله قَالَ: “أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا” (رَوَاهُ أَحْمَدُ وغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
وَقَدْ قِيلَ لِرَجُلٍ: كَيْفَ سُدْتَ قَوْمَكَ؟ قَالَ: بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.
فَاِتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ، قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: قَدْ تَرَبَّيْتُ عَلَى هَذَا الأُسْلُوبِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَخْشَى أَنْ يَتَعَجَّبَ أَهْلِي مِنْ تَغَيُّرِ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَتِي لِخَطَئِي؛ فَأُحْرَجُ حِينَمَا أَتَرَاجَعُ عَنْ مَنْهَجِي الْقَدِيمِ. فَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا: إِنَّ التَّخَلُّصَ مِنَ الْخِصَالِ السَّيِّئَةِ، والتَّحَلِّي بِالصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ، وَالاِعْتِرَافَ بِالْخَطَأِ؛ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِظَامِ الرِّجَالِ، وَكِبَارِ النُّفُوسِ، وَلَوْ كَبُر سِنُّهُمْ وَقَدْرُهُمْ.
أَلَيْسَ الرُّجُوعُ عَنِ الْخَطَأِ خَيْرٌ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ؟ لقَدْ غَيَّرَ أُنَاسٌ عَقَائِدَ فَاسِدَةً تَرَبُّوا عَلَيْهَا سَنَوَاتٍ، حِينَمَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ؛ فَكَيْفَ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ أَخْلَاقٍ أَنْتَ تَعْتَرِفُ -قَبْلَ غَيْرِكَ- بِأَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَلَا تَحِبُّ أَنْ يُعَامِلَكَ أَحَدٌ بِهَا؟ فَلَا تَخْضَعْ للشَّيْطَانِ، وَلَا تَجْعَلْ خَطَأَكَ وَبَاطِلَكَ صَوَابًا، وَلَا تَأْخُذْكَ الْعِزَّةُ بِالإِثْم، (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون: 97- 98].
بَلْ سَتَكُونُ بِتَرَاجُعِكَ عَنِ الْخَطَأِ أُسْوَةً حَسَنَةً لَهُمْ، وَهَذِهِ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201
العنصر الثالث
عِظَمُ شأن الكلمة وجوب حفظ اللسان
أيّها المسلمون: الكلمةُ عنوان المرءِ، تُتَرجِم عن مُستَودعاتِ صَدره، وتبرهِن على مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلِّل على أصله وعقلِه، وتنبئ عن إيمانه أو نفاقه.
قال طلحةُ بن عمرَ التابعيُّ لعطاء بن أبي رباحٍ: إنّك رجلٌ يجتمعُ عندك ناسٌ ذووا أهواء مختلفةٍ، وأنا رجلٌ فيَّ حِدّةٌ، فأقولُ لهم بعضَ القول الغليظ. فقال: لا تفعل؛ فإنّ اللهَ -تعالى- يقول: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا)، قال عطاءٌ: فدخلَ في هذا اليهودُ والنصارى
ها هو نبي الله يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يطلبه الملك بعد أن سمع من النسوة تبرئته: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54]، فلما كلمه، وسمع منطقه، وعلم من كلامه صدقه ونصحه ورجاحة عقله، قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ).
وكما يقال: منطق الرجل أدل عليه من هيئته ولباسه.
وكاين ترى من صامتٍ لك مُعجب *** زيـادته أم نقصـه في التكــلمِ
لســان الفتى نصــفٌ ونصـفٌ فـؤاده *** فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدمِ
وقد قيل: فمُ العاقِل ملجَم، إذا همَّ بالكلام أحجَم، وفَم الجاهِلِ مطلَق، كلّ ما شاء أطلَق.
والعاقِلُ -عباد الله- من لزِم الصمت إلا عن حقٍّ يوضِحه، أو باطلٍ يَدحضه، أو خيرٍ ينشُرُه، أو علمٍ يذكره، أو فضلٍ يشكره، فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت” متفق عليه.
وبِتركِ الفضول تكمُل العقول، والخَرسُ خيرٌ من التفوُّه بالباطل، والبكمُ خيرٌ منَ النّطقِ بالكذِب والزّور، وشرّ الناس مائِلٌ بمقاله مميلٌ بلسانِه مُبطِل بكلامِه، وشرّ الكلام ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- ممّا تنبو عن قبولِه الطِّباع، وتتجافى عن استِماعه الأسماع.
أيّها المسلمون: عثراتُ القولِ طريقُ الندَم، والمنطِق الفاسِد الذي لا نِظام له ولا خِطام عنوانُ الحرمان ودليل الخذلان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب” متفق عليه، وعند الترمذيّ: “إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوِي بها سبعينَ خريفًا في النار”، وعن بلال بن الحارث -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه” أخرجه الترمذي وابن ماجة.
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: “ثكِلتكَ أمّك يا معاذ! وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!” أخرجه الترمذي.
أيّها المسلمون: الكلمة الطيّبة مغنَم، والكلِمة الخبيثة مأثم، وقد ضرَب الله لهما مثلاً وشبَّه لهما شبهًا فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:25-26].
أيُّها الناس: للألفاظِ والكلماتِ دلائلُها ومعانيها التي تحملُ في طيَّاتها الخير فيُجازى عليها الإنسانُ بالإحسان إحسانًا، أو تحملُ في طيَّاتها الشرَّ والفُحْشَ والبذاءَ فيُجازى عليها بالسيئات المضَاعَفَةِ إلى يوم المعاد، وإنَّ لجارحة اللسانِ أعظم الأثرِ في حياةِ المسلمِ دينًا ودنيا، ربطَ اللهُ عليها الفلاحَ، وعلَّقَ عليها السعادةَ أو الشقاوةَ في العاجلِ والآجلِ، ورتَّبَ عليها الجزاءَ والعقابَ.
بكلمةٍ واحدةٍ يدخلُ العبدُ في الدين والملَّة؛ ألا وهي كلمةُ التوحيدِ الخالصِ: “لا إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله”، وبكلمةٍ واحدةٍ يتبوّأُ العبدُ في الجنة غُرفًا من فوقها غُرفٌ مبنيّةٌ تجري من تحتها الأنهار، وبكلمةٍ أُخرى يزلُّ العبدُ في النار أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب! ولَرُبَّ كلمةٍ أوردت صاحبَها المواردَ، فندمَ عليها ولاتَ ساعةَ مندم!.
إِنَّ الكلمات -عباد الله- هي الترجمانُ المعبِّرُ عن مستودعات الضمائر، والكاشفُ عن مكنوناتِ السرائرِ، فإِذا أردت أن تستدل على ما في قلب الإنسان فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنَّها الدليل على ما يكنُّه في قلبه من خير أو شرٍّ، شاء أم أبى، قال الإمام يحيى بن معاذٍ التَّابعيُّ: “القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مصارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلَّم، فإنَّ لسانه يغترف لك مما في قلبه”.
الكلمات التي تنطق بها الألسن، وتتحرك بها الشفاه، لها شأنٌ، وأي شأن! فكم من كلمة أفرحت وأخرى أحزنت، وكم من كلمة فرقت وأخرى جمعت، وكم من كلمة أقامت وغيرها هدمت، وكم من كلمة أضحكت وأخرى أبكت، وكم من كلمة انشرح لها الصدر وأنس بها الفؤاد وأحس بسببها سعة الدنيا وأخرى انقبضت لها النفس واستوحشها القلب وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت عليه الدنيا على رحابتها والأرض على سعتها! وكم من كلمة واست جروحاً وأخرى نكأت وأحدثت حروقاً!.
ولئن كان المسلم ينزه نفسه عن شغل هذا اللسان بالكلمة الباطلة، فإنه يجب عليه -أيضاً- أن ينزه سمعه عن استماع الكلمة الباطلة؛ انطلاقاً من قول الله -جل وعلا-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
وإنَّ من الأمور المقرَّرة المشاهدة في حياة الناس وواقعهم ما ذكره العلاَّمةُ ابنُ القيِّم الجوزيَّة -رحمه الله- من أنَّ الإنسان يهون عليه التحفُّظُ والاحتراز عن كثيرٍ من أفعال الحرام، من الظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه؛ حتَّى إنَّك لترى الرجل يُشار إليه بالدين والعبادة والزهد ونحوها من صفات الخير ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ويتقلَّبُ في المحرمَّات، لا يبالي بما يقول، يتكلَّم بالكلمات من سخط الله -تعالى- لا يلقي لها بالاً، يهوي بالكلمة الواحدة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، والله المستعان.
قال بعضُ السلف: “لا تجدُ شيئًا من البرِّ يتبعُه البرُّ كلُّه غيرَ اللسان؛ فإنَّكَ تجدُ الرجلَ يصومُ النهارَ ويُفطرُ على الحرامِ، ويقومُ الليلَ ويشهدُ الزورَ بالنهار، ولكنَّكَ لا تجدُه لا يتكلَّمَ إلاَّ بحقٍّ فيُخالفُ ذلك عملُه أبدًا”.
ولأجل هذا -أيُّها الناسُ- كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظُ لسانه إلاّ من الخير، وإحسان كلامه، وإطابتُهُ، وحفظُهُ عَنْ قَوْلِ الشَّرِّ.
وإذا أنعم اللهُ -سبحانه وتعالى- على العبد بصدق اللهجة، وطيب الحديث، وجمال المنطق؛ شَرُفَ قدرُهُ، وحُمِدت سيرتُهُ، وحَسُنَت عاقبتُهُ، فملكَ قلوبَ الناس، وأمنوه على أقوالِهم ووصاياهم وأماناتِهم. من صَلحَ منطقُ لسانه وطاب ظهرَ ذلك على سائرِ عملهِ، فأكسبَه حُسْنًا وأجرًا وقبولاً، ومن فسَد منطقُهُ وخَبُثَ انعكس أثرُه على سائر عمله.
الكلامُ هو حصادُ اللسان، ولذا كان لِزَامًا على المرءِ العاقل أن يكون كلامُه فيما يعودُ عليه بالنفع ويُجنّبه الضّررَ، وأن يحترسَ من زَلَلِهِ، وأن يحذرَ من فضولِه بالإمساكِ عن كثيرِه والإقلالِ منه إلاَّ ما كان في طاعة الله -سبحانه- من تهليلٍ وتحميدٍ وذكرٍ وتسبيحٍ ودعاءٍ واستغفارٍ؛ فإنَّ الإكثارَ منه هو النجاةُ.
جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: دُلَّني على عَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ، قَالَ: “أَطْعِمِ الجَائعَ، وَاسْقِ الظَمآنَ، وأمُر بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ” رواه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيّدٍ.
وعند الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّرُ اللِّسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا”.
العنصر الرابع:
آداب الكلام إذ المرء مخبوء تحت لسانه :
لقد ذكر أهل العلم آدابا للكلام، فمن ذلك:
اختيارُ الكلمات والألفاظ التي يتكلَّمُ بها المرءُ من أطايبِ الكَلاَمِ وأنفسِهِ، والبُعْد عن البَذَاءَةِ والفُحْشِ في القولِ والمنطقِ؛ قال -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ولم يقل الحسنى أو الحسن، بل (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
فأحقُّ ما طهَّر الإنسانُ لسانه؛ لأنَّ اللسانَ عنوانُ صاحبِه، يُترجمُ عن مجهوله، ويُبرهنُ عن محصوله، فهو وزيرُه الذي يُستدلُّ به على رجحان عقله وفصاحة لسانه، حتى لقد قال بعضُ السلف: “ما الإنسانُ لولا اللسانُ؟! هل كان إلاّ بهيمةً مهملةً أو صورةً مُمثّلةً؟!”.
وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكن له *** حَصَاةٌ على عَوراتِه لَدليـلُ
وإنَّ عُظَمَاءَ الخلقِ لَهم الذين يَزِنُونَ ألفاظهم، ويتخيَّرون أطايب الكلام وأحسنه في عباراتهم، ويلتزمون في أحوالهم جميعًا أن لاّ تبدُرَ منهم كلمةٌ قبيحةٌ، أو لفظةٌ سائبةٌ مغلوطةٌ أو مكذوبةٌ، فيكونون بها سفهاءَ أو متطاولين على غيرهم؛ لأنَّ الكلمةَ يملكها الإنسان ما لم يتكلَّم بها، فإذا خرجت من فمه ملكته.
وإنَّ من الناس -عباد الله- من يعيشُ صفيقَ الوجِه، شَرِسَ الطبع، مُنْتِنَ الفَمِ، خبيثَ اللسانِ، لا يحجُزُه عن كلامِ السوءِ حاجزٌ، ولا يعرفُ للحُسْنِ سبيلاً، لسانُه مِهْذارٌ، وفمُه ثَرْثَارٌ، تَعوَّدَ على السِّبَابِ والشَّتْمِ واللَّعْنِ والفُحْشِ والبذَاءِ، لا يسلمُ منه قريب ولا بعيد، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ، حتى إنَّ الكلمةَ الحَسَنَة لو صَدرت منه لعُدَّت من الغريبِ النادرِ في حياته.
ولقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِه وَيَدِه” رواه مسلم، وفي الأثر: “ما أُوتيَ رجلٌ شرًّا من فضلٍ في لسانٍ”. قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: استأذنَ رجلٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ هُو!”، فلَّما دخلَ انبسطَ إليه وألاَنَ له القولَ، فلّما خرجَ قلتُ: يا رسولَ الله، حينَ سمعتَ الرجلَ قلتَ كذا وكذا، ثم انطلقتَ في وجهه وانبسطتَ إليه! فقال: “يَا عَائشَةُ، مَتَى عَهِدتِني فَاحِشًا؟! إنَّ مِن شَرِّ الناسِ عِنْدَ اللهِ -تعالى- منزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهَ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ” رواه البخاري.
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة، وحثت على اختيار الطيب من القول، وأمرت بحسن الكلام، ونهت عن الضد من ذلك، فقال الله -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، وقال: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، وقال: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء:148].
والله -جل وتعالى- أنكر على الصحابة قول المنكر من الألفاظ ونهى عنها، ألم تسمع لقول الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [المجادلة:2]، قالوا ألفاظ الظهار، وهي ألفاظ محرمة، لا يليق بمؤمن أن يتلفظ بها مع زوجته، لما فيها من التعدي والتحريم، فقول الرجل لامرأته: “أنت عليّ كظهر أمي”، هذا قول منكر، ولفظ لا يجوز للمؤمن أن يأتي به، ولهذا شرعت له الكفارة.
بل إن الله -عز وجل- لينكر على الصحابة الجهر بالقول والزيادة في الصوت، فضلاً عن اللفظ نفسه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2].
ولهذا؛ فقضية اللفظ والقول، وحُسن تخيّر الكلام وحسن أسلوبه مع من تخاطبه مما جاءت به الشريعة وحضت عليه، تأملوا قول الله -تعالى- عن عيسى -عليه السلام- وعن أمه وقد اتخذهما النصارى إلهين من دون الله فقال: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75]، وما الجديد في أنهما كانا يأكلان الطعام؟ ولكن الله -تعالى وتقدس- يوحي ويذكر من اتخذوهما إلهين بأن عيسى وأمه -عليهما السلام- كانا يأكلان الطعام، ومعلوم ما يتبع أكل الطعام من مغص أو تعب ومن قضاء حاجة وإخراج ونحو ذلك مما ينزه عنه الإله الحق -سبحانه-، فانظروا إلى هذا الأسلوب القرآني العجيب في البعد عن قبيح الألفاظ وسيئها حتى في نفي الألوهية عن عيسى وأمه!.
جاء في كتاب فتح المغيث للسخاوي -رحمه الله- ما نصه: “روينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوما وأنا أقول: فلان كذاب، فقال: يا إبراهيم، اُكس ألفاظك أحسنها! لا تقل: فلان كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء”.
وجاء في كتاب السير أن زبيدة لامت زوجها الرشيد عل حبّه المأمون دون الأمين، فقال لها: الآن أريك عذري، فدعا الرشيد ولده الأمين -وكانت عنده أعواد مساويك- فقال له: ما هذه يا محمد؟ فقال: مساويك! ثم دعا المأمون، وقال له: ما هذه يا عبد الله؟ قال: ضدّ محاسنك يا أمير المؤمنين! فقالت زبيدة: الآن بان لي عذرك. وذلك أنها عرفت أن ما كان عليه المأمون من الذوق الرفيع، وحسن التلفظ، وجمال العبارة، جعل له المنزلة الرفيعة عند الرشيد.
ومما يدخل في هذا نزاهة اللسان عن الفحش والبذاءة وساقط القول، سواء في الكلام أو في تسمية الأشياء بأسمائها وإن كانت حقاً! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء”.
قال الإمام النووي: ومما ينهى عنه ذكر الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وأن كانت صحيحة والمتكلم بها صادقاً، وينبغي أن يستعمل في ذلك الكنايات، وبهذا جاء القرآن والسنن الصحيحة المكرمة، قال -تعالى-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، وقال -تعالى-: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [النساء:21]. قال العلماء: فينبغي أن يستعمل في هذا وأشباهه من العبارات التي يستحيا من ذكرها الكنايات المفهمة، كما كنى الله عن الجماع بالرفث والإفضاء، وكنى عن قضاء الحاجة بالغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، وكنى عن مظنة وقوع الفاحشة أو حدوث ما لا تحمد عقباه بنوم الأبناء بنين وبنات بعد سن العاشرة مع بعضهم بقوله: “وفرقوا بينهم في المضاجع”، من غير تفصيل أو تصريح بما قد يقع، والقرآن والسنة مملوءان بكثير من أمثلة ذلك.
فعلى المسلم أن تكون ألفاظه مضرب المثل في السمو والأدب، وألا يتوهم أنه إذا كان صريحا وصادقا في كلامه فأنه لا بأس عليه أن يلبس عباراته أي ثوب شاء
أن يلزم الإنسان لسانَه الاعتدال في المدح والذمِّ
عباد الله: ومن آدابِ الكلامِ التي يجبُ على العاقل أن يلزم لسانَه الاعتدال في المدح والذمِّ، فلا يتجاوزُ في المدح قدرَه، ولا يُسرف في الذَّمِ عن حدِّه، ولا يذكرُ كلمةً يُرضي بها بشرًا، ويُسخطُ بها ربَّ البشرِ -سبحانه وتعالى-.
أن يُصَّدِّقَ الفعلُ القول:
ومن أعظم آداب الكلام في الإسلام أن يُصَّدِّقَ الفعلُ القول؛ لأنَّ مخالفةَ القولِ للفعل نفاقٌ، واتِّفاقَهما إيمانٌ صادقٌ، واللهُ -عزَّ وجلَّ- يقول لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) سورة الصف:آية 3
يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، قال ابن كثير في تفسيره -رحمه الله تعالى-: يقول الله -تعالى- آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولاً سديداً، أي: مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه. اهـ.
قال العلاّمةُ القرطبيُّ -رحمه الله-: “ينبغي للإنسان أن يكونَ قولُه للناس ليّنًا، ووجهُه منبسطًا مع البَرِّ والفاجرِ، من غير مُدَاهَنةٍ؛ لأنّ الله -تعالى- قال لموسى وهارون: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44]، يعني: لفرعون، فالقائلُ ليس بأفضلَ من موسى وهارون، والفاجرُ ليس بأخبثَ من فرعون، وقد أمرَهما ربُّهما باللين معه”
وقال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: “وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ” رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “عَلىَ كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقةٌ”، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: “فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّق”، قالوا: فإن لم يستطعْ أو لم يفعل؟ قال: “فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوف”، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: “فَلْيَأمُرْ باِلمَعْروفِ”، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: “فَليُمْسِكْ عَن الشَرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ” رواه البخاري.
فالكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تحفظُ المودّة َ، وتستديمُ الصحبةَ، وتمنعُ كيدَ الشيطان أن يُوهِيَ بينَ الأصدقاءِ والإخوان من المسلمين الحبالَ ويفسدَ ذاتَ بينِهم؛ (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) .
بل إنَّ طيبَ الكلام حتى مع الأعداءِ مطلوبٌ؛ لأنَّه سببٌ في إطفاء الخصومة وإخماد الغضبِ؛ مِمَّا يُقرِّبُ القلوبَ ويُذهبُ غيظَ الصدورِ، )وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( [فصلت:34].
ثمرة الكلمة الطيبة:
الكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تغسلُ الضغائنَ المستكنةَ في الجوارح، وتجمعُ الأفئدةَ، وتجلبُ المودّةَ، ولكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوةٌ حسنةٌ؛ فقد قال: “لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَو أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِقٍ” رواه مسلم. قال عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: “البرُّ شيءٌ هيّنٌ؛ وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ ليّنٌ”.
فكلُّ كلمةٍ -أخي المسلم- لا تضرُّ في الدين ولا تُسخطُ الربَّ الكريمَ وتُرضي الجليسَ فلا تبخلْ بها على أخيكَ المسلمِ، يأجُرُكَ الله عليها، وتكون حِجَابًا لكَ من النار. قال -صلى الله عليه وسلم-: “اتَّقوا النارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ” متفقٌ عليه، وعن أبي المقدامِ عن أبيه عن جدّه قال: قلتُ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بشيءٍ يوجبُ الجنةَ، قال: “عَليكَ بِحُسْنِ الكَلاَمِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ” رواه البخاري
ثمَّ اعلموا -يا رعاكم الله- أنَّه كما أنَّ مجالَ الكلمة الطيّبةِ واسعٌ فإنَّ مجالَ الكلمة الخبيثة أوسعُ؛ أعظمُه الإشراكُ بالله -تعالى-، والقولُ على الله بغير علمٍ، وشهادةُ الزورِ، والسحرُ، والقذفُ، والشتمُ والسّبابُ، والغيبةُ والنميمةُ، والكذبُ، والمراءُ والجدالُ بالباطل، وتزكية النفوسِ، والخصوماتُ، والغناءُ المحرّم، والسُّخريةُ والهمزُ والاستهزاءُ بالمسلمين وبدينهم، كلُّ هذه من أُمّهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله، المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.
فاتّقوا اللهَ رحمكم الله، واحفظوا ألسنتَكم، وطهّروها من الخُبْثِ والخبائث، واجعلوها رطبةً بذكر الله -تعالى- وطاعته، واعلموا أنّكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم، ولكن يسعُهم منكم بسطُ الوجه، وكفُّ الأذى، وحسنُ الخُلُقِ، وطيبُ الكلام.
اللَّهُمَّ اِهْدِنَا لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ؛ فَلَا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ. وَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ شَرَّ الْحَاسِدِينَ، وَحِقْدَ الْحَاقِدِينَ! الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.